﴿وَتَقَطَّعُوٓاْ أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡۖ كُلٌّ إِلَيۡنَا رَٰجِعُونَ﴾ [الأنبياء :93]
وتفَرَّقَتِ الأُمَمُ في أمرِ دِينِ اللهِ واختلَفوا، وصاروا فِرَقًا وأحزابًا، وكانوا بينَ مؤمِنٍ وكافِر، وكُلُّهمْ راجِعونَ إلَينا يَومَ القيامَة، ليُجازَى كُلٌّ بما عَمِل.
﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ الصَّـٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا كُفۡرَانَ لِسَعۡيِهِۦ وَإِنَّا لَهُۥ كَٰتِبُونَ﴾ [الأنبياء :94]
فمَنْ يَعمَلْ مِنَ الأعمالِ الحسَنَة، الموافِقَةِ للشَّريعَة، وهوَ مؤمِنٌ بها، مُصَدِّقٌ بالثَّوابِ والعِقابِ مِنَ الله، فلنْ يُحْرَمَ ثَوابَ عمَلِه، ونحنُ حافِظونَ لهُ سَعيَه، ومُثبِتونَهُ كلَّهُ في صَحيفَةِ عمَلِه، لا يَضيعُ منهُ شَيء.
﴿وَحَرَٰمٌ عَلَىٰ قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَآ أَنَّهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ﴾ [الأنبياء :95]
ومُمتَنَعٌ على أهلِ قَريَةٍ أهلَكناهُمْ لِظُلمِهمْ وتَكذيبِهمْ رسُلَ اللهِ أنْ يَرجِعوا مرَّةً أُخرَى إلى الدُّنيا، قَبلَ يَومِ القيامَة.
﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فُتِحَتۡ يَأۡجُوجُ وَمَأۡجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٖ يَنسِلُونَ﴾ [الأنبياء :96]
حتَّى إذا فُتِحَ المَجالُ لخرُوجِ قَبيلَتي يأجوجَ ومأجوجَ مِنْ وراءِ سَدِّ ذي القَرنَين، إذا همْ مِنْ كُلِّ مُرتفِعٍ يُسرِعون، ليَنشُروا الفَسادَ في الأرْض. وهذا مِنْ عَلاماتِ القيامَةِ الكُبرَى، ويَكونُ بعدَ مَقتَلِ الدَّجَّال.
﴿وَاقۡتَرَبَ الۡوَعۡدُ الۡحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَٰخِصَةٌ أَبۡصَٰرُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَٰوَيۡلَنَا قَدۡ كُنَّا فِي غَفۡلَةٖ مِّنۡ هَٰذَا بَلۡ كُنَّا ظَٰلِمِينَ﴾ [الأنبياء :97]
فإذا حصَلَتْ هذهِ الأهوَالُ والبلابِل، اقترَبَ يَومُ القِيامَة، وَعْدُ اللهِ الحَقُّ الذي وعَدَ بهِ عِبادَهُ للحِسابِ والجَزاء، وإذا الكُفّارُ شاخِصَةٌ أبصارُهمْ لا تَطْرِف(84) ؛ لشِدَّةِ ما يَرَونَ مِنَ الأهوَالِ والأُمورِ العِظام، ويَقولون: يا هَلاكَنا ويا حَسرَتَنا، لقدْ كُنَّا في الدُّنيا غافِلينَ عنْ هذا الذي حصَلَ لنا مِنَ الحِسابِ والجَزاء، بلْ كُنّا مُعتَدِين، مُجانِبينَ الحَقّ، عندَما كذَّبْنا بآياتِ اللهِ ورُسُلِه، وعَبَدْنا ما لا يُعْبَدُ.
(84) شاخصةً أبصارهم: أجفانُهم لا تَطْرِف. (مفردات الراغب).
يقال: شخصَ بصرهُ فهو شاخص: إذا فتحَ عينيهِ وجَعلَ لا يَطرف. وبصره: رفعه. وشخصَ شخوصًا: ارتفع. (روح البيان).
