﴿وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗا﴾ [مريم :88]
وقالَ المشرِكون: لقدِ اتَّخذَ اللهُ ولَدًا، فهوَ مِثْلُهُ إله، وصَاروا يَعبدونَ الولَدَ الإله - بزَعمِهمْ - كما فعَلَتِ النَّصارَى ذلكَ في عيسَى، واليَهودُ في عُزَير، والمشرِكونَ قالوا: الملائكَةُ بَناتُ الله! تعالَى اللهُ وتقدَّسَ عمَّا افترَوهُ عُلوًّا عَظيمًا.
﴿لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَيۡـًٔا إِدّٗا﴾ [مريم :89]
لقدْ جِئتُمْ بافتِرائكمْ وقَولِكمُ الباطِلِ هذا أمرًا مُنكَرًا شَديدَ النَّكارَةِ والإثم.
﴿تَكَادُ السَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِنۡهُ وَتَنشَقُّ الۡأَرۡضُ وَتَخِرُّ الۡجِبَالُ هَدًّا﴾ [مريم :90]
تكادُ السَّماواتُ أنْ تَنشَقَّ عندَ سَماعِ هذا القَولِ المُنكَرِ مِنْ فجَرَةِ بني آدَم، وأنْ تتَصَدَّعَ الأرض، وأنْ تَسقُطَ الجِبالُ وتَنهَدَّ، غضَبًا للهِ عَزَّ وجَلَّ، وهَيبَةً وخَوفًا منه،
﴿أَن دَعَوۡاْ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٗا﴾ [مريم :91]
منْ أجْلِ أنْ نسَبوا للرَّحمنِ ولَدًا.
﴿وَمَا يَنۢبَغِي لِلرَّحۡمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ [مريم :92]
ولا يَصلُحُ ولا يَليقُ بجَلالِ اللهِ وعظِمَتِهِ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا، ولا يُوصَفُ بذلكَ أبدًا، فالكُلُّ مَملوكٌ له، ولا كُفْءَ له.
﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي الرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا﴾ [مريم :93]
وكُلُّ مَنْ في السَّماواتِ والأرض، مِنَ الإنسِ والجِنِّ والملائكةِ عَبيدٌ للهِ وتحتَ تَصَرُّفِه، ويأتونَ إلى محَلِّ حُكمِهِ في أرْضِ المَحشَرِ بأمرِه، في خُضوعٍ وذُلٍّ واستِكانَة.
﴿لَّقَدۡ أَحۡصَىٰهُمۡ وَعَدَّهُمۡ عَدّٗا﴾ [مريم :94]
وقدْ عَلِمَ اللهُ عدَدَهم، وعَدَّ أنفاسِهم، وأحصَى أيَّامَهم، وأحاطَ بأعمالِهمْ وأقوالِهم، فلا يَخفَى عَليهِ شَيء، ولا يَخرُجُ منْ تحتِ سَيطَرَتِهِ أحَد.
﴿وَكُلُّهُمۡ ءَاتِيهِ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ فَرۡدًا﴾ [مريم :95]
وجَميعُهمْ يأتيهِ يَومَ القيامَةِ وَحيدًا مُنفَرِدًا، مُنقَطِعًا مِنَ الأتْباعِ والأنصَارِ والأموَال، وكُلُّهمْ يَستَجيرونَ باللهِ ويَحتاجونَ إلى رَحمَتِه، فكيفَ يَتَّخِذُ منهمْ ولَدًا، ولا يُجانِسُهُ ولا يُناسِبُهُ منهمْ أحَد؟! سُبحانَهُ وتَعالَى.
﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ سَيَجۡعَلُ لَهُمُ الرَّحۡمَٰنُ وُدّٗا﴾ [مريم :96]
إنَّ الذينَ آمَنوا وصَدَقوا في إيمانِهم، وقرَنوهُ بالأعمالِ الموافِقَةِ للشَّريعَة، المَرضِيَّةِ عندَ رَبِّهم، سَيَجعَلُ اللهُ لهمْ مَوَدَّة، فيُحِبُّهم، ويَغرِسُ في قُلوبِ عِبادِهِ الصَّالِحينَ حُبَّهم.
وفي حَديثٍ رَواهُ التِّرمذِيُّ وصَحَّحَه، قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: "إذا أحَبَّ اللهُ عَبدًا نادَى جِبريلَ: إنِّي قدْ أحبَبْتُ فُلانًا فأَحِبَّهُ". قال: "فيُنادِي في السَّماء، ثمَّ تَنزِلُ لهُ المَحبَّةُ في أهلِ الأرض، فذلكَ قَولُ الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}. وإذا أبغَضَ اللهُ عَبدًا نادَى جِبريلَ: إنِّي أبغَضْتُ فُلانًا. فيُنادِي في السَّماء، ثمَّ تَنزِلُ لهُ البَغضاءُ في الأرض".
