﴿كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّثَمُودَ﴾ [هود :68]
وكأنَّهمْ لم يُقيمُوا في تلكَ الدِّيار، ولم يَتمتَّعوا فيها بالمالِ والأولاد. ألَا إنَّ قَبيلةَ ثَمودَ كفَروا بربِّهم، وأبَوا أنْ يُطاوِعوا الحقّ، ألَا بُعْدًا وهَلاكًا لثمودَ الكافِرين.
﴿وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِالۡبُشۡرَىٰ قَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذٖ﴾ [هود :69]
ولقدْ جاءَتْ ملائكتُنا إبراهيمَ تُبشِّرُهُ بإسْحاق، أو بإهلاكِ قَومِ لوط، وهوَ لا يَعرِفُهم، قالوا لهُ مُحَيِّين: سلامًا عَليك، فأجابَهم: سلامٌ عَليكم. وذهبَ سَريعًا ليأتيَهمْ بالطَّعام، ولم يُبطِئ، فجاءَهُمْ بعِجْلٍ مَشْوِيّ.
﴿فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۚ قَالُواْ لَا تَخَفۡ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطٖ﴾ [هود :70]
فلمّا رآهُمْ لا يَمُدُّونَ أيديَهمْ إلى الطَّعامِ - فالملائكةُ لا يأكلونَ - أنكرَ هذا المَوقِفَ منهم، وقدْ قصدَ إكرامَ ضُيوفِه، واستَشعرَ خَوفًا مِنْ جهَتِهم، فقالوا لهُ حينَ رأوا أثرَ ذلكَ عليه: لا تَخَف، فإنَّنا ملائكة، أُرسِلْنا بالعَذابِ إلى قَومِ لُوط.
﴿وَامۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ﴾ [هود :71]
وامرأةُ إبراهيمَ (سارةُ) كانتْ قائمةً بخِدْمَتِهم، فلمّا سَمِعَتْ ذلكَ منهمْ ضَحِكَتْ واستَبشَرتْ بهلاكِ قَومِ لُوط؛ لكثرةِ فَسادِ همْ وكفرِهمْ وعِنادِهم. أو أنَّها ضَحِكتْ لسرورِها بزوالِ الخَوفِ عنْ زَوجِها إبراهيمَ بعدَ أنْ ذَكروا أنَّهمْ ملائكة. ومنهمْ مَنْ قالَ إنَّ معنَى ضَحِكت: حاضَت، كما يأتي في اللَّغة.
فعقَّبْنا سُرورَها بسُرورٍ أتمَّ منهُ على ألسِنةِ رسُلِنا، فبشَّرناها بوَلَدٍ لها يَكونُ لهُ عَقِبٌ ونَسل، ووَهبنا لإبراهيمَ مِنْ بعدِ إسْحاقَ يَعقوب.
﴿قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزٞ وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيبٞ﴾ [هود :72]
قالَتْ سَارة: يا عَجَبًا! أألِدُ وأنا عَجوزٌ كبيرة، وهذا زَوجي كذلك شَيخٌ مُسِنّ؟ إنَّ هذا أمرٌ يَدعو إلى العَجَب، فهوَ مُخالِفٌ للعَادة.
﴿قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ اللَّهِۖ رَحۡمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ الۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ﴾ [هود :73]
قالَ لها الملائكة: أتَعجَبينَ مِنْ قُدرَةِ اللهِ وحِكمَتِه؟ فإنَّ اللهَ قادِرٌ على كُلِّ شَيء، وإذا أرادَ أمرًا قالَ لهُ كُنْ فيَكون. فلا تَعجَبي مِنْ ذلك، رحمَةُ اللهِ المُتَتابِعةُ وخَيراتُهُ المُتكاثِرةُ عليكمْ يا أهلَ بَيتِ النبوَّة، واللهُ مَحمُودٌ في أفعالِه، كريمٌ، كثيرُ الخَيرِ والإحسَان.
﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ الرَّوۡعُ وَجَآءَتۡهُ الۡبُشۡرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ﴾ [هود :74]
فلمّا ذهبَ عنْ إبراهيمَ الخَوفُ والفزَعُ، وبشَّرَهُ الملائكةُ بإسْحاقَ ويَعقوب، وبهلاكِ قَومِ لوط، أخذَ يُجادِلُ رسُلَنا – الملائكةَ - في هؤلاءِ القَومِ الكافِرين، ويَقولُ لهم: إنَّ بينَهمْ مؤمِنين، فكيفَ تُهلِكونَهم؟ وما آمَنَ بهِ سِوَى أهلِه.
﴿إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّـٰهٞ مُّنِيبٞ﴾ [هود :75]
إنَّ نبيَّ اللهِ إبراهيمَ صَبُورٌ مُتأنٍّ، يَتَحمَّلُ أسبابَ الغضَبِ وأذَى النَّاس، ويَصفَحُ عنهم، كثيرُ التضَرُّعِ والدُّعاء، يَؤوبُ إلى ربِّهِ سَريعًا.
﴿يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَآۖ إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمۡ ءَاتِيهِمۡ عَذَابٌ غَيۡرُ مَرۡدُودٖ﴾ [هود :76]
يا رَسولَ اللهِ إبراهيم، أَعرِضْ عَنْ هذا المَقال، ودَعْ عنكَ هذا الجِدال، فقدْ حَقَّ عليهمْ حُكمُ اللهِ بالهَلاك، ونازِلٌ بهمْ بأسٌ لا يُرَدّ، وعَذابٌ لا يُصْرَف.
﴿وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ﴾ [هود :77]
ولمّا أتَتْ ملائكتُنا لُوطًا عليهِ السَّلام، على هَيئةِ شَبابٍ حِسانِ الوُجوه، ساءَهُ أمرُهم، وضاقَتْ نفسُهُ بهم، خَشيَةَ أنْ يَراهُمْ قَومُهُ فيُؤذُوهم، وقال: هذا اليومُ يَومٌ شَديد. قالَ ذلكَ خَوفًا مِنْ شَرٍّ يُنتَظَر.
﴿وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ السَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَـٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ﴾ [هود :78]
وجاءَ قَومُ لُوطٍ إليهِ وهوَ في بَيتِهِ معَ أضيافِهِ مُسرِعين؛ مِنْ فَرَحِهمْ بوجودِ شَبابٍ عندَه، وكانوا أصحابَ سَيِّئاتٍ وفَواحِشَ قَبلَ ذلك، فيَأتونَ الرِّجالِ في أدبارِهم، وهوَ ما لم يَسبِقْهُمْ إلى هذهِ الفاحِشةِ الدنيَّةِ أحَد. فقالَ لهمْ لُوطٌ عليهِ السَّلام: يا قَومي، هؤلاءِ بَناتي فتَزَوَّجُوهُنّ، فإنَّهُنَّ أطهَرُ لكمْ وأنظَفُ مِنْ هذا الفِعلِ الفَاحِشِ الذي تَبغونَهُ وتُمارِسونَه.
وذُكِرَ أنَّ تَزويجَ المؤمِناتِ منَ الكفّارِ كانَ جائزاً مِنْ قَبل.
أو أنَّ القَولَ منهُ لم يَكنْ مَجرِيًّا على الحقِيقةِ مِنْ إرادةِ النِّكاح، بلْ كانَ مُبالَغَةً في التواضُعِ لهمْ ليَستَحيوا منهمْ ويَرِقُّوا لهُ إذا سَمِعوا ذلكَ فيَترُكوا ضُيوفَه.
كما ذهبَ بعضُهمْ إلى أنَّ المقصودَ ببَناتِ النبيِّ نِساءُ قَومِه، فإنَّ النبيَّ للأمَّةِ بمَنزِلةِ الوالِد... فأرشَدَهمْ إلى ما هوَ أنفَعُ لهمْ في الدُّنيا والآخِرَة.