الشخوص: إحدادُ البصرِ دونَ تحرك، كما يقعُ للمبهوت. (التحرير).
﴿إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَٰرِدُونَ﴾ [الأنبياء :98]
إنَكمْ أيُّها الكافِرون، وما تَعبُدونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الأصْنامِ التي كنتُمْ تَرجُونَ شَفاعتَها، وَقُودُ جَهنَّم، وإنَّكمْ لداخِلونَ فيها، ولسَوفَ تُسعَرُ نارُها بكمْ ومِنكم.
﴿لَوۡ كَانَ هَـٰٓؤُلَآءِ ءَالِهَةٗ مَّا وَرَدُوهَاۖ وَكُلّٞ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [الأنبياء :99]
ولو كانتْ أصنامُكمْ هذهِ التي تَعبدُونَها آلِهَةً حَقًا، لدَافعَتْ عنْ نَفسِها ولم تَدخُلِ النَّار. وكُلُّكمْ ماكِثونَ فيها أبَدًا، أنتُمْ وأصنامُكم.
﴿لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَهُمۡ فِيهَا لَا يَسۡمَعُونَ﴾ [الأنبياء :100]
لهمْ في جَهنَّمَ زَفيرٌ شَديد، مِنَ الغَمِّ والألَمِ الفَظيع، وهمْ فيها لا يَسمَعون؛ لشِدَّةِ الكَرْبِ والبَلاءِ والعَذابِ الذي يُصيبُهم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا الۡحُسۡنَىٰٓ أُوْلَـٰٓئِكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ﴾ [الأنبياء :101]
أمَّا الذينَ كتَبَ اللهُ لهمُ السَّعادَة، وكانوا على إيمَانٍ وصَلاح، فأولئكَ مُبعَدونَ مِنَ النَّار.
﴿لَا يَسۡمَعُونَ حَسِيسَهَاۖ وَهُمۡ فِي مَا اشۡتَهَتۡ أَنفُسُهُمۡ خَٰلِدُونَ﴾ [الأنبياء :102]
لا يَسمَعونَ صَوتَها وأجيجَ حَريقِها، وهمْ باقُونَ على الدَّوامِ فيما يَشتَهونَ مِنَ النَّعيم.
﴿لَا يَحۡزُنُهُمُ الۡفَزَعُ الۡأَكۡبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ هَٰذَا يَوۡمُكُمُ الَّذِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء :103]
ولا يَهُمُّهُمْ ولا يَغُمُّهُمْ يَومُ الهَولِ الأكبَر، لأنَّهمْ يُعطَونَ الأمَانَ بأنَّهمْ منْ أهلِ الجَنَّة، وتَستَقبِلُهمْ مَلائكَةُ الرَّحمَةِ وتُبَشِّرُهمْ بذلك، وتَقولُ لهم: هذا يَومُ الثَّوابِ الذي تُجزَونَ به، وهذا يَومُ سُرورِكمُ الذي وُعِدتُمْ به.
﴿يَوۡمَ نَطۡوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلۡكُتُبِۚ كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ﴾ [الأنبياء :104]
في يَومِ القِيامَةِ نَطوي السَّماءَ كطَيِّ الصَّحيفَةِ لِمَا كُتِبَ فيها(85) ، وكما بدَأنا خَلْقَ الإنسَانِ في بُطونِ أُمَّهاتِهم، حُفاةً غُرْلاً (غَيرَ مَختُونين)، فسَنُعيدُ خَلْقَهُ ونَحشُرُهُ يَومَ البَعثِ كذلكَ، وَعدًا عَلَينا أنْ نفعَلَ ذلك، لا مَحالَة.
وفي الحَديثِ الصَّحيحِ الذي رَواهُ البُخاريُّ رَحِمَهُ الله، قَولُهُ صلى الله عَليه وسلم: "أيُّها النَّاس، إنَّكمْ مَحشورونَ إلى اللهِ عُراةً غُرْلاً. ثمَّ قال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}".
