تفسير سورة الحج

  1. سور القرآن الكريم
  2. الحج
22

﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ السَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ﴾ [الحج:1]


أيُّها النّاس، أطِيعوا رَبَّكمْ واحذَروا عِقابَه، وتَجنَّبوا كُلَّ ما نَهاكمْ عَنه، وخاصَّةً الشِّرك، فإنَّ زلزَلَةَ القيامَةِ أمرٌ عَظيمٌ هائل، وفيهِ مِنَ الشَّدائدِ والأهوالِ ما لا يُتَصَوَّر.

﴿يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٞ﴾ [الحج:2]


في ذلكَ اليَومِ العَصيبِ الذي تَرونَ فيهِ الزَّلزَلَة، تَنشَغِلُ كُلُّ أُمٍّ مُرضِعَةٍ عنْ وَليدِها الصَّغيرِ الذي لا يَزالُ يَرضَعُ ثَدْيَها، فتَذهَلُ عنهُ وتَنسَاهُ وهيَ أكثَرُ النَّاسِ شَفقَةً عَليه، لشِدَّةِ هَولِ ذلكَ اليَوم، وتلكَ الزَّلزَلَةِ العَظيمَة. وتُلقي كُلُّ حامِلٍ جَنينَها قَبلَ تَمامِه، مِنْ الخَوفِ والفزَعِ وشِدَّةِ الكَرْب. وترَى النَّاسَ كالسُّكارَى وكأنَّهمْ غائبونَ عنِ الوَعي، وهمْ ليسُوا سُكارَى حَقيقَة، ولكنَّ شِدَّةَ عَذابِ الله، وهَولَ ما هُمْ فيه، أدهَشَتْ عُقولَهم، فمَنْ رآهُمْ ظنَّهمْ سُكارَى.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيۡطَٰنٖ مَّرِيدٖ﴾ [الحج:3]


ومِنَ النَّاسِ منْ يُخاصِمُ ويُجادِلُ في شأنِ اللهِ وقُدرَتِهِ على البَعثِ مِنْ غَيرِ علمٍ ولا بُرهانٍ صَحيح، ويَقولُ ما لا خَيرَ فيهِ مِنَ الأباطِيل، ويُنكِرُ ما هوَ حَقٌّ وصَواب، ويَتَّبِعُ بذلكَ كُلَّ شَيطانٍ مارِدٍ على الحَقّ، مُتَمادٍ في الشَّرّ، مُتجَرِّدٍ منْ كُلِّ خَيرٍ وفَضيلَة، مِنَ الجِنِّ والإنْس، مِنْ مثلِ رؤوسِ الكُفرِ وأهلِ الضَّلالَة، الناشِرينَ للفسَادِ في كُلِّ عَصر.

﴿كُتِبَ عَلَيۡهِ أَنَّهُۥ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُۥ يُضِلُّهُۥ وَيَهۡدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج:4]


قُضِيَ على الشَّيطانِ أنَّ مَنِ اتَّبَعَهُ وقَلَّدَه، فسَوفَ يُضِلُّهُ في الدُّنيا ويُغوِيه، ويَقودُهُ في الآخِرَةِ إلى عَذابِ النار، وبئسَ المَصير.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ الۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي الۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ الۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى الۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا الۡمَآءَ اهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ﴾ [الحج:5]


أيُّها المُنكِرونَ للمَعاد، إذا كنتُمْ في شَكٍّ مِنْ قُدرَةِ اللهِ على بَعثِ النّاسِ بعدَ مَوتِهم، فإنَّ هُناكَ أدِلَّةً مُشاهَدَةً تُبَيِّنُ قُدرَتَهُ تَعالَى على ذلك. فقدْ خَلَقنا أصلَكمْ مِنْ تُراب. وقدْ تبيَّنَ أنَّ العناصِرَ التي تَدخُلُ في تَركيبِ جسمِ الإنسانِ هيَ العناصِرُ نَفسُها التي تَكونُ في الطِّينِ والترَاب، معَ اختِلافِ النِّسَب، وهيَ 22 عُنصُرًا.

ثمَّ جَعَلنا نَسلَكمْ مِنْ نُطفَة، وهيَ المَنيُّ، للمرأةِ والرَّجُل، الذي يَحمِلُ ملايينَ الحيواناتِ المَنويَّة.

فإذا استقَرَّ المَنيُّ في رَحِمِ المرأةِ وبَقيَ أربَعينَ يَومًا تحوَّلَ إلى عَلَقَة، وهيَ قِطعَةٌ منَ الدَّمِ الغَليظِ المُتَجَمِّد، الذي يتعَلَّقُ بجِدارِ الرَّحِمِ ويَعيشُ على امتِصاصِ دَمِ الأُمّ.

ثمَّ تَتحَوَّلُ إلى مُضْغَةٍ تُشبِهُ قِطعَةَ لحمٍ مَمضُوغ، وهيَ تتألَّفُ مِنْ جُزءٍ مُخَلَّقٍ مُصَوَّرٍ تَعرِفُهُ إذا أُخرِجَ لكَ مِنْ داخِلِها أنَّهُ بشَرٌ سَويّ، ومِنْ قُرصٍ لَحميٍّ ليسَ عَليهِ تَصويرٌ ولا تخَلُّقٌ ولا أعضاء، هوَ المَشِيمَة، وهما مُرتَبِطانِ معًا، يُشَكِّلانِ داخِلَ الرَّحِمِ وحدَةً لا تَنفَصِم، وإلاّ ماتَ الجَنينُ وانتَهَى الحَمْل... إنَّها مُضْغَةٌ واحِدَةٌ مُخَلَّقَةٌ وغَيرُ مُخَلَّقَةٍ في الوَقتِ نَفسِه.