قالَ لهم: فاتَّقوا اللهَ بتَركِ الفَواحِش، ولا تَفضَحوني في شَأنِ ضُيوفي ولا تُخجِلوني أمامَهم، أليسَ بينَكمْ رَجُلٌ فيهِ خَير، ويَهتدي إلى الحقِّ والصَّواب؟
﴿قَالُواْ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنۡ حَقّٖ وَإِنَّكَ لَتَعۡلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ [هود :79]
قالوا لهُ مُعرِضينَ عنْ نَصيحَتِه، مُصرِّينَ على فِعلِ الفاحِشة: أنتَ تَعلَمُ أنْ لا شَأنَ لنا في بَناتِك، وأنتَ تَعلَمُ سببَ مَجيئنا إليك، وإنَّ غرَضَنا أنْ نأتي هؤلاءِ الذُّكور.
﴿قَالَ لَوۡ أَنَّ لِي بِكُمۡ قُوَّةً أَوۡ ءَاوِيٓ إِلَىٰ رُكۡنٖ شَدِيدٖ﴾ [هود :80]
قالَ لوطٌ عليهِ السَّلامُ وقدْ بلغَ بهِ الحُزنُ والغضَبُ مأخَذًا، ويَئِسَ منِ استِجابتِهمْ وإصْلاحِهم: لو كانتْ لي قوَّةٌ ومَنَعةٌ على دَفعِكمْ لنَكَلْتُ بكم، أو كانتْ لي عَشيرةٌ قويَّةٌ لأوَيتُ إليها وتتَرَّستُ بها وانتَصَرتُ بها عليكمْ دِفاعًا عنْ ضُيوفي. ولم تَكنْ لهُ عَشيرةٌ بينَ قَومِه، عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام.
﴿قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ الَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا امۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ الصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ الصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ﴾ [هود :81]
قالتِ الملائكةُ للُوطٍ عليهِ السَّلام: يا لُوط، نحنُ مَلائكةُ الله، أُرسِلْنا إليكَ لنُخبِركَ بإهلاكِ قَومِكَ الكافِرين، فلا تَضجَرْ ولا تَبتَئِسْ مِنْ هؤلاء، ودَعهُمْ فإنَّهمْ لنْ يُلحِقوا بكَ ضَرَرًا، فَسِرْ بأهلِكَ بعدَ مُضيِّ أوَّلِ اللَّيل، ولا يَلتَفِتْ منكمْ أحَدٌ وراءَه، بلِ استَمِرُّوا ذاهِبينَ ولو سَمعتُمْ شِدَّةَ ما يَنزِلُ بقَومِكم، إلاّ امرأتَك، فلا تَسْرِ بها معَ أهلِكَ المؤمِنين، وخَلِّفْها معَ قَومِها، فإنَّ هَواها إليهم، وإنَّهُ مُصيبُها ما أصابَهمْ منَ العَذاب.
وإنَّ مَوعِدَ هَلاكِهمُ الصُّبح، أوَليسَ الصُّبحُ قَريبًا؟
ووَقتُ الصُّبحِ وقتُ راحَةٍ وسُكون، فيَكونُ العَذابُ أنكَى وأشَدَّ وأقْطعَ لهم، وفي ذلكَ عِبرَةٌ للغافِلين، وعِظَةٌ لأهلِ الفَواحِشِ والشاذِّين، وإنَّ عَذابَ اللهِ في الآخِرةِ أشَدُّ وأبقَى.
﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ﴾ [هود :82]
فلمَّا جاءَ عَذابُنا قلَّبنا مُدُنَهمْ على رأسِها، فصاروا كلُّهم تحتَ الأرضِ أنقاضًا، وأرسَلنا عليهمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُتَحَجِّرٍ مُتراكِم، يَتْبَعُ بعضُهُ بَعضًا.
وقدْ أثبتَتْ دِراساتُ عُلومِ الأرض، أنَّ طَبقاتِ الصُّخورِ في مِنطَقةِ جَنوبِ البحرِ الميِّت، وهيَ مكانُ سَكَنِ قومِ لوط، مَقلوبَةٌ رأسًا على عَقِب، كما جاءَ في نَصِّ الآيةِ الكريمة.