(85) في إضافةِ السجلِّ إلى الكتبِ قالَ الآلوسيُّ رحمهُ الله: أي كطيِّ السجلِّ كائنًا للكتب، أو الكائنِ للكتب، فإن الكتبَ عبارةٌ عن الصحائفِ وما كُتبَ فيها، فسجلُّها بعضُ أجزائها، وبه يتعلَّق الطيُّ حقيقة. (روح المعاني).
ويُفهمُ من كلامهِ رحمَهُ الله أن المقصودَ مجموعةُ أوراقٍ أو صفحاتٍ من الكتاب.
ويكونُ معنى الكتابِ عندهُ الكتابَ العاديَّ الذي نعرفه، يعني جنسَ الكتاب، أعني هيئتهُ وشكلَه، بغضِّ النظرِ عن مصدرهِ أو محتواه. (الكتاب في كتاب الله تعالى/ محمد خير يوسف).
﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي الزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ الذِّكۡرِ أَنَّ الۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّـٰلِحُونَ﴾ [الأنبياء :105]
ولقدْ أنزَلنا في الكتُبِ السَّماويَّة، بعدَ كتابَتِهِ في اللَّوحِ المَحفوظ، أنَّ أرضَ الجنَّةِ يَرِثُها عِباديَ الصَّالِحونَ المُتَّقون(86) .
(86) ذهبَ كثيرٌ من أهلِ التفسيرِ إلى أنَّ المقصودَ بالأرضِ هنا أرضُ الجنة، لكنْ قالَ الشوكانيُّ رحمَهُ الله: "الظاهرُ أن هذا تبشيرٌ لأمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلمَ بوراثةِ أرضِ الكافرين، وعليه أكثرُ المفسرين". (فتح القدير).
﴿إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَٰغٗا لِّقَوۡمٍ عَٰبِدِينَ﴾ [الأنبياء :106]
إنَّ فيما ذُكِرَ في هذهِ السُّورَة، أو في القُرآن، مِنَ الأخبَار، والمَواعِظ، والتَّرغيبِ والتَّرهيب، والآياتِ البيِّنات، كِفايَةً لمَنْ آثرَ العِبادَةَ والطَّاعَةَ على العِصيان.
﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأنبياء :107]
وما أرسَلناكَ إلاّ رَحمَةً للنَّاسِ كُلِّهم، بما أُرسِلْتَ بهِ مِنْ شَريعَةٍ عامَّة، فيها العَقيدَةُ الصَّحيحَة، والأحكامُ العادِلَة، والدَّعوَةُ إلى السُّلوكِ المُستَقيم، التي تؤدِّي إلى السَّعادَةِ والأمانِ في الدَّارَين.
﴿قُلۡ إِنَّمَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ [الأنبياء :108]
قُلْ لهؤلاءِ المشرِكينَ أيُّها الرَّسُول: إنَّ الذي يُوحَى إليَّ وأُبَلِّغُكمْ إيَّاهُ وأدعوكُمْ إليه، هوَ عِبادَةُ اللهِ وحدَهُ لا شَريكَ له، فهلْ أنتُمْ مُستَسلِمونَ لأمرِ الله، مُنقادُونَ لحُكمِهِ كما أوحَى إليّ؟
﴿فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ ءَاذَنتُكُمۡ عَلَىٰ سَوَآءٖۖ وَإِنۡ أَدۡرِيٓ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٞ مَّا تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء :109]
فإذا أبَوا، وترَكوا ما دَعَوتَهمْ إليهِ مِنَ الإسْلام، فقُلْ لهم: قدْ أعلَمْتُكمْ ما أُمِرْتُ به، وحذَّرتُكمْ مِنَ التَّمادي في الكُفر، والتَّكذيبِ بالرِّسالَة، وأنا بَريءٌ منكمْ وممّا تَعمَلون، وحَربٌ عَليكم، وأنتُمْ بَريؤونَ منِّي، فنحنُ سَواءٌ في الإعلامِ بذلك، ولا أدري متَى يَكونُ نَصرُ اللهِ وغلَبَةُ المسلِمينَ عَليكم، أهوَ قَريبٌ زمانُهُ أمْ بَعيد.
