تفسير الجزء 10 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء العاشر
10
سورة الأنفال (41-75)
سورة التوبة (1-92)

﴿۞وَاعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الۡقُرۡبَىٰ وَالۡيَتَٰمَىٰ وَالۡمَسَٰكِينِ وَابۡنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ الۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ الۡتَقَى الۡجَمۡعَانِۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال:41]


واعلَموا أيُّها المسلِمونَ أنَّ ما أصَبتُموهُ منْ أموالِ الكفّارِ في الحَرب، فإنَّهُ يُقَسَّمُ على خمسةِ أخماس، خُمُسٌ منها للهِ ورسولهِ ولسائرِ مَنْ ذُكِرَ في الآية. وسَهمُ اللهِ ورسولهِ واحِد، وذو القُرْبَى هُمْ أقارِبُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، واليتامَى هُمُ المسلِمونَ الصِّغارُ الذينَ لا أبَ لهم، والمسَاكينُ هُمُ الفُقَراءُ والمُحتاجون، وابنُ السَّبيل: المُسافرُ المُنقَطِع. وسَهمُ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدَ وفاتهِ يوضَعُ في بَيتِ المالِ لمصالحِ المسلِمينَ وما فيهِ قوَّةُ الإسلام.

وأربعةُ الأخماسِ الباقيةُ توَزَّعُ على مَنْ شَهِدَ الحَرب.

فامتَثِلوا أمرَ الله، واقنَعوا بما شَرعَهُ لكمْ منَ الأخماسِ الأربَعةِ في الغنائم، إنْ كنتُمْ تؤمِنونَ باللهِ واليومِ الآخِر، وما أنزَلناهُ على عَبدِنا محمَّدٍ يومَ بَدر، منَ الآياتِ والملائكةِ والنَّصر، وقدْ فرَّقَ اللهُ فيهِ بينَ الحقِّ والباطِل. وهو قادِرٌ على كلِّ شَيء، منها ما شاهدتُموهُ يومَ التقَى جَمْعُ المؤمِنينَ وجَمْعُ المشركين.

﴿إِذۡ أَنتُم بِالۡعُدۡوَةِ الدُّنۡيَا وَهُم بِالۡعُدۡوَةِ الۡقُصۡوَىٰ وَالرَّكۡبُ أَسۡفَلَ مِنكُمۡۚ وَلَوۡ تَوَاعَدتُّمۡ لَاخۡتَلَفۡتُمۡ فِي الۡمِيعَٰدِ وَلَٰكِن لِّيَقۡضِيَ اللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗا لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال:42]


فاذكرُوا ذلكَ اليومَ أيُّها المسلِمون، عندما كنتُمْ نُزولاً بشَفيرِ الوادي الأقرَبِ إلى المدينة، والمشرِكونَ نازلونَ بشَفيرِ الوادي الأقصَى منَ المدينة، وقافِلةُ أبي سُفيانَ وأصحابهِ في مَوضعٍ أسفلَ منكمْ إلى سَاحلِ البحر، ولو تواعدتُمْ أنتُمْ والمشرِكونَ علَى القِتالِ لما تلاقَيتُمْ في ذلكَ الوقتِ ولا مكانِه، فقدْ خرجتُمْ أنتُمْ لإصابةِ القافِلة، وهُمْ خَرجُوا لمنعِكُمْ مِنْ ذلك، وأنتُم في قِلَّةِ عددٍ لا تَوَدُّونَ لقاءَهم، ولكنَّ اللهَ قدَّرَ الميعادَ والحربَ بتَدبيرِه، ليَنْصُرَ المؤمِنين، ويَقْهَرَ أعداءَهم، ويُعِزَّ دينه، ويَرفَعَ كلمةَ الحقِّ على الباطِل، ليَموتَ مَنْ يموتُ عنْ بيِّنةٍ رآها، وعِبْرَةٍ عايَنها، وحُجَّةٍ قامَتْ عليه، ويعيشَ مَنْ يعيشُ عنْ حُجَّةٍ شَاهدَها، ويَصيرَ الأمرُ ظاهِراً، ولا يَبقَى لأحَدٍ حُجَّةٌ ولا شُبهة.