﴿مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَۖ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٖ﴾ [هود :83]
وهذهِ الحِجارةُ مُعْلَمَةٌ مُمَيَّزة، لتُصيبَ كُلاًّ باسمِه، وليسَتْ هذهِ النقْمَةُ ببَعيدةٍ مِنَ الظَّالِمين، واللهُ يأتي بها متَى شَاء
﴿۞وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ اعۡبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ وَلَا تَنقُصُواْ الۡمِكۡيَالَ وَالۡمِيزَانَۖ إِنِّيٓ أَرَىٰكُم بِخَيۡرٖ وَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ مُّحِيطٖ﴾ [هود :84]
وأرسَلنا إلى مَديَنَ - أرضٌ بمُعَانَ في الأردُنّ - أخاهُمْ في النسَبِ شُعَيبًا، فقالَ لهم: يا قَومي اعبُدوا اللهَ وحدَه، ولا تُشرِكوا بهِ شَيئاً، فليسَ لكمْ مِنْ إلهٍ خالِقٍ ورَبٍّ رازِقٍ يَستَحِقُّ العِبادةَ غَيرُه.
ولا تُطَفِّفوا في الكَيلِ والوَزنَ عندما تَبيعونَ وتَشتَرون، فإنَّ هذا غِشٌّ وخِيانة، وأكلٌ لأموالِ النَّاسِ بغَيرِ حَقّ، وإنِّي أراكُمْ في سَعَةٍ وغِنًى، ويَنبغي أنْ تُقابَلَ نِعمةُ اللهِ بالشُّكرِ والإنفَاق، لا كما تَفعلون، وإنِّي أخشَى إنِ استَمرَرْتُمْ على ذلكَ هَلاكًا يَحصُدُكمْ جَميعًا.
﴿وَيَٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ الۡمِكۡيَالَ وَالۡمِيزَانَ بِالۡقِسۡطِۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ النَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي الۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ﴾ [هود :85]
ويا قَومي أتِمُّوا المِكيالَ والميزانَ بالعَدلِ والقِسطِ بيَعاً وشِراءً، حتَّى لا يُظْلَمَ أحَد، ولا تَنقُصُوا النَّاسَ حَقَّهمْ في أيِّ شَيء، ولا تَكونوا ممَّنْ يُفسِدونَ في الأرضِ فيَظلِمونَ النَّاس، ويُهلِكونَ الحَرْثَ والنَّسْل.
﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ﴾ [هود :86]
وما أبقَاهُ اللهُ لكمْ مِنْ رِزقٍ حَلالٍ في بَيعِكم، خَيرٌ لكمْ ممّا يَعودُ إليكمْ بالغِشِّ والخِيانَة، إذا كنتُمْ مُؤمِنينَ بالله، مُصَدِّقينَ بي، ولستُ عَليكمْ برَقيب، ولا أحفَظُكمْ مِنْ فعلِ الحَرام، وإنَّما أنا رَسولٌ مُبَلِّغ، وأخٌ ناصِح.
﴿قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِيٓ أَمۡوَٰلِنَا مَا نَشَـٰٓؤُاْۖ إِنَّكَ لَأَنتَ الۡحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هود :87]
قالوا في تَهَكُّم: يا شُعَيب، أعِبادَتُكَ تأمرُكَ أنْ ندَعَ ما يَعبدُ آباؤنا وأجدادُنا مِنَ الأصْنام، وأنْ نَترُكَ ما نَفعَلُهُ بأموالِنا ما نَشاءُ مِنْ غِشٍّ وتَطفِيف؟ أنتَ العاقِلُ المهّذَّب، الحَكيمُ المُعتَبَر! قالوا ذلكَ استِهزاءً بهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام.
﴿قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا الۡإِصۡلَٰحَ مَا اسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِاللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ﴾ [هود :88]
قالَ لهمْ شُعَيب: يا قومي، أرأيتُمْ إنْ كنتُ على دَليلٍ وحُجَّةٍ واضِحةٍ ممّا أوحَى إليَّ ربِّي، ومَنَّ عليَّ بفَضلِهِ فجَعلَني نَبيًّا، وأرسَلني إليكمْ لأنصَحَكمْ وأُنذِرَكمْ لِما فيهِ خَيرُكم، ولا أريدُ أنْ أفعلَ شَيئاً أنهاكُمْ عنه، فأنا مُستَقيمٌ على طاعةِ ربِّي، وطلَبِ الحلالِ بدونِ ظُلمِ أحَد، ولا أريدُ مِنْ وراءِ تَبليغِكمْ وإرشادِكمْ سِوَى إصْلاحِ نفُوسِكمْ وأحوالِكم، على قَدْرِ جُهدي وطاقَتي، وما تَوفيقي في الإصابةِ والإصلاحِ إلاّ بتأييدِ اللهِ ومَعونَتِه، عَليهِ اعتَمدتُ في جَميعِ أمُوري، وإليهِ أرجِعُ وأتوب، فلا تَيسيرَ ولا فَرَجَ إلاّ منه، ولا تأييدَ ولا تَوفيقَ إلاّ به.
