تفسير سورة هود

  1. سور القرآن الكريم
  2. هود
11

﴿الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود:1]


الحروفُ المقَطَّعةُ لم يَرِدْ في مَعناها حديثٌ ثابِتٌ صَحيح.

القرآنُ الكريم، كتابُ اللهِ العَظيمُ الشَّأن، الذي أُحكِمَ بِناؤه، ودَقَّ لَفظُه، وأُحسِنَ نَظمُه، لا اختلافَ فيهِ ولا تَناقُض، ولا تَضارُبَ فيهِ ولا تَباعُد. ثمَّ فُصِّلَتْ آياتُه، وجُعِلَتْ مَوضوعاتُها في أمُورِ الناسِ وما يُهِمُّهمْ في دُنياهُمْ وآخِرَتِهم، فاشتملَتْ على العَقيدة، والأحكام، والقَصَص، والأخلاق، وما يَتفرَّعُ منها. فهوَ كلامٌ مُتقَنٌ حَكيم، نزلَ مِنْ عندِ الله، الحَكيمِ في أقوالِهِ وقَضائه، الخبيرِ بالأمُورِ وعواقِبِها، العالِمِ بما يُصلِحُ بهِ شُؤونَ عِبادِه.

﴿أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا اللَّهَۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ﴾ [هود:2]


وقدْ أنزلَ اللهُ كتابَه، وأحكمَ آياتِه، وبيَّنها لكم، لئلاّ تعبُدوا إلا إيّاه، ولِتَعرِفوا كيفَ تُخلِصونَ العِبادةَ له، فهي وظيفتُكمُ الأساسيَّةُ في الحياة.

وقُلْ للنَّاسِ أيُّها النبيّ: إنَّني مُرسَلٌ إليكمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ تعالَى، أُنذِرُكمْ عذابًا إذا أعرضتُمْ عنْ طاعتِه، وأًبَشِّركمْ ثوابًا إذا آمنتُم وأطَعتُم.

﴿وَأَنِ اسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ فَضۡلَهُۥۖ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ كَبِيرٍ﴾ [هود:3]


واطلُبوا المَغفِرةَ منَ اللهِ لذُنوبِكم، وتوبُوا إليهِ منها، ولا تَعودوا إليها، ليَمنحَكمْ حياةً طيِّبة، فيها أمنٌ وعافِية، وسَكَنٌ ورَاحَة، حتَّى يأتيَ أجَلُكمُ المُقدَّرُ لكم، ولِيُعطيَ كلَّ ذي فَضلٍ وحسَنةٍ في الدُّنيا جَزاءَ فَضلِهِ وإحسانِهِ في الآخِرَة. فإذا أعرَضوا عنْ أمرِ الله، وأصَرُّوا على تَكذيبِ رَسولِ اللهِ ورسَالتِه، فقُلْ لهم: إنِّي أخافُ أنْ يَنالَكمْ يَومَ القِيامةِ عَذابٌ شَديدٌ لا مَفَرَّ لكمْ منه، ولا ناصِرَ لكمْ يَومَئذٍ يُخَلِّصُكمْ منه.

﴿إِلَى اللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ [هود:4]


وسَوفَ تَموتون، ثمَّ يُحييكمُ الله، لتُرجَعوا إليهِ أخيرًا، فيُجازيكمْ على أعمالِكمْ يومَ البَعث، ويُخبِرُكمْ بمصيرِكمُ الذي هوَ نتيجةُ أعمالِكم، وهوَ القادِرُ على كلِّ شَيء، على خَلقِكم، وإماتَتِكم، وبَعثِكم، ثمَّ مُحاسبتِكم، وما يَترتَّبُ عليها.

﴿أَلَآ إِنَّهُمۡ يَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِيَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ أَلَا حِينَ يَسۡتَغۡشُونَ ثِيَابَهُمۡ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [هود:5]


إنَّ المُشرِكينَ إذا رأوْكَ تَقرأ كتابَ الله، أَثْنَوا صُدورَهمْ وأحنَوا رُؤوسَهمْ حتَّى يَتهرَّبوا مِنْ سَماعِه، تَخَفِّيًا مِنَ الله! ولِما يَعتَرِيهمْ مِنْ قَلقٍ وحَيرَة، وكأنَّهم يُحِسُّونَ في دَاخلِهمْ أنَّ هذا كلامُ الله، ويَخشَونَ إنِ استَمَرُّوا على سَماعهِ أنْ يُسلِموا! ألا فليَعلَمْ هؤلاءِ الغافِلون، أنَّهمْ إذا مضَوا إلى فُرُشِهمْ لينامُوا، وتغَطَّوا بأستارِهم، وتَفكَّروا بما يَجري لهمْ في أعماقِهم، فإنَّ اللهَ ناظِرٌ إليهم، عالِمٌ بما يُخفُونَ، وسِرُّهمْ عندَهُ كظاهرِهِم، وهوَ سُبحانَهُ عليمٌ بما تُخفيهِ الصُّدور، لا يَخفَى عليهِ شَيء.