أو لِيَصدُرَ كُفْرُ مَنْ كفرَ وإيمانُ مَنْ آمنَ عنْ وضوحٍ وبيِّنة، فإنَّ وقعةَ بَدرٍ كانتْ منَ الآياتِ الواضِحة، والحُجَجِ الظاهِرَة، لمنْ أرادَ أنْ يَتدبَّرَ ويَعتَبِر.

واللهُ سَميعٌ لتضرُّعِكمْ واستِغاثَتِكم، عليمٌ بنيّاتِكمْ وإخلاصِكم، وأنَّكمْ تستَحِقُّونَ النَّصرَ على أعدائكم.

﴿إِذۡ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي الۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الأنفال:43]


واذكرْ أيُّها النبيُّ إذْ يُرِيْكَ اللهُ المشرِكينَ في مَنامِكَ قَليلاً، لِتُخْبِرَ بهِ أصحابَكَ فيَثْبُتوا ويتَشجَّعوا، ولو أراكَهُمْ في المنامِ كثيراً لجَبُنتُمْ وهِبتُمُ الإقدام، واختَلفتُمْ في الإحجامِ والإقدامِ على الحَرب، وتفرَّقَتْ آراؤكم، ولكنَّ اللهَ سلَّمَكُمْ مِنْ ذلك، وهوَ عليمٌ بما في صُدورِكُمْ وما تُخفيهِ مِنَ الشَّجاعةِ والجَزَع.

﴿وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ الۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ اللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى اللَّهِ تُرۡجَعُ الۡأُمُورُ﴾ [الأنفال:44]


واذكرُوا نِعمةَ اللهِ عليكمْ مَعشرَ المؤمِنين، إذْ يُريكُمْ أعداءَكمُ المُشرِكينَ في عُيونِكمْ قليلاً لتجرُؤوا عليهم وتَطمَعوا في النَّصرِ قَريباً، حتىَّ ظنَّ بَعضُكم أنَّهمْ بينَ السبَّعينَ والمِئة! ويقلِّلُكمْ في أعينِ أعدائكمْ قُبَيْلَ القِتالِ إغراءً لهمْ على قِتالِكم، حتَّى قالَ أبو جَهل: إنَّما أصحابُ محمَّدٍ أكْلَةُ جَزور! وكانَ هذا مَدْعاةً لهمْ ليترُكوا الاستِعدادَ والاستِمداد.

وعندَ الالتحامِ كثَّرَكُمْ في عُيونِ المُشرِكين، لِيَجْبُنوا وتَختَلَّ عزائمُهُمْ في الحَرب. وهذا التَّدبيرُ منَ اللهِ ليُلقيَ الحربَ بينَ الفَريقَين، وليُعليَ الإسلامَ ويُعِزَّ أهلَه، وينتَقِمَ منَ الذينَ كفَروا ويُذِلَّهم. والأمورُ كلُّها تَرْجِعُ إلى الله، فيُصَرِّفُها كيفَما شاء، لا رادَّ لأمرِه.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمۡ فِئَةٗ فَاثۡبُتُواْ وَاذۡكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [الأنفال:45]


أيُّها المؤمِنون، كونُوا شُجعَاناً إذا حارَبتُمْ جَماعةً كافِرة، فاصبِروا واثبُتوا لقِتالِهم، واذكرُوا اللهَ كثيراً أثناءَ القِتال، فاستَعينُوا به، وكبِّرُوه، وادعوهُ ليَنصرَكمْ ويُلقيَ الرُّعبَ في قلوبِ أعدائكم، لِتَفوزوا بالنَّصرِ والثَّواب.

﴿وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَاصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـٰبِرِينَ﴾ [الأنفال:46]


وأطيعوا اللهَ فيما أمرَكمْ به، ونفِّذوا أوامِرَ نبيِّكمْ وقائدِكم، ولا تَختَلِفوا فتَجْبُنوا وتَضْعُفوا أمامَ أعدائكم، ويكونُ ذلكَ سبَباً لتخاذُلِكمْ وفَشَلِكمْ وذهابِ قُوَّتِكم، واصبِروا على هَولِ الحَرب، وكُونوا أشدَّ عَزماً وبأساً مِنْ عدوِّكم، إنَّ اللهَ يُمِدُّ الصَّابرينَ بقوَّةٍ مِنْ عندهِ ويُعينُهمْ على ما همْ فيه.