﴿وَيَٰقَوۡمِ لَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شِقَاقِيٓ أَن يُصِيبَكُم مِّثۡلُ مَآ أَصَابَ قَوۡمَ نُوحٍ أَوۡ قَوۡمَ هُودٍ أَوۡ قَوۡمَ صَٰلِحٖۚ وَمَا قَوۡمُ لُوطٖ مِّنكُم بِبَعِيدٖ﴾ [هود :89]
ويا قَومي لا يَحمِلنَّكمُ الخِلافُ مَعي ومُعاداتي على الإصْرارِ على ما أنتُمْ عليهِ منَ الشِّركِ والفسَاد، حتَّى لا يُصيبَكمْ مثلُ ما أصابَ قَومَ نُوحٍ منَ الغَرَق، أو قومَ هُودٍ منَ الرِّيح، أو قَومَ صالِحٍ منَ الصَّيحة، وما زمانُ قَومِ لُوطٍ وخَبَرُ هلاكِهمْ منكمْ ببَعيد، فاعتَبِروا.
﴿وَاسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٞ وَدُودٞ﴾ [هود :90]
واطلُبوا المَغفِرةَ مِنْ ربِّكم، وأقلِعوا عمَّا أنتُمْ عليهِ ولا تَعودوا إليه، إنَّ ربِّي عَظيمُ الرَّحمةِ لمَنْ تابَ وأناب، كثيرُ الوُدِّ والمحَبَّةِ للمُؤمِنين.
﴿قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفٗاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَٰكَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡنَا بِعَزِيزٖ﴾ [هود :91]
قالَ لهُ قَومُهُ المشرِكونَ المفسِدون: يا شُعَيبُ لا نَفهَمُ ولا نَعقِلُ كثيرًا مِنْ قَولِك، ونحنُ نَراكَ فيما بينَنا ضَعيفًا، لا تَقدِرُ على أنْ تُلحِقَ الضَّرَرَ بأحَدٍ منّا، ولولا تَقديرُنا لعَشيرَتِكَ لقَتلناكَ شَرَّ قِتْلَة، وما أنتَ عندنا ذا قِيمةٍ واحتِرام.
﴿قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَهۡطِيٓ أَعَزُّ عَلَيۡكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذۡتُمُوهُ وَرَآءَكُمۡ ظِهۡرِيًّاۖ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ﴾ [هود :92]
قالَ لهمْ نبيُّهمْ شُعَيبٌ عليهِ السَّلام، وكانَ خَطيبًا بَليغًا: يا قَومي، أعَشيرتِي أكرمُ عِندَكمْ منَ اللهِ خالِقِكمْ ورازِقِكم، وأكثَرُ رَهبةً وتَقديرًا في قُلوبِكمْ منه، وقدْ نَبَذتُمْ أمرَهُ وراءَكمْ بدونِ أيِّ حِسابٍ لرسالتِهِ العَظيمة؟! لكنَّهُ يَعلَمُ بجَميعِ أعمالِكمُ السيِّئة، وسوفَ يُحاسِبُكمْ عَليها.