﴿إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ الۡجَهۡرَ مِنَ الۡقَوۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡتُمُونَ﴾ [الأنبياء :110]
واللهُ عالِمٌ بما تَعمَلون، مِنَ الكَيدِ للإسْلام، وتَكذيبِ رَسولِه، وعَيبِ أهلِه، يَعلَمُ ما تُظهِرونَهُ مِنْ أقوالٍ وإنْ كثُرَت، فلا يَشغَلُهُ سَمعُ كلامٍ عنْ سَمعِ آخَر، ويَعلَمُ ما تُخفُونَهُ في صُدورِكمْ مِنْ أسرارٍ وإنْ دَقَّت.
﴿وَإِنۡ أَدۡرِي لَعَلَّهُۥ فِتۡنَةٞ لَّكُمۡ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ﴾ [الأنبياء :111]
، ولا أدرِي، فلعَلَّ تأخيرَ العَذابِ عَنكمْ امتِحانٌ لكم، ليَنظُرَ كيفَ تَعمَلون، وانتِظارٌ بكمْ إلى أجَلٍ مُسَمًّى لحِكمَةٍ في ذلك، اللهُ أعلَمُ بها.
﴿قَٰلَ رَبِّ احۡكُم بِالۡحَقِّۗ وَرَبُّنَا الرَّحۡمَٰنُ الۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء :112]
وقالَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ اقْضِ بينَنا وبينَ المُشرِكينَ بحُكمِكَ الحقّ، ورَبُّنا ذو رَحمَةٍ كبيرَةٍ بعِبادِه، والعَونُ والنَّصْرُ مِنَ اللهِ على ما يَقولُ المشرِكونَ مِنَ الكفرِ والتَّكذيب.
وقدْ ذكرَ مُفَسِّرونَ أنَّهُ دُعاءٌ بالعَذابِ عَليهم، وأنَّهمْ عُوقِبوا بيَومِ بَدر.
سورة الحج - مدنية - عدد الآيات: 78
22
﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ السَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ﴾ [الحج :1]
أيُّها النّاس، أطِيعوا رَبَّكمْ واحذَروا عِقابَه، وتَجنَّبوا كُلَّ ما نَهاكمْ عَنه، وخاصَّةً الشِّرك، فإنَّ زلزَلَةَ القيامَةِ أمرٌ عَظيمٌ هائل، وفيهِ مِنَ الشَّدائدِ والأهوالِ ما لا يُتَصَوَّر.
﴿يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٞ﴾ [الحج :2]
في ذلكَ اليَومِ العَصيبِ الذي تَرونَ فيهِ الزَّلزَلَة، تَنشَغِلُ كُلُّ أُمٍّ مُرضِعَةٍ عنْ وَليدِها الصَّغيرِ الذي لا يَزالُ يَرضَعُ ثَدْيَها، فتَذهَلُ عنهُ وتَنسَاهُ وهيَ أكثَرُ النَّاسِ شَفقَةً عَليه، لشِدَّةِ هَولِ ذلكَ اليَوم، وتلكَ الزَّلزَلَةِ العَظيمَة. وتُلقي كُلُّ حامِلٍ جَنينَها قَبلَ تَمامِه، مِنْ الخَوفِ والفزَعِ وشِدَّةِ الكَرْب. وترَى النَّاسَ كالسُّكارَى وكأنَّهمْ غائبونَ عنِ الوَعي، وهمْ ليسُوا سُكارَى حَقيقَة، ولكنَّ شِدَّةَ عَذابِ الله، وهَولَ ما هُمْ فيه، أدهَشَتْ عُقولَهم، فمَنْ رآهُمْ ظنَّهمْ سُكارَى.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيۡطَٰنٖ مَّرِيدٖ﴾ [الحج :3]
ومِنَ النَّاسِ منْ يُخاصِمُ ويُجادِلُ في شأنِ اللهِ وقُدرَتِهِ على البَعثِ مِنْ غَيرِ علمٍ ولا بُرهانٍ صَحيح، ويَقولُ ما لا خَيرَ فيهِ مِنَ الأباطِيل، ويُنكِرُ ما هوَ حَقٌّ وصَواب، ويَتَّبِعُ بذلكَ كُلَّ شَيطانٍ مارِدٍ على الحَقّ، مُتَمادٍ في الشَّرّ، مُتجَرِّدٍ منْ كُلِّ خَيرٍ وفَضيلَة، مِنَ الجِنِّ والإنْس، مِنْ مثلِ رؤوسِ الكُفرِ وأهلِ الضَّلالَة، الناشِرينَ للفسَادِ في كُلِّ عَصر.