﴿وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بَطَرٗا وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ﴾ [الأنفال:47]


ولا تكونوا - مَعشرَ المؤمِنين َ- مثلَ المشرِكين، الذينَ خَرَجوا مِنْ مكَّةَ مُفاخَرةً وتكبُّراً، ليُثنيَ عليهمُ الناسُ بالشَّجاعة والكرَم، وهمْ يَمنَعونَ الناسَ منَ الجَهرِ بالحقِّ واعتِناقِ الإسْلام. وكانوا قدْ أبَوا الرُّجوعَ إلى مكَّةَ بعدَ أنْ نَجَتِ القافِلةُ إلاّ أنْ يَشرَبوا الخمرَ على ماءِ بَدر، وتَعْزِفَ عليهمُ القِيان، ويَنحَروا الإبلَ ويُطعِموا مَنْ حَضرَهمْ منَ العَرب، فأبدلَهمُ اللهُ بذلكَ كأسَ المنايا، وناحَتْ عليهمُ النوائحُ بدلَ أنْ تغنِّيَ لهمُ المغنِّيات، ورجَعوا بالخِزي والهزيمةِ ومَقتَلِ الأهلِ والأصحاب، فلا تَتشبَّهوا بهم، وليَكُنْ خروجُكمْ لإعلاءِ كلمةِ الله، ودفعِ الباطِل، وصدِّ العُدوان، واللهُ خبيرٌ بأعمالِ المشرِكينَ وإفسادِهم، مُطَّلِعٌ على ما تُخفيهِ صدورُهمْ منْ كراهيةٍ وعداوةٍ تجاهَ المسلِمين.

﴿وَإِذۡ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الۡيَوۡمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٞ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكُمۡ إِنِّيٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّيٓ أَخَافُ اللَّهَۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الۡعِقَابِ﴾ [الأنفال:48]


واذكرْ أيُّها الرسُولُ للمؤمِنينَ إذْ وَسوَسَ الشَّيطانُ في قُلوبِ المشرِكينَ وكُبَرائهمْ وحسَّنَ لهمْ ما همُّوا به، وشَجَّعهُمْ على الخُروج، وألقَى في رُوعِهم: إنَّهُ لنْ يَغْلِبَكمْ يومَ بَدرٍ أحَد، لكثرةِ عددِكمْ وقوَّتِكمْ في سِلاحِكم، معَ ضَعْفِ عدوِّكمْ وقلَّةِ عَددِهم، وإنِّي مُعينُكمْ وناصِرُكمْ في أمرِكم.

وعندما التَقَتِ الفِئتان، ونظرَ الشَّيطانُ إلى إمدادِ الملائكة، رجعَ هارِباً وهوَ يقولُ لأوليائهِ منَ المشرِكين: إنِّي أتبرّأُ مِنْ مُناصَرَتِكمْ في هذهِ الحَرب، إنِّي أرَى مِنْ إنزالِ الملائكةِ وأُهْبَتِهمْ للحَربِ ما لا تَرَوْنَهُ أنتُم، إنِّي أخافُ أنْ يُهلِكنيَ اللهُ ويُردِيني في المَهالِك، واللهُ شَديدٌ في عِقابهِ ونَكاله.

فخذَلهم، ولم يُوفِ بعَهدهِ معَهم، وترَكهمْ يُلاقونَ مصيرَهمْ وحدَهم.

﴿إِذۡ يَقُولُ الۡمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمۡۗ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾ [الأنفال:49]


واذكرُوا قولَ المنافِقينَ والذينَ لم تَطمَئنَّ قلوبُهمْ بالإيمان، وقدْ قلَّلَ اللهُ عددَ جَيشِ المسلِمينَ في عُيونِ المشرِكين: لقدْ غرَّ المؤمِنينَ دينُهم، واعتِمادُهمْ على نَصرِ الله، وسوفَ يُورِدُهمْ هذا الظنُّ المَهالِك؛ حيثُ جابَهوا قوَّةً أعظمَ منهم.