﴿وَيَٰقَوۡمِ اعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَٰمِلٞۖ سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن يَأۡتِيهِ عَذَابٞ يُخۡزِيهِ وَمَنۡ هُوَ كَٰذِبٞۖ وَارۡتَقِبُوٓاْ إِنِّي مَعَكُمۡ رَقِيبٞ﴾ [هود :93]
ويا قَومي اعمَلوا على طَريقَتِكمْ ما تُريدون، واثبُتوا على ما أنتُمْ عليهِ منَ الكُفرِ والتَّكذيب، وأنا عامِلٌ على طَريقَتي ومِنهَجي، وسَوفَ تَعلمونَ مَنِ الجاني على نَفسِهِ الخارِجُ على الحَقّ، فيَحِلَّ عليهِ عَذابٌ يُذِلُّه، ومَنِ الكاذِبُ في دَعواه: أنا أمْ أنتُم، وانتَظِروا حُلولَ العَذابِ الذي أنذَرْتُكمْ به، إنِّي مُنتَظِرٌ مَعَكمْ ذلك.
﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا شُعَيۡبٗا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ﴾ [هود :94]
ولمَّا جاءَ أمرُنا بهلاكِ القَومِ الكافِرين، أنجَينا النبيَّ شُعَيبًا والمؤمِنينَ مَعَهُ برحمَةٍ منّا، فقدْ هَدَيناهُمْ للإيمان، والتَّوفيقِ للطَّاعَةِ والأعْمالِ الصَّالِحَة، وأخَذَتْ أولئكَ الظَّالمينَ الصيحَةُ القويَّة، المُدَوِّيةُ المُرْعِبة، فصَاروا جَميعًا جُثَثاً، هامِدين، لا حِراكَ بهم.
﴿كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّمَدۡيَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُودُ﴾ [هود :95]
وكأنَّهمْ لم يُقيمُوا في هذهِ الدِّيارِ قَبلَ ذلك، وكأنَّهمْ لم يَكونوا ذَوي أهلٍ وأمْوال، وحرَكةٍ وعُمْران! ألا بُعدًا وهلاكًا لمَدْيَنَ كما هَلَكَتْ ثَمود. وطُويَتْ صَفحَةٌ أخرَى منْ صَفَحاتِ الظُّلمِ والكُفر، وحقَّ عليهمُ اللَّعنُ والعَذاب.
﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَا وَسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٍ﴾ [هود :96]
ولقدْ أرسَلنا موسَى بنَ عِمرانَ وأيَّدناهُ بحُجَجٍ واضِحة، وبراهينَ كافية، ومُعجِزاتٍ عَظيمة، تَدلُّ على صِدقِ نبوَّتِه، وصِحَّةِ رِسالتِه.
﴿إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦ فَاتَّبَعُوٓاْ أَمۡرَ فِرۡعَوۡنَۖ وَمَآ أَمۡرُ فِرۡعَوۡنَ بِرَشِيدٖ﴾ [هود :97]
أرسَلناهُ إلى فِرعَونَ مَلِكِ مِصرَ وطاغِيَتِها الكبير، الذي ادَّعَى أنَّهُ الربُّ الأعلَى، وإلى قَومِهِ الذينَ تَقبَّلوا منهُ ذلك، فاتَّبَعوا أمرَهُ ونَهيَه، ولم يَكنْ ذا نَهجٍ رَشيد، ولا حِكمةٍ واستِقامَة، بلْ كانَ ضَالاًّ مُستَكبِرًا، وجاهِلاً مُفسِدًا، مُحارِبًا لدِينِ الله، كافِراً برسَالةِ نبيِّه.
﴿يَقۡدُمُ قَوۡمَهُۥ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ فَأَوۡرَدَهُمُ النَّارَۖ وَبِئۡسَ الۡوِرۡدُ الۡمَوۡرُودُ﴾ [هود :98]
يَتقدَّمُ قَومَهُ يومَ القِيامةِ كما تقدَّمَهمْ في الدُّنيا، فيَتْبَعونَهُ يومَ القيامةِ كما تَبِعوهُ في الدُّنيا، ولكنَّهُ في هذا الموقِفِ يُورِدُهمُ النَّارَ المؤَجَّجة، جزاءَ كُفرِهمْ واستِكبارِهمْ عنِ اتِّباعِ الحَقّ، وبئسَ المكانُ الذي يَقصِدونَهُ ويَدخُلونَه، وهوَ النَّارُ التي تطَّلِعُ على أفئدَتِهم.