﴿كُتِبَ عَلَيۡهِ أَنَّهُۥ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُۥ يُضِلُّهُۥ وَيَهۡدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج :4]
قُضِيَ على الشَّيطانِ أنَّ مَنِ اتَّبَعَهُ وقَلَّدَه، فسَوفَ يُضِلُّهُ في الدُّنيا ويُغوِيه، ويَقودُهُ في الآخِرَةِ إلى عَذابِ النار، وبئسَ المَصير.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ الۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي الۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ الۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى الۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا الۡمَآءَ اهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ﴾ [الحج :5]
أيُّها المُنكِرونَ للمَعاد، إذا كنتُمْ في شَكٍّ مِنْ قُدرَةِ اللهِ على بَعثِ النّاسِ بعدَ مَوتِهم، فإنَّ هُناكَ أدِلَّةً مُشاهَدَةً تُبَيِّنُ قُدرَتَهُ تَعالَى على ذلك. فقدْ خَلَقنا أصلَكمْ مِنْ تُراب. وقدْ تبيَّنَ أنَّ العناصِرَ التي تَدخُلُ في تَركيبِ جسمِ الإنسانِ هيَ العناصِرُ نَفسُها التي تَكونُ في الطِّينِ والترَاب، معَ اختِلافِ النِّسَب، وهيَ 22 عُنصُرًا.
ثمَّ جَعَلنا نَسلَكمْ مِنْ نُطفَة، وهيَ المَنيُّ، للمرأةِ والرَّجُل، الذي يَحمِلُ ملايينَ الحيواناتِ المَنويَّة.
فإذا استقَرَّ المَنيُّ في رَحِمِ المرأةِ وبَقيَ أربَعينَ يَومًا تحوَّلَ إلى عَلَقَة، وهيَ قِطعَةٌ منَ الدَّمِ الغَليظِ المُتَجَمِّد، الذي يتعَلَّقُ بجِدارِ الرَّحِمِ ويَعيشُ على امتِصاصِ دَمِ الأُمّ.
ثمَّ تَتحَوَّلُ إلى مُضْغَةٍ تُشبِهُ قِطعَةَ لحمٍ مَمضُوغ، وهيَ تتألَّفُ مِنْ جُزءٍ مُخَلَّقٍ مُصَوَّرٍ تَعرِفُهُ إذا أُخرِجَ لكَ مِنْ داخِلِها أنَّهُ بشَرٌ سَويّ، ومِنْ قُرصٍ لَحميٍّ ليسَ عَليهِ تَصويرٌ ولا تخَلُّقٌ ولا أعضاء، هوَ المَشِيمَة، وهما مُرتَبِطانِ معًا، يُشَكِّلانِ داخِلَ الرَّحِمِ وحدَةً لا تَنفَصِم، وإلاّ ماتَ الجَنينُ وانتَهَى الحَمْل... إنَّها مُضْغَةٌ واحِدَةٌ مُخَلَّقَةٌ وغَيرُ مُخَلَّقَةٍ في الوَقتِ نَفسِه.
ونوَضِّحُ لكمْ ذلكَ لتَذكُروا دَقائقَ خَلقِ الله، وعَظيمَ قُدرَتِهِ وإبداعِهِ في إنشَاءِ خَلقِهِ وأطوَارِ خَلقِهم، ونُبقِي في أرحَامِ الأمَّهاتِ ما نشَاءُ أنْ نُبقِيَهُ حتَّى يَضَعْنَه. فإذا لم نَشأ ذلكَ أسقَطنَهُ قَبلَ إتمامِ مَوعِدِ الحَمْل.