ومَنْ يُفوِّضْ أمرَهُ إلى اللهِ ويعتَمدْ عليه، فإنَّهُ يلتَجِئُ إلى قويٍّ لا يُغالَب، وعزيزٍ لا يُقْهَر، وحكيمٍ يَنصرُ مَنْ يَستحقُّ النَّصر.

﴿وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَضۡرِبُونَ وُجُوهَهُمۡ وَأَدۡبَٰرَهُمۡ وَذُوقُواْ عَذَابَ الۡحَرِيقِ﴾ [الأنفال:50]


ولو اطَّلعتَ أيُّها النبيُّ على الملائكةِ وهمْ يَقْبِضونَ أرواحَ الكفّارِ لرأيتَ أمراً فَظيعاً هائلاً، إذْ يَضرِبونَ وجوهَهمْ وظهورَهمْ بسِياطٍ مِنْ نار، ويُبَشِّرونَهمْ بعِقابٍ أشدَّ يومَ القيامَة، عَذابِ الحريقِ الذي يُلْهِبُ الجسدَ كلَّه.

﴿ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَأَنَّ اللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّـٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ﴾ [الأنفال:51]


وهذا الجزاءُ الذي وَقَعَ عليكمْ أيُّها الكافِرون، هوَ بسبَبِ ما جَنتْهُ أيديكمْ وكسَبتْهُ قلوبُكم، منَ الكُفرِ والمعاصي ومُحاربةِ المسلِمين، واللهُ لا يعذِّبُ عبيدَهُ مِنْ غَيرِ ذَنْبٍ يَرتَكبونَه، ولا يَزيدُ مِنْ عَذابِهمْ ولو كانوا كفّاراً، بلْ هوَ جزاءُ أعمالِهمُ السيِّئة، واستِكبارِهمْ عنِ اتِّباعِ الحقّ.

﴿كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَالَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيّٞ شَدِيدُ الۡعِقَابِ﴾ [الأنفال:52]


وشأنُ هؤلاءِ الكافِرينَ كشَأنِ قومِ فِرعَون، ومَنْ قبلَهمْ منَ الأممِ المكذِّبين، الذينَ جحَدوا بآياتِ اللهِ وكذَّبوا بمُعجِزاتِ أنبيائه، فعاقبَهمُ اللهُ بسبَبِ ذنوبِهمْ وأهلَكَهم، واللهُ قَويٌّ شديدُ العُقوبةِ إذا عاقَب، لا يَقْدِرُ أحدٌ على أنْ يدفعَ عقوبتَهُ أو يخفِّفَ عنها.

﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمۡ يَكُ مُغَيِّرٗا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ﴾ [الأنفال:53]


وهذا لأنَّ اللهَ لا يرفَعُ نعمتَهُ عنْ قَومٍ حتَّى يُحْدِثوا شرًّا، فيرتَكبوا ذَنْباً أو يَترُكوا شُكراً، فيَبْطِروا ويَظْلِموا، ويَكفُروا ويَقتُلوا. واللهُ سميعٌ لمِا يَقولون، عليمٌ بما يَفعَلون، يُبقي النِّعمةَ عليهمْ أو يَسلُبُها منهمْ بما يَستَحِقُّون.

﴿كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَالَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَۚ وَكُلّٞ كَانُواْ ظَٰلِمِينَ﴾ [الأنفال:54]


كصنيعِ قومِ فِرعَونَ ومَنْ قبلَهمْ منَ الذينَ كذَّبوا بمعجِزاتِ اللهِ التي أيَّدَ بها أنبياءَه، وكذَّبوا بآياتهِ التي أنزلهَا هَدْياً لعِباده، فكانَ جزاؤهمْ أنْ عاقَبناهمْ على ذنوبِهمْ وأهلكناهمْ بها، وكانتْ عاقِبَةُ آلِ فرعونَ معَ كبيرِهمْ أنْ أغرَقناهمْ في البَحر، وكانوا همْ والمكذِّبونَ الآخَرونَ منَ الأقوامِ السَّابقينَ واللاَّحقين، ظلَموا أنفُسَهمْ عندما عرَّضوها للعِقابِ والنَّكال، بسَببِ كفرِهمْ ومَعاصيهم، ولم يقدِّروا نعمةَ اللهِ التي أسبغَها عليهم، مِنْ بساتينَ وزُروعٍ وأموالٍ وأولادٍ وأنعام...

﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأنفال:55]


إنَّ شرَّ مَنْ دَبَّ على وجْهِ الأرض، همُ الذينَ أصَرُّوا على الكُفرِ ورسَخوا فيه، فلا يؤمِنونَ مهما دعوتَهمْ إلى الإسْلام.

﴿الَّذِينَ عَٰهَدتَّ مِنۡهُمۡ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهۡدَهُمۡ فِي كُلِّ مَرَّةٖ وَهُمۡ لَا يَتَّقُونَ﴾ [الأنفال:56]


الذينَ أخذْتَ منهمْ عهدَهمْ بأنْ لا يُساعِدوا المُشرِكين، فنقَضوا العَهدَ ولم يُوْفُوا به، وكانَ هذا دأبَهمْ مرّات، فاستَمرُّوا على الخِيانةِ والغَدْر، لا يَخافونَ اللهَ فيما ارتَكبوهُ مِنَ الآثام.

ذُكِرَ أنَّ المقصودَ يهودُ بني قُرَيظة، حيثُ نَقضوا العهدَ الذي أبرَموهُ معَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وأعانوا المشرِكينَ أكثرَ مِنْ مرَّة...

﴿فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي الۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأنفال:57]


فإذا ظفرتَ بهمْ في الحَرب، فنكِّلْ بهمْ مِنْ ورائهم: غلِّظْ عُقوبتَهمْ وبالِغْ في قَتلِهم، ليتَّعظَ بهمْ مَنْ سِواهُم، ويخافَ أعداؤكَ الآخَرون، فيَذكروا ذلكَ ويَعتَبروا.

﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَانۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الۡخَآئِنِينَ﴾ [الأنفال:58]


وإذا عَلِمْتَ أيُّها النبيُّ مِنْ قَومٍ مُعاهَدينَ نَقْضَ عهدٍ فيما بينَكَ وبينَهم، بما يَلوحُ لكَ مِنْ دَلائل، ويَظهرُ مِنْ إشاراتٍ وحرَكات، فاطرحْ إليهمْ عهدَهم، وأعلِمْهُمْ بذلك، واكشِفْ خيانتَهم لهم، ليَعلموا أنَّكَ قدْ فسَختَ العهدَ الذي بينَكَ وبينهم، وصِرْتَ حَرباً عليهم، ولا تَبدأهمْ بحربٍ قبلَ إعلامِهمْ بذلك، واللهُ لا يُحِبُّ مَنْ يَخونونَ العهودَ ويَنقُضونَ المواثيق.

﴿وَلَا يَحۡسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوٓاْۚ إِنَّهُمۡ لَا يُعۡجِزُونَ﴾ [الأنفال:59]


ولا يَظُنَّنَّ الكافِرونَ الذينَ لم يُقتَلوا في الحَربِ أنَّهمْ أُفْلِتوا بذلكَ فلا سُلطانَ عليهمْ مِنْ بعد، بلْ همْ في قَبضةِ اللهِ لا يَفوتونَه، ولنْ يُعجِزوا اللهَ بشَيءٍ وهمْ عبيدٌ تحتَ قَهْرِ سُلطانِه.

﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ﴾ [الأنفال:60]


وأعِدُّوا لأعْدائكمْ مَهما أمكنَكمْ مِنْ كلِّ ما يُتَقوَّى بهِ في الحَرب، مِنْ سِلاحٍ وغَيرِه.