﴿۞وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي الۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلّٞ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ﴾ [هود:6]


وليسَتْ هُناكَ دابَّةٌ في الأرض، مِنْ إنسان، وحَيَوان، وطَير، وسَمَك، وحَشَرة... إلاّ وقدْ تَكفَّلَ اللهُ برِزقِها، فقدْ أودعَ في السَّماءِ والأرضِ أرزاقًا مَذخورةً تَكفيها كلَّها، وجعلَ في هذهِ الدوابِّ إمكاناتٍ لتَحصيلِها.

وعِلمُهُ مُحيطٌ بها جَميعًا، يَعلَمُ أينَ تَذهَبُ وأينَ تَجيءُ وأينَ تَقِفُ في سَيرِها، ويَعلَمُ أينَ تَبيتُ وتأوي، معَ كثرَتِها وتَنوُّعِها، وكلُّ ذلكَ مكتوبٌ ومُثْبَتٌ في اللَّوحِ المحفوظِ قبلَ خَلقِها: وجودُها، وتحرُّكُها، ورِزقُها...

﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى الۡمَآءِ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۗ وَلَئِن قُلۡتَ إِنَّكُم مَّبۡعُوثُونَ مِنۢ بَعۡدِ الۡمَوۡتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ﴾ [هود:7]


وهوَ الخالِقُ المُبدِع، الذي خَلقَ السَّماواتِ والأرضَ في سِتَّةِ أيَّام، وكانَ عَرْشُهُ على الماء، وأودعَ فيهما ما تَحتاجونَ إليه، وما تَستَدِلُّونَ بهِ على الخَالِق، وأودعَ فيكمُ الاستِعداداتِ والطَّاقاتِ المادِّيةَ والمعنويَّةَ الملائمةَ لِما سَخَّرَهُ لكمْ فيهما، ليَختَبِرَكمْ، ويَنظُرَ في مواقِفِكمْ وأعمالِكم، في الذي تَستَخدِمونَهُ وتَتعامَلونَ به، فيما يَنفَعُ أو فيما يَضُرّ، وهلْ تتَّبِعونَ الحقَّ الذي بيَّنَهُ لكمْ ربُّكم بواسِطَةِ رسُلِه، أمْ تَضِلُّونَ وتَكفُرون؟

ولئنْ قُلتَ لهؤلاءِ المشرِكين: إنَّكمْ ستُبعَثونَ بعدَ مماتِكمْ ليُحاسِبَكمُ اللهُ على أعمالِكم، استَهزَؤوا بكلامِك، وقالوا مُنكِرينَ ذلكَ مُستَبعِدين: إنَّ ما تَقولُهُ خَديعَةٌ وبُطلان، لا واقِعَ لهُ ولا أسَاس.

﴿وَلَئِنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ الۡعَذَابَ إِلَىٰٓ أُمَّةٖ مَّعۡدُودَةٖ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحۡبِسُهُۥٓۗ أَلَا يَوۡمَ يَأۡتِيهِمۡ لَيۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [هود:8]


وإذا أخَّرنا عنهمُ العَذابَ الدُّنيويَّ إلى أجَلٍ مَعدود، لحِكمةٍ يَعلمُها الله، قالوا في جَهلٍ وحُمْق: أيُّ شَيءٍ يَحبِسُ العَذاب، وما الذي يَمنَعُ مَجيئَه؟ يَعنونَ أنَّهُ ليسَ بشَيء.

وإنَّ اليومَ الذي يأتيهمْ - وفيهِ العَذابُ - لا يُرفَعُ عَنهم، ولا يَستَطيعُ أحَدٌ أنْ يَدفَعَهُ عنهم، بلْ سيُحيطُ بهمْ جزاءَ استهزائهمْ وكُفرِهم.

وكانَ في تأخيرِ العَذابِ عنهمْ رحمةٌ منَ اللهِ بهم، فقدْ أسلَموا منْ بعد، ونَفَعَ اللهُ بهم، وفتَحَ بهمْ فُتوحَات...