قالَ الحافِظُ ابنُ حجَرٍ في الفَتح: يُؤخَذُ منهُ أنَّ مَحبَّةَ قُلوبِ النَّاسِ عَلامَةُ مَحبَّةِ الله.
والمُرادُ بمَحَبَّتِهِ سُبحانَه، إرادَةُ الخَيرِ للعَبد، وحصُولُ الثَّوابِ له.
وبمحَبَّةِ الملائكة: استِغفارُهمْ له، وإرادَتُهمْ خَيرَ الدَّارَينِ له، ومَيلُ قُلوبِهمْ إليه، لكَونهِ مُطيعًا لله، مُحِبًّا له.
ومحبَّةُ العِباد: اعتِقادُهمْ فيهِ الخَير، وإرادَتُهمْ دَفعَ الشَّرِّ عَنهُ ما أمكَن. قلت: والدُّعاءُ لهُ في ظَهرِ الغَيب.
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الۡمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا﴾ [مريم :97]
وإنَّما سَهَّلْنا القُرآنَ بلُغَتِكَ أيُّها النبيّ، وهيَ اللُّغَةُ العَربيَّةُ الفَصيحَةُ البَيِّنَة، لتُبَشِّرَ بهِ المؤمِنين، المُستَجيبِينَ لنِداءِ اللهِ ورَسولِه، وتُخَوِّفَ بهِ قَومًا مُعانِدينَ مُخاصِمين، معوَجِّينَ عنِ الحَقّ، مائلينَ بهِ إلى الباطِل.
﴿وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هَلۡ تُحِسُّ مِنۡهُم مِّنۡ أَحَدٍ أَوۡ تَسۡمَعُ لَهُمۡ رِكۡزَۢا﴾ [مريم :98]
وقدْ أهلَكنا قَبلَهمْ أُمَمًا كَثيرين، ممَّنْ كفَروا بآياتِ اللهِ وكَذَّبوا رسُلَه، فلا ترَى منهمْ أحدًا، ولا تَسمَعُ لأحَدِهمْ صَوتًا.
سورة طه - مكية - عدد الآيات: 135
20
﴿طه﴾ [طه :1]
الحروفُ المُقَطَّعَةُ لم يَرِدْ في مَعناها حديثٌ صَحيح، وقدْ ذهبَ كثيرٌ منْ أعلامِ التفسيرِ إلى أنَّ معناها هُنا: يا رَجُل.
﴿مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ الۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ﴾ [طه :2]
ما أنزَلنا هذا القُرآنَ عَليكَ لتَتعَبَ وتَتكبَّدَ الشَّدائدَ في مُحاوَرَةِ المشرِكينَ وتتَحسَّرَ على كُفرِهم.
﴿إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ﴾ [طه :3]
ولكنْ لتُبَلِّغَ آياتِه، وتُذَكِّرَ بها مَنْ يَخشَى اللهَ ويتأثَّرُ لسَماعِها ويَنتَفِعُ بها.
﴿تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ الۡأَرۡضَ وَالسَّمَٰوَٰتِ الۡعُلَى﴾ [طه :4]
إنَّهُ تَنزِيلٌ مِنَ الخالِقِ العَظيم، الذي خلَقَ الأرضَ وما فيها، والسَّماواتِ السَّبعَ العَظيمَة، وهما أكبَرُ إعجازًا مِنْ خَلقِ الإنسانِ {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة غافِر: 57].
﴿الرَّحۡمَٰنُ عَلَى الۡعَرۡشِ اسۡتَوَىٰ﴾ [طه :5]
اللهُ جَلَّ جَلالُهُ ذو الرَّحمَةِ العَظيمَةِ الدَّائمَة، استوَى على العَرش، استِواءً يَليقُ بجلالِه.
﴿لَهُۥ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ الثَّرَىٰ﴾ [طه :6]
وجَميعُ ما في السَّماواتِ والأرْض، وما بَينَهما مِنَ الموجُودات، وما تحتَ الأرْض، مُلكُه، وتحتَ تَصَرُّفِهِ ومَشيئتِهِ وحُكمِه، فهوَ خالِقُها ومالِكُها، يتَصَرَّفُ فيها بالإيجادِ والتَدبيرِ والإعدامِ كما يَشاء، لا يُشارِكُهُ في ذلكَ أحَد.
﴿وَإِن تَجۡهَرۡ بِالۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ السِّرَّ وَأَخۡفَى﴾ [طه :7]
وإنْ تَرفَعْ صَوتَكَ أيُّها الإنسَانُ فإنَّهُ يَعلَمُه، ويَعلَمُ ما أسرَرتَ إلى غَيرِكَ ولم تَرفَعْ بهِ صَوتَك، بلْ أخفَى مِنْ ذلك، كالَّذي تُسِرُّهُ في نَفسِك، أو خاطِرٍ يَمرُّ ببالِك.