وقدْ قرأ رَسولُ الله صلى الله عليهم وسلم الآيةَ وقال: " ألاَ إنَّ القوَّةَ الرميُ" (ثلاثَ مرات)، كما رواهُ مسلمٌ وغيرُه. وهذا لكَونِ الرَّمي أقوَى ما يُتَقوَّى به، ولأنَّهُ أشدُّ نِكايةً في العدوّ، فقدْ يُرمَى رأسُ الكتيبةِ فيُصابُ فيَنهزِمُ مَنْ خَلْفَهُ. والمقصودُ الرِّمايةُ بأنواعِ السِّلاح، مِنْ سهمٍ ورَصاصٍ ومِدْفَعٍ وقَذفٍ بالطائراتِ وغيرِ ذلك.

وما استَطعتُمْ منْ رَبطِ الخَيلِ واقتنائها للغَزو، وما يُلائمها في الحروبِ الحديثة، لتُخوِّفوا بهِ أعداءَ اللهِ الذينَ يُخالِفونَ أمرَه، وأعداءَكمُ الذينَ يتربَّصونَ بكم، ولتُرهِبوا بهِ غيرَهُمْ منَ الكفّار، الذينَ لا تعرفونَهم بأعيانِهم، لكنَّ اللهَ يَعلَمُهم.

ومَهما أنفقتُمْ مِنْ أموالٍ في الجِهادِ وغَيرِه، فإنَّ اللهَ يُوفيكمْ جزاءَها كاملاً، في يومٍ أحوجَ ما تكونونَ إليه، ولن تُظْلَموا بنَقصِ الثَّوابِ عليها أبداً.

﴿۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَاجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى اللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ السَّمِيعُ الۡعَلِيمُ﴾ [الأنفال:61]


وإذا مالُوا إلى المُسالَمَةِ والمُصَالحةِ فمِلْ إليها مَعهمْ وصَالِحْهُم، وفَوِّضْ أمرَكَ إلى الله، فإنَّهُ كافيكَ وناصرُكَ إذا طَوَوا في نُفوسِهم كَيداً، فهوَ يَسمَعُ ما يَتهامَسونَ بهِ في مَجالسِهم، ويَعلمُ نيّاتِهم، فيؤاخذُهمْ بما يستَحِقُّونه.

وذكرَ مفسِّرونَ أنَّها مَنسوخةً بقولهِ تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ...} [التوبة: 29] وفي ذلكَ تَفصيل.

﴿وَإِن يُرِيدُوٓاْ أَن يَخۡدَعُوكَ فَإِنَّ حَسۡبَكَ اللَّهُۚ هُوَ الَّذِيٓ أَيَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِالۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأنفال:62]


فإذا كانوا قدْ أرادوا مِنْ وراءِ مسالمتِكَ الغَدْرَ والخِيانة، فإنَّ اللهَ كافيكَ شرَّهم، ومُخَلِّصُكَ مِنْ مَكرِهم، فهوَ الذي أيَّدكَ بالنَّصرِ مِنْ قَبل، وأمدَّكَ بالملائكة، وألقَى الرُّعبَ في قُلوبِ أعدائك، وهو الذي قوَّاكَ بالمؤمِنينَ منَ المهاجرينَ والأنصار.

﴿وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي الۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾ [الأنفال:63]


واللهُ هوَ الذي ألَّفَ بينَ قُلوبِ المسلِمين، على ما كانَ بينهمْ في الجاهليَّةِ مِنْ عداوةٍ وضَغينة قاتِلة، ومِنْ حَميَّةٍ وعَصَبيَّةٍ عَمياء، وخاصَّةً الأوسَ والخزرجَ منَ الأنصار، الذينَ كادتِ الحربُ أنْ تُهلِكهم، فكانتِ الحروبُ بينهمْ لا تَنقَطِع، فجَمعهمُ الإسلامُ وصاروا إخوَةً يَتناصَرونَ في الحقّ، ويَتناصَحونَ على الخَير، ولو أنَّكَ أنفقتَ ما في الأرضِ منْ أموالٍ لتوثِّقَ بَينهمُ المحبَّة، وتؤلِّفَ بينَ قُلوبهم، لمَا استَطَعت، لتَناهي العَداوةِ بينَهم، وتَمَكُّنِ رُوحِ الانتِقامِ فيهم، ولكنَّ اللهَ بلُطفهِ ورَحمَتهِ أوجدَ هذا التآلفَ بينَهم، ووطَّدَ روحَ المحبَّةِ والتآخي بينَهم، وهوَ سُبحانَهُ قَديرٌ على ذلك، عَزيزٌ لا يَصعُبُ عليهِ شَيء، حَكيمٌ، يدبِّرُ الأمورَ على أحسنِ وجه، وأفضَلِ مَقام.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسۡبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأنفال:64]