﴿وَلَئِنۡ أَذَقۡنَا الۡإِنسَٰنَ مِنَّا رَحۡمَةٗ ثُمَّ نَزَعۡنَٰهَا مِنۡهُ إِنَّهُۥ لَيَـُٔوسٞ كَفُورٞ﴾ [هود:9]


وإذا أنعَمنا على الإنسَانِ نِعمَة، مِنْ غِنىً وصِحَّةٍ وأمن، وذاقَ لذَّتَها، واستَمتعَ بها، ثمَّ سَلبناها منه، وجدتَهُ مَهمومًا مَغمومًا على ما أصابَه، يائسًا منْ رُجوعِ رحمةِ اللهِ إليه، جاحِداً بتلكَ النِّعمَة.

﴿وَلَئِنۡ أَذَقۡنَٰهُ نَعۡمَآءَ بَعۡدَ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّـَٔاتُ عَنِّيٓۚ إِنَّهُۥ لَفَرِحٞ فَخُورٌ﴾ [هود:10]


وإذا أعطَيناهُ نِعمةً منْ عندِنا بعدَ شِدَّةٍ وبَلاءٍ أصابَه، قال: زالتِ الشَّدائدُ عنِّي، فهوَ بذلكَ فَرِحٌ فَخور، مُغتَرٌّ مُتَعاظِمٌ على النَّاس، لا يَحسُبُ لزوالِها حِسابًا. وذاكَ دأبُ الكافِرينَ وضَعِيفي الإيمان.

﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٞ كَبِيرٞ﴾ [هود:11]


أمّا المؤمِنونَ الصَّابِرون، الذينَ أتْبَعوا إيمانَهمْ بالعمَلِ الصالِحِ الموافِقِ للدِّين، وأخلَصوا للهِ فيه، فإنَّهمْ إذا أصابَتْهُمْ شِدَّةٌ صَبَروا حتَّى يأتيَ اللهُ بالفرَج، وإذا أنعمَ عليهمْ بالخَيرِ والعَافيةِ شَكروا ولم يَبْطَروا، ولم يَنسَوا حُقوقَ الناس، فأولئكَ الذينَ يَغفِرُ اللهُ ذُنوبَهم، ويُثيبُهمْ على أعمالِهمُ الحسَنةِ ثوابًا عَظيمًا؛ جَزاءَ صَبرِهمْ على الشَّدائد، وشُكرِهمْ على النِّعَم.

﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكُۢ بَعۡضَ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ وَضَآئِقُۢ بِهِۦ صَدۡرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ كَنزٌ أَوۡ جَآءَ مَعَهُۥ مَلَكٌۚ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٞۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٌ﴾ [هود:12]


فلعلَّكَ تَترُكُ أيُّها الرسُولُ تَبليغَ بعضِ ما أوحَى اللهُ إليكَ مِنَ القُرآن، ويَضيقُ صَدرُكَ بكلِماتِ الكافِرينَ التي تُنْبِئُ عنُ مواقِفُهمُ السيِّئةِ منه.

و"لعلَّ" هنا ليسَ استفهامًا خالِصًا، بلِ المُرادُ منهُ الزَّجْر. وكانَ الكافِرونَ يَستَهزِؤونَ بالقُرآن، فيَضيقُ صَدرُ الرسُولِ صلى اللهُ عليه وسلم أنْ يُسمِعَهُمْ ما لا يَقبَلونَهُ ويَضحَكونَ منه، فأثارَتِ الآيةُ عزيمتَهُ لئلاّ يَنالَ منها ذلك.

وقالَ الكافِرون: هلاّ نزلَ على هذا الرسُولِ مالٌ كَثير، أو جاءَ معَهُ مَلَكٌ يُصَدِّقهُ حتَّى نُصَدِّقَه؟

فلا يَضِقْ صَدرُكَ بهذا وبغَيرِهِ منْ كلامِهمْ ومُقتَرَحاتِهمُ التي يَقولونَها تَعجيزًا واستِهزاء، لا طَلَباً للإيمان، فلستَ موَكَّلاً بهمْ وبإيمانِهم، إنَّما أنتَ مُبَلِّغ، واللهُ هوَ القائمُ بكلِّ شَيء، الحافِظُ له، يَعلَمُ مَنْ يَستَحِقُّ الهِدايةَ فيَهديه، ومَنْ يَستَحِقُّ الضَّلالةَ فيُبقِيهِ عليها.

