الحروفُ المقَطَّعةُ لم يَرِدْ في مَعناها حديثٌ ثابِتٌ صَحيح.
القرآنُ الكريم، كتابُ اللهِ العَظيمُ الشَّأن، الذي أُحكِمَ بِناؤه، ودَقَّ لَفظُه، وأُحسِنَ نَظمُه، لا اختلافَ فيهِ ولا تَناقُض، ولا تَضارُبَ فيهِ ولا تَباعُد. ثمَّ فُصِّلَتْ آياتُه، وجُعِلَتْ مَوضوعاتُها في أمُورِ الناسِ وما يُهِمُّهمْ في دُنياهُمْ وآخِرَتِهم، فاشتملَتْ على العَقيدة، والأحكام، والقَصَص، والأخلاق، وما يَتفرَّعُ منها. فهوَ كلامٌ مُتقَنٌ حَكيم، نزلَ مِنْ عندِ الله، الحَكيمِ في أقوالِهِ وقَضائه، الخبيرِ بالأمُورِ وعواقِبِها، العالِمِ بما يُصلِحُ بهِ شُؤونَ عِبادِه.
وسَوفَ تَموتون، ثمَّ يُحييكمُ الله، لتُرجَعوا إليهِ أخيرًا، فيُجازيكمْ على أعمالِكمْ يومَ البَعث، ويُخبِرُكمْ بمصيرِكمُ الذي هوَ نتيجةُ أعمالِكم، وهوَ القادِرُ على كلِّ شَيء، على خَلقِكم، وإماتَتِكم، وبَعثِكم، ثمَّ مُحاسبتِكم، وما يَترتَّبُ عليها.
وهوَ الخالِقُ المُبدِع، الذي خَلقَ السَّماواتِ والأرضَ في سِتَّةِ أيَّام، وكانَ عَرْشُهُ على الماء، وأودعَ فيهما ما تَحتاجونَ إليه، وما تَستَدِلُّونَ بهِ على الخَالِق، وأودعَ فيكمُ الاستِعداداتِ والطَّاقاتِ المادِّيةَ والمعنويَّةَ الملائمةَ لِما سَخَّرَهُ لكمْ فيهما، ليَختَبِرَكمْ، ويَنظُرَ في مواقِفِكمْ وأعمالِكم، في الذي تَستَخدِمونَهُ وتَتعامَلونَ به، فيما يَنفَعُ أو فيما يَضُرّ، وهلْ تتَّبِعونَ الحقَّ الذي بيَّنَهُ لكمْ ربُّكم بواسِطَةِ رسُلِه، أمْ تَضِلُّونَ وتَكفُرون؟
ولئنْ قُلتَ لهؤلاءِ المشرِكين: إنَّكمْ ستُبعَثونَ بعدَ مماتِكمْ ليُحاسِبَكمُ اللهُ على أعمالِكم، استَهزَؤوا بكلامِك، وقالوا مُنكِرينَ ذلكَ مُستَبعِدين: إنَّ ما تَقولُهُ خَديعَةٌ وبُطلان، لا واقِعَ لهُ ولا أسَاس.
وإذا أخَّرنا عنهمُ العَذابَ الدُّنيويَّ إلى أجَلٍ مَعدود، لحِكمةٍ يَعلمُها الله، قالوا في جَهلٍ وحُمْق: أيُّ شَيءٍ يَحبِسُ العَذاب، وما الذي يَمنَعُ مَجيئَه؟ يَعنونَ أنَّهُ ليسَ بشَيء.
وإنَّ اليومَ الذي يأتيهمْ - وفيهِ العَذابُ - لا يُرفَعُ عَنهم، ولا يَستَطيعُ أحَدٌ أنْ يَدفَعَهُ عنهم، بلْ سيُحيطُ بهمْ جزاءَ استهزائهمْ وكُفرِهم.
و"لعلَّ" هنا ليسَ استفهامًا خالِصًا، بلِ المُرادُ منهُ الزَّجْر. وكانَ الكافِرونَ يَستَهزِؤونَ بالقُرآن، فيَضيقُ صَدرُ الرسُولِ صلى اللهُ عليه وسلم أنْ يُسمِعَهُمْ ما لا يَقبَلونَهُ ويَضحَكونَ منه، فأثارَتِ الآيةُ عزيمتَهُ لئلاّ يَنالَ منها ذلك.
وقالَ الكافِرون: هلاّ نزلَ على هذا الرسُولِ مالٌ كَثير، أو جاءَ معَهُ مَلَكٌ يُصَدِّقهُ حتَّى نُصَدِّقَه؟
فلا يَضِقْ صَدرُكَ بهذا وبغَيرِهِ منْ كلامِهمْ ومُقتَرَحاتِهمُ التي يَقولونَها تَعجيزًا واستِهزاء، لا طَلَباً للإيمان، فلستَ موَكَّلاً بهمْ وبإيمانِهم، إنَّما أنتَ مُبَلِّغ، واللهُ هوَ القائمُ بكلِّ شَيء، الحافِظُ له، يَعلَمُ مَنْ يَستَحِقُّ الهِدايةَ فيَهديه، ومَنْ يَستَحِقُّ الضَّلالةَ فيُبقِيهِ عليها.