أيُّها النبيُّ الكريم، حسبُكَ الله، فهوَ كافيكَ في جميعِ أمورِكَ وناصرُك، ومَنِ اتَّبعكَ مِنَ المؤمِنينَ، المهاجِرينَ والأنصار.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى الۡقِتَالِۚ إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفٗا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ﴾ [الأنفال:65]


أيُّها النبيُّ، حُثَّ المؤمِنينَ على القِتالِ ورغِّبهمْ في الجِهاد، إنْ يَكنْ منكمْ عِشرونَ مُقاتِلاً ثابتاً مُحتَسِباً، يَغْلِبوا مِئَتَينِ مِنْ عدوِّهم، وإنْ يَكنْ منكمْ مائةٌ منَ الرِّجالِ الصَّابرينَ في الحَرب، يَغْلِبوا ألفًا مِنَ الكافِرين، وهذا لأنَّ المشرِكينَ جَهَلةٌ لا يُقاتِلونَ احتِساباً وامتِثالاً لأمرِ الله، ولا طَلباً لثَواب، وإنما يُقاتِلونَ للحَميَّةِ الجاهليَّة، واتِّباعاً لخُطواتِ الشَّيطان، فلا يَثْبُتونَ في الحربِ إذا صَدقتُموهمُ القِتال؛ خَشيةَ أن يُقْتَلوا.

وقدْ شقَّ ذلكَ على المسلِمين، حيث طُلِبَ منهمْ أنْ يَثْبُتَ الواحِدُ منهمْ مُقابِلَ عَشَرةٍ مِنَ الكفّار، فنَزَلتِ الآيةُ التاليةُ تخفيفاً عنهم، وهو ثباتُ الواحِدِ أمامَ اثنَين. قالَ ابنُ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: فلمّا خفَّفَ اللهُ تعالَى عنهمْ مِنَ العِدَّة، نَقَصَ منَ الصَّبرِ بقَدْرِ ما خفَّفَ عنهم.

والجمهورُ على أنَّ التاليةَ ناسخةٌ لهذه.

﴿الۡـَٰٔنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمۡ أَلۡفٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفَيۡنِ بِإِذۡنِ اللَّهِۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّـٰبِرِينَ﴾ [الأنفال:66]


الآنَ خفَّفَ اللهُ عنكمُ الحُكمَ السَّابق، وعَلِمَ أنَّ فيكمْ ضَعْفاً في الواحِدِ عنْ قتالِ العَشَرة، وفي المِئَةِ عنْ قتالِ الألف، فإنْ يَكنْ منكمْ مِئَةُ مُقاتلٍ ثابتٍ محتَسِب، يَغلبوا مِئَتينِ مِنَ المُقاتِلَةِ الكفّار، وإنْ يَكنْ منكمْ ألفٌ يَغْلِبوا ألفَين، فالواحِدُ يُقابِلُ اثنَين. فإذا كانَ جيشُ المسلِمينَ نصفَ جيشِ الكافرِينَ غلَبوهم، بإذنِ اللهِ وتأييدِه، واللهُ ينَصرُ ويُعِيْنُ الصَّابرين، فكيفَ لا يَغْلِبونَ عدوَّهم؟

﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ يُثۡخِنَ فِي الۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنۡيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الۡأٓخِرَةَۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾ [الأنفال:67]


ما صحَّ وما استَقامَ لنبيٍّ منَ الأنبياءِ - والمقصودُ هنا نبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم - أنْ يَستَبقيَ أسرَى مِنَ المشرِكين، حتَّى تَضْعُفَ شَوكتُهم، وتَشتدَّ شَوكةُ المسلِمين، فيكونوا همُ الأقوَى الذينَ يُرهِبونَ أعداءَهم.