ثمَّ نُخرِجُكمْ مِنَ الأرحامِ طِفلاً لا حيلَةَ له.
ثمَّ تَكبَرونَ وتَقوَى أجسامُكمْ وتَكتَمِلُ حَواسُّكم، ومنكمْ مَنْ يَموتُ قَبلَ أنْ يَشتَدَّ عُودُه، ومنكمْ مَنْ يَكبَرُ حتَّى يَصيرَ شَيخًا هَرِمًا، فيَضعُفُ عَقلُهُ وقوَّتُهُ حتَّى لا يَعلمَ شَيئاً بعدَ عِلمٍ كثيرٍ وخِبرَةٍ ومِراس!
فهذا كُلُّهُ منْ تَدبيرِ اللهِ وأمرِه.
وترَى الأرضَ يابِسَةً قاحِلَةً لا نَباتَ فيها ولا شَجَر، فإذا أنزَلنا المطَرَ وسُقِيَتْ به، تحرَّكَ نَباتُها وانبَعَثَتْ فيها الحياةُ وانتَفَخَتْ وارتَفعَت، وأخرَجَتْ مِنْ كُلِّ صِنفٍ حسَنٍ ما يُوحي بالحَياةِ والحرَكَةِ ويَسُرُّ النَّاظِرين.
﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الۡحَقُّ وَأَنَّهُۥ يُحۡيِ الۡمَوۡتَىٰ وَأَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [الحج :6]
وهذا كُلُّهُ دَليلٌ على الإلهِ الحَقّ، الخالِقِ المُدَبِّرِ المُبدِع، وأنَّهُ سيُحيي المَوتَى يَومَ البَعثِ كما خلَقَكمْ أوَّلَ مرَّة، وكما أحيَا الأرْضَ بعدَ مَوتِها، وأنَّهُ قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ يُريدُه.
﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٞ لَّا رَيۡبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبۡعَثُ مَن فِي الۡقُبُورِ﴾ [الحج :7]
وأنَّ قِيامَ السَّاعَةِ وبَعثَ النَّاسِ للحِسابِ والجَزاءِ آتٍ بلا شَكّ، وأنَّ اللهَ يَبعَثُ جَميعَ المَوتَى في القُبور.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ﴾ [الحج :8]
ومِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ ويُخاصِمُ في شَأنِ اللهِ وقُدرَتِهِ على البَعثِ بغَيرِ علمٍ صَحيحٍ ومَعرِفَةٍ مَقبُولَة، ولا استِنادٍ إلى وَحي أو مَصدَرٍ فيهِ حُجَّةٌ وبُرهان، بلْ هوَ مُجَرَّدُ رأي وهوًى. فهوَ معانِدٌ لِلحقّ، جاهلٌ مقلِّد.
﴿ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِۖ لَهُۥ فِي الدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ الۡحَرِيقِ﴾ [الحج :9]
وهوَ يَميلُ بجانبِهِ ويَشمَخُ بأنفِهِ تكَبُّرًا وإعرَاضًا عنِ الحقّ، ليُزيغَ النَّاسَ ويَصرِفَهمْ عنْ دينِ الله، فهذا لهُ الذلُّ والهَوانُ في الحَياةِ الدُّنيا، وفي يَومِ القيامَةِ نُصْليهِ عَذابَ النَّارِ المُحْرِق.
﴿ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّـٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ﴾ [الحج :10]
هذا ما جَنَتْهُ يَداكَ مِنَ المَعاصِي والعِنادِ على الكُفر، أيُّها المخاصِمُ العَنيد، المتكبِّرُ على الحقّ، واللهُ لا يَظلِمُ عِبادَه، فلا يُعاقِبُهمْ بدُونِ ذَنْب، وإذا عاقبَهمْ فلا يَزيدُ في عُقوبَتِهمْ أكثرَ ممّا يَستحِقُّونَه.