﴿اللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ الۡأَسۡمَآءُ الۡحُسۡنَىٰ﴾ [طه :8]
هوَ اللهُ الذي لا إلهَ غَيرُه، فلا مَعبودَ بحَقٍّ سِواه، له أحسنُ الأسماءِ وأجلُّها.
وفي الصَّحيحَينِ وغَيرِهما قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ للهِ تِسعَةً وتِسعينَ اسمًا، مائةً إلاّ واحِدًا، مَنْ أحصاها دخلَ الجَنَّة". واللهُ تَعالَى يُدْعَى بأسمائهِ كُلِّها {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة الأعراف: 180].
﴿وَهَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ﴾ [طه :9]
وهَلْ أتاكَ خبَرُ نبيِّ اللهِ موسَى أيُّها الرَّسُول؟
﴿إِذۡ رَءَا نَارٗا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ امۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدٗى﴾ [طه :10]
إذْ ظَهرَ لهُ نارٌ - في طَريقِ رُجوعِهِ مِنْ مَديَنَ إلى مِصرَ - مِنْ جانبِ الطُّور، فقالَ لأهلِه: أقيمُوا مَكانَكم، إنِّي أبصَرتُ نارًا، لعَلِّي أجيئُكمْ منها بشُعلَةٍ لتَتدَفَّؤوا، أو أجِدُ هُناكَ مَنْ يَدلُّني على الطَّريق. وكانوا قدْ ضَلُّوا طَريقَهم.
﴿فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِيَ يَٰمُوسَىٰٓ﴾ [طه :11]
فلمّا أتَى النَّارَ نُودِيَ: يا موسَى،
﴿إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَاخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ إِنَّكَ بِالۡوَادِ الۡمُقَدَّسِ طُوٗى﴾ [طه :12]
إنِّي أنا رَبُّكَ هذا الذي يُكَلِّمُكَ، فانزَعْ نَعلَيك، إنَّكَ بوادي طُوَى المُقَدَّس في طُورِ سَيناء.
﴿وَأَنَا اخۡتَرۡتُكَ فَاسۡتَمِعۡ لِمَا يُوحَىٰٓ﴾ [طه :13]
وأنا اصطَفيتُكَ مِنْ بينِ النَّاسِ للنبوَّةِ والرِّسالَة، فاستَمِعْ لِما أقولُهُ لك.
﴿إِنَّنِيٓ أَنَا اللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَاعۡبُدۡنِي وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ﴾ [طه :14]
إنَّني أنا اللهُ، ذو الأُلوهيَّةِ والمَعبوديَّةِ على خَلْقِهِ أجمَعين، لا إلهَ إلاّ أنا، الواحِدُ الأحَد، المُستَحِقُّ للعِبادَةِ وَحدي، فاعْبُدْني ووَحِّدْني ولا تَعبُدْ غَيري، وأقمِ الصَّلاةَ لتَذكُرَني فيها.
﴿إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ﴾ [طه :15]
إنَّ القِيامَةَ كائنَةٌ وآتيَةٌ لا مَحالَة، أكادُ أُخفِيها مِنْ نَفسي، فلا يُتَصَوَّرُ أنْ أُطْلِعُ عَليها غَيري. (ومِنْ عادَةِ العَرَبِ إذا بالَغوا في كِتْمانِ الشَّيءِ أنْ يَقولوا: كتَمْتُهُ حتَّى مِنْ نَفسي، أي: لم أُطْلِعْ عَليهِ غَيري). وليَكونَ النَّاسُ على أُهبَةٍ وحَذَر، ولأجزِيَ كُلَّ عامِلٍ بما عَمِل.
﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنۡهَا مَن لَّا يُؤۡمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ فَتَرۡدَىٰ﴾ [طه :16]
فلا يَصرِفَنَّكَ عنْ ذِكرِها ومُراقبَتِها مَنْ كذَّبَ بالسَّاعَةِ واتَّبَعَ أهواءَهُ وشَهواتِهِ الدُّنيَويَّة، فتَخسَرَ بذلكَ وتَهلِك.
﴿وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ﴾ [طه :17]
وما تلكَ التي بيَمينِكَ يا موسَى؟
قيلَ لهُ ذلكَ لإيقاظِهِ وتَنبيههِ إلى ما سيَكونُ مِنْ شأنِها.
﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَـَٔارِبُ أُخۡرَىٰ﴾ [طه :18]
قالَ موسَى عَليهِ السَّلام: هيَ عَصاي، أعتَمِدُ عَليها عندَما أمشي، وأضرِبُ بها أوراقَ الشَّجَرِ لتَسقُطَ فتأكُلَها غَنَمي، وليَ فيها حاجاتٌ ومَنافِعُ أخرَى.
﴿قَالَ أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ﴾ [طه :19]
قالَ لهُ رَبُّه: ألْقِ تِلكَ العَصا مِنْ يَمينِكَ يا موسَى.