أتُريدونَ أيُّها المسلِمونَ بقَبولِ الفِداءِ منهمْ بدلَ قَتلِهمْ حُطامَ الدُّنيا، واللهُ يريدُ لكمْ ثوابَ الآخِرَة، وإعزازَ دينِه، وقمعَ أعدائه؟ وهوَ العَزيزُ الذي يَنصرُ أولياءَهُ على أعدائه، حكيمٌ في سَنِّ شرائعِ الحَرب.

والآيةُ في أسرَى بَدر، وقدِ استشارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَهُ فيهم، فمالَ إلى مَنْ يرَى قَبولَ الفِديةِ منهم، دونَ قتلِهم.

﴿لَّوۡلَا كِتَٰبٞ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمۡ فِيمَآ أَخَذۡتُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾ [الأنفال:68]


ولولا حُكمٌ منَ اللهِ في اللَّوحِ المحفوظ، بأنْ لا يعذِّبَ قَوماً قبلَ تَقديمِ ما يبيِّنُ لهمْ أمراً أو نَهياً، لأصابَكمْ فيما أخذتُموهُ منَ الفِداءِ منَ الأسرَى عَذابٌ كَبير.

ذُكِرَ أنَّ أصحابَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم كفُّوا أيديَهُمْ عمّا أخَذوا منَ الفِداء، فنزلتِ الآيةُ التالية، فأخَذوه.

واستقرَّ رأيُ عامَّةِ الفُقهاءِ - مِنْ بعدُ - على أنَّ الإمامَ مخيَّرٌ في الأسرَى، إنْ شاءَ قَتَل، وإنْ شاءَ فادَى، حسَبَ ما تَتطلَّبهُ مصلحةُ المسلِمين، وكانَ مِنْ مَصلَحَةِ المسلِمينَ إذْ ذاكَ أنْ يُقتَلوا، ولكنَّ اللهَ سلَّمَ وعَفا.

﴿فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمۡتُمۡ حَلَٰلٗا طَيِّبٗاۚ وَاتَّقُواْ اللَّهَۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [الأنفال:69]


فكُلُوا ممّا غَنِمتُمْ منَ الأعداء، فديةً أو غَنائم، حلالاً لا إثمَ فيه، طيِّباً لا نَغْصَ فيه. وخافُوا اللهَ ولا تُخالِفوا أوامِرَه، وهوَ الغَفورُ الذي غفرَ ما سَلفَ منكمْ في ذلك، رَحيمٌ بكمْ عندما أباحَ لكمُ الغَنائم، وما أخذتُمْ منَ الفِدية.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيٓ أَيۡدِيكُم مِّنَ الۡأَسۡرَىٰٓ إِن يَعۡلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمۡ خَيۡرٗا يُؤۡتِكُمۡ خَيۡرٗا مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [الأنفال:70]


قُلْ أيُّها النبيُّ لِمَنْ أسرتُموهمْ في غَزوةِ بَدر، ممَّنْ أخذتُمْ منهمُ الفِداء: إذا عَلِمَ اللهُ في قلوبِكمْ إيماناً وتَصديقاً، فسَوفَ يُعطيكمْ خَيراً منَ المالِ الذي فَدَيتُمْ بهِ أنفسَكمْ وأضعافَه، ويَغفِرُ لكمْ ذنوبَكمْ وما كنتُمْ عليهِ مِنْ شِرك، واللهُ كثيرُ المَغفِرَةِ لذُنوبِ عِبادهِ المؤمِنين، رَحيمٌ بهم.

﴿وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدۡ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبۡلُ فَأَمۡكَنَ مِنۡهُمۡۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال:71]


وإنْ يُرِدِ الأسرَى نَقضَ العَهد، مِنْ عدَمِ إعطاءِ الفِدية، أو العَودةِ إلى محاربَتِك، أو مُساعدةِ المشرِكين، فقدْ سَبقَتْ منهمُ الخيانةُ قبلَ بَدر، بالكُفر، فأمكنكَ اللهُ منهمْ ببَدرٍ قَتلاً وأسْراً، فليتوقَّعوا مثلَ ذلكَ إنْ عادوا. واللهُ عليمٌ بخَلقهِ وما يُصلحُهم، حكيمٌ فيما يَشْرَعُه.