فإذا لم يَستَجِبْ لكمُ المشرِكونَ المعانِدونَ المستَكبِرون، فلمْ يأتوا بمثْلِ هذا القُرآنِ أو عَشرِ آياتٍ مِنْ مثلِه، فاعلَموا جَميعًا أنَّ القُرآنَ كلامُ الله، أنزَلَهَ على رسُولِهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فهوَ كلامٌ مُعجِزٌ لا يَقدِرُ أحَدٌ على أنْ يأتيَ بمِثلِهِ حتَّى آخِرِ الدَّهر. واعلَموا أنَّ اللهَ واحِدٌ لا شَريكَ له، وآلِهتُكمْ أيُّها المشرِكونَ لا شِرْكَةَ لها بالله، ولو كانَ لها شَيءٌ منْ ذلكَ لساعَدَتْكمْ فيما تُعانِدونَ بهِ الرسُول، فهلْ أنتُمْ داخِلونَ في الإسْلامِ بعدَ عَجزِكمْ عنْ هذا التحدِّي المُبِين؟
مَنْ أرادَ بأعمالِهِ المَنفَعةَ في الدُّنيا وحُسنَ الإقامةِ بها، وفَّيناهُمْ أجورَهمْ فيها كامِلة، فوسَّعنا لهمْ في الرزق، وأعطيناهُمُ الصحَّة... ولم نَنقُصْ مِنْ حظِّهمُ الدُّنيويِّ شَيئاً ممّا يَستَحِقُّونَهُ مُقابِلَ ما قاموا بهِ مِنْ أعمالٍ خَيريَّةٍ إنسانيَّة، ولكنْ ليسَ لهمْ في الآخِرةِ شَيءٌ عندَ الله، لأنَّهمْ لم يَبتَغوا بذلكَ وجهَ اللهِ والآخِرة.
أفمَنْ كانَ على دَليلٍ وبُرهانٍ واضِحٍ - والمقصودُ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم - وبيِّنةٍ عَظيمةِ الشأنِ مِنْ قِبَلِ ربِّه - وهيَ القُرآنُ - ويَتْبَعُهُ مَنْ يَشهَدُ لهُ بصِدقِهِ - وهوَ جِبريل، أو الشواهِدُ والمعجِزات - وقبلَ ذلكَ ما وردَ مِنْ خبَرِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ووَصفِهِ والتبشيرِ بهِ في التَّوراة، التي كانتْ نِظامًا وقُدوةً للنَّاس، وهِدايةً ورَحمةً منَ اللهِ لمَنِ اتَّبعَها، وهيَ مُصَدِّقَةٌ للقُرآن، شاهِدةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ أولئكَ الذينَ يؤمِنونَ بكلِّ ما فيها، يؤمِنونَ أيضًا بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، لأنَّهُ يَلزَمُ هذا مِنْ ذاك، أفمَنْ كانَ على بيِّنةٍ مثلَ هذا النبيّ، كمَنْ هوَ في الضَّلالةِ والجَهالةِ منَ الكفّارِ والمشرِكين؟!
ومَنْ يَكفُرْ بالرَّسولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم منَ الكافرِينَ وأهلِ المِلَلِ كُلِّها، فإنَّهُ لا مكانَ لهمْ في الآخِرَةِ إلاّ النار، فلا تَكنْ في شَكٍّ مِنْ أمرِ القُرآنِ - وهوَ تَعريضٌ بمَنْ شَكَّ فيه - فإنَّهُ الحقُّ مِنْ ربِّكَ، الذي لا حَقَّ بَعدَه، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمِنونَ بذلك، جَهلاً وحُمْقًا منهم، أو عِنادًا واستِكبارًا، بعدَ أنْ عَرَفوا أنَّهُ الحَقّ.
وليسَ هُناكَ أظلَمُ ممَّنْ كذَبَ على الله(55)، كمَنْ أشركَ به، أو ادَّعَى لهُ كلامًا وليسَ هوَ بكلامِه، فأولئكَ الكاذِبونَ المُفتَرون، يُعرَضونَ على اللهِ يومَ البَعثِ ليُحاسِبَهمْ على أقوالِهمْ وأعمالِهم، وتَقولُ الملائكةُ المُكلَّفَةُ بمراقَبتِهمْ وإحصَاءِ أعمالِهم: هؤلاءِ همُ الذينَ كذَبوا على الله، ألَا بُعدًا وهَلاكًا لهؤلاءِ الظَّالِمينَ المُفتَرين.
(55) ذكرَ العلّامة ابن عاشور عند تفسيرِ الآيةِ (94) من سورةِ آلِ عمران، أن الافتراءَ هو الكذب، وأنه مرادفُ الاختلاق، وكأن أصلَهُ كنايةٌ عن الكذبِ وتلميح، وشاعَ ذلك حتى صارَ مرادفًا للكذب. (التحرير والتنوير).
الذينَ يَرُدُّونَ النَّاسَ عنِ الحقّ، ويَمنعونَهمْ منْ سُلوكِ طَريقِ الهُدَى، ويُريدونَ لهمْ طريقًا مُنحَرِفًا يأخذُ بهمْ إلى الضَّلال، ويَرُدُّهمْ إلى الكُفر، وهمْ لا يؤمِنونَ بالآخِرَة، التي فيها إثابَةٌ على اتِّباعِ الحقّ، ومُعاقبَةٌ على اتِّباعِ الباطِل.