﴿أَمۡ يَقُولُونَ افۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَيَٰتٖ وَادۡعُواْ مَنِ اسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [هود:13]


أمْ يَقولُ المشرِكونَ إنَّ محمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) اختلقَ القُرآنَ مِنْ عندِهِ وليسَ هوَ وحيًا منْ عندِ الله؟ قلْ لهمْ أيُّها الرسُول: إذا كانَ الأمرُ كما تَقولون، فَأْتوا بعَشرِ سُوَرٍ مِنْ مِثْلِ القرآن، مُفتَعلاتٍ مُختلِفات، تكونُ في بلاغتِهِ وحُسْنِ نَظْمِهِ ودِقَّةِ مَعناه، فأنتُمْ بَشَرٌ مِثلي، وكَلِماتُ اللُّغةِ مُشَاعَةٌ لي ولكم، واستَعينوا بمَنْ شِئتُمْ مِنْ فُصَحائكمْ وبُلَغائكمْ وكُهَّانِكمْ منَ الإنسِ والجِنِّ ليُساعِدوكمْ في الإتيانِ بمِثْلِه، إنْ كنتُمْ صَادِقينَ في أنَّني قُمتُ بتأليفِ القرآنِ مِنْ عِندي.

﴿فَإِلَّمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَكُمۡ فَاعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلۡمِ اللَّهِ وَأَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ [هود:14]


فإذا لم يَستَجِبْ لكمُ المشرِكونَ المعانِدونَ المستَكبِرون، فلمْ يأتوا بمثْلِ هذا القُرآنِ أو عَشرِ آياتٍ مِنْ مثلِه، فاعلَموا جَميعًا أنَّ القُرآنَ كلامُ الله، أنزَلَهَ على رسُولِهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فهوَ كلامٌ مُعجِزٌ لا يَقدِرُ أحَدٌ على أنْ يأتيَ بمِثلِهِ حتَّى آخِرِ الدَّهر. واعلَموا أنَّ اللهَ واحِدٌ لا شَريكَ له، وآلِهتُكمْ أيُّها المشرِكونَ لا شِرْكَةَ لها بالله، ولو كانَ لها شَيءٌ منْ ذلكَ لساعَدَتْكمْ فيما تُعانِدونَ بهِ الرسُول، فهلْ أنتُمْ داخِلونَ في الإسْلامِ بعدَ عَجزِكمْ عنْ هذا التحدِّي المُبِين؟

﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الۡحَيَوٰةَ الدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيۡهِمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فِيهَا وَهُمۡ فِيهَا لَا يُبۡخَسُونَ﴾ [هود:15]


مَنْ أرادَ بأعمالِهِ المَنفَعةَ في الدُّنيا وحُسنَ الإقامةِ بها، وفَّيناهُمْ أجورَهمْ فيها كامِلة، فوسَّعنا لهمْ في الرزق، وأعطيناهُمُ الصحَّة... ولم نَنقُصْ مِنْ حظِّهمُ الدُّنيويِّ شَيئاً ممّا يَستَحِقُّونَهُ مُقابِلَ ما قاموا بهِ مِنْ أعمالٍ خَيريَّةٍ إنسانيَّة، ولكنْ ليسَ لهمْ في الآخِرةِ شَيءٌ عندَ الله، لأنَّهمْ لم يَبتَغوا بذلكَ وجهَ اللهِ والآخِرة.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ لَيۡسَ لَهُمۡ فِي الۡأٓخِرَةِ إِلَّا النَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [هود:16]


وهؤلاءِ المشرِكونَ المكذِّبونَ ليسَ لهمْ استِحقاقٌ عندَ اللهِ سِوَى النَّار، لأنَّ همَّهمْ كانَ مَصروفًا إلى الدُّنيا ومَتاعِها، ولم يَحسَبوا للآخِرةِ حِسابًا، فأعمالُهمْ تلكَ كانَ لها وَزنٌ في الدُّنيا وقدْ أخَذوا مُقابِلَها آنَذاك، أمّا في الآخِرَةِ فلا وَزنَ لها، وبطَلَ ثوابُ كلِّ ما عَمِلوه، لأنَّها مِنْ غيرِ إيمانٍ ولا طلَبِ ثوابٍ أُخْرَويّ.

﴿أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ وَيَتۡلُوهُ شَاهِدٞ مِّنۡهُ وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةًۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ مِنَ الۡأَحۡزَابِ فَالنَّارُ مَوۡعِدُهُۥۚ فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّنۡهُۚ إِنَّهُ الۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ النَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [هود:17]


أفمَنْ كانَ على دَليلٍ وبُرهانٍ واضِحٍ - والمقصودُ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم - وبيِّنةٍ عَظيمةِ الشأنِ مِنْ قِبَلِ ربِّه - وهيَ القُرآنُ - ويَتْبَعُهُ مَنْ يَشهَدُ لهُ بصِدقِهِ - وهوَ جِبريل، أو الشواهِدُ والمعجِزات - وقبلَ ذلكَ ما وردَ مِنْ خبَرِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ووَصفِهِ والتبشيرِ بهِ في التَّوراة، التي كانتْ نِظامًا وقُدوةً للنَّاس، وهِدايةً ورَحمةً منَ اللهِ لمَنِ اتَّبعَها، وهيَ مُصَدِّقَةٌ للقُرآن، شاهِدةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ أولئكَ الذينَ يؤمِنونَ بكلِّ ما فيها، يؤمِنونَ أيضًا بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، لأنَّهُ يَلزَمُ هذا مِنْ ذاك، أفمَنْ كانَ على بيِّنةٍ مثلَ هذا النبيّ، كمَنْ هوَ في الضَّلالةِ والجَهالةِ منَ الكفّارِ والمشرِكين؟!

ومَنْ يَكفُرْ بالرَّسولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم منَ الكافرِينَ وأهلِ المِلَلِ كُلِّها، فإنَّهُ لا مكانَ لهمْ في الآخِرَةِ إلاّ النار، فلا تَكنْ في شَكٍّ مِنْ أمرِ القُرآنِ - وهوَ تَعريضٌ بمَنْ شَكَّ فيه - فإنَّهُ الحقُّ مِنْ ربِّكَ، الذي لا حَقَّ بَعدَه، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمِنونَ بذلك، جَهلاً وحُمْقًا منهم، أو عِنادًا واستِكبارًا، بعدَ أنْ عَرَفوا أنَّهُ الحَقّ.

﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ افۡتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُعۡرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ وَيَقُولُ الۡأَشۡهَٰدُ هَـٰٓؤُلَآءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمۡۚ أَلَا لَعۡنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـٰلِمِينَ﴾ [هود:18]


وليسَ هُناكَ أظلَمُ ممَّنْ كذَبَ على الله(55)، كمَنْ أشركَ به، أو ادَّعَى لهُ كلامًا وليسَ هوَ بكلامِه، فأولئكَ الكاذِبونَ المُفتَرون، يُعرَضونَ على اللهِ يومَ البَعثِ ليُحاسِبَهمْ على أقوالِهمْ وأعمالِهم، وتَقولُ الملائكةُ المُكلَّفَةُ بمراقَبتِهمْ وإحصَاءِ أعمالِهم: هؤلاءِ همُ الذينَ كذَبوا على الله، ألَا بُعدًا وهَلاكًا لهؤلاءِ الظَّالِمينَ المُفتَرين.

(55) ذكرَ العلّامة ابن عاشور عند تفسيرِ الآيةِ (94) من سورةِ آلِ عمران، أن الافتراءَ هو الكذب، وأنه مرادفُ الاختلاق، وكأن أصلَهُ كنايةٌ عن الكذبِ وتلميح، وشاعَ ذلك حتى صارَ مرادفًا للكذب. (التحرير والتنوير).

﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَهُم بِالۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ﴾ [هود:19]


الذينَ يَرُدُّونَ النَّاسَ عنِ الحقّ، ويَمنعونَهمْ منْ سُلوكِ طَريقِ الهُدَى، ويُريدونَ لهمْ طريقًا مُنحَرِفًا يأخذُ بهمْ إلى الضَّلال، ويَرُدُّهمْ إلى الكُفر، وهمْ لا يؤمِنونَ بالآخِرَة، التي فيها إثابَةٌ على اتِّباعِ الحقّ، ومُعاقبَةٌ على اتِّباعِ الباطِل.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ لَمۡ يَكُونُواْ مُعۡجِزِينَ فِي الۡأَرۡضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَۘ يُضَٰعَفُ لَهُمُ الۡعَذَابُۚ مَا كَانُواْ يَسۡتَطِيعُونَ السَّمۡعَ وَمَا كَانُواْ يُبۡصِرُونَ﴾ [هود:20]


فأولئكَ الضالُّونَ المُنحَرِفونَ لا هُروبَ لهمْ منَ الله، فهمْ تحتَ قَهرهِ وسُلطانِه، وهوَ قادِرٌ على الانتِقامِ منهم، ولا يَقدِرُ مُساعِدوهمْ ومُناصِروهمْ على أنْ يَمنَعوا عنهمْ شَيئاً مِنَ العُقوبة، وسيُضاعَفُ لهمُ العَذابُ، لأنَّهمْ كانوا يَستَثقِلونَ سماعَ الحق، ويُصِمُّونَ آذانَهمْ دونَ سَماعِه، ويَتعامَونَ عنْ آياتِ اللهِ المبثُوثَةِ في الكَون، فلا يَتفكَّرونَ في دَلالتِها وأسبابِها والحِكمةِ مِنْ خَلْقِها.