ونوَضِّحُ لكمْ ذلكَ لتَذكُروا دَقائقَ خَلقِ الله، وعَظيمَ قُدرَتِهِ وإبداعِهِ في إنشَاءِ خَلقِهِ وأطوَارِ خَلقِهم، ونُبقِي في أرحَامِ الأمَّهاتِ ما نشَاءُ أنْ نُبقِيَهُ حتَّى يَضَعْنَه. فإذا لم نَشأ ذلكَ أسقَطنَهُ قَبلَ إتمامِ مَوعِدِ الحَمْل.

ثمَّ نُخرِجُكمْ مِنَ الأرحامِ طِفلاً لا حيلَةَ له.

ثمَّ تَكبَرونَ وتَقوَى أجسامُكمْ وتَكتَمِلُ حَواسُّكم، ومنكمْ مَنْ يَموتُ قَبلَ أنْ يَشتَدَّ عُودُه، ومنكمْ مَنْ يَكبَرُ حتَّى يَصيرَ شَيخًا هَرِمًا، فيَضعُفُ عَقلُهُ وقوَّتُهُ حتَّى لا يَعلمَ شَيئاً بعدَ عِلمٍ كثيرٍ وخِبرَةٍ ومِراس!

فهذا كُلُّهُ منْ تَدبيرِ اللهِ وأمرِه.

وترَى الأرضَ يابِسَةً قاحِلَةً لا نَباتَ فيها ولا شَجَر، فإذا أنزَلنا المطَرَ وسُقِيَتْ به، تحرَّكَ نَباتُها وانبَعَثَتْ فيها الحياةُ وانتَفَخَتْ وارتَفعَت، وأخرَجَتْ مِنْ كُلِّ صِنفٍ حسَنٍ ما يُوحي بالحَياةِ والحرَكَةِ ويَسُرُّ النَّاظِرين.

﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الۡحَقُّ وَأَنَّهُۥ يُحۡيِ الۡمَوۡتَىٰ وَأَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [الحج:6]


وهذا كُلُّهُ دَليلٌ على الإلهِ الحَقّ، الخالِقِ المُدَبِّرِ المُبدِع، وأنَّهُ سيُحيي المَوتَى يَومَ البَعثِ كما خلَقَكمْ أوَّلَ مرَّة، وكما أحيَا الأرْضَ بعدَ مَوتِها، وأنَّهُ قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ يُريدُه.

﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٞ لَّا رَيۡبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبۡعَثُ مَن فِي الۡقُبُورِ﴾ [الحج:7]


وأنَّ قِيامَ السَّاعَةِ وبَعثَ النَّاسِ للحِسابِ والجَزاءِ آتٍ بلا شَكّ، وأنَّ اللهَ يَبعَثُ جَميعَ المَوتَى في القُبور.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ﴾ [الحج:8]


ومِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ ويُخاصِمُ في شَأنِ اللهِ وقُدرَتِهِ على البَعثِ بغَيرِ علمٍ صَحيحٍ ومَعرِفَةٍ مَقبُولَة، ولا استِنادٍ إلى وَحي أو مَصدَرٍ فيهِ حُجَّةٌ وبُرهان، بلْ هوَ مُجَرَّدُ رأي وهوًى. فهوَ معانِدٌ لِلحقّ، جاهلٌ مقلِّد.

﴿ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِۖ لَهُۥ فِي الدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ الۡحَرِيقِ﴾ [الحج:9]


وهوَ يَميلُ بجانبِهِ ويَشمَخُ بأنفِهِ تكَبُّرًا وإعرَاضًا عنِ الحقّ، ليُزيغَ النَّاسَ ويَصرِفَهمْ عنْ دينِ الله، فهذا لهُ الذلُّ والهَوانُ في الحَياةِ الدُّنيا، وفي يَومِ القيامَةِ نُصْليهِ عَذابَ النَّارِ المُحْرِق.

﴿ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّـٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ﴾ [الحج:10]


هذا ما جَنَتْهُ يَداكَ مِنَ المَعاصِي والعِنادِ على الكُفر، أيُّها المخاصِمُ العَنيد، المتكبِّرُ على الحقّ، واللهُ لا يَظلِمُ عِبادَه، فلا يُعاقِبُهمْ بدُونِ ذَنْب، وإذا عاقبَهمْ فلا يَزيدُ في عُقوبَتِهمْ أكثرَ ممّا يَستحِقُّونَه.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعۡبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ اطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ الدُّنۡيَا وَالۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ الۡخُسۡرَانُ الۡمُبِينُ﴾ [الحج:11]


ومِنَ النَّاسِ مَنْ هوَ مُتَذَبذِب، يَعبدُ اللهَ على شَكٍّ أو طَرَفٍ مِنَ الدِّينِ لا يَثبُتُ عَليه، فإذا استَفادَ مالاً ووَلَدًا في الدِّينِ استَقَرَّ عَليهِ ورَضيَه، وإذا اعتَراهُ مَكروهٌ فيهما تَرَكَهُ ورجَعَ كافِرًا، فضَيَّعَ بذلكَ الدُّنيا والآخِرَة، وتلكَ هيَ الخَسَارَةُ البيِّنَة.

أي أنَّ نَظرَتَهُ إلى الحقِّ كانتْ لمَصلَحَةٍ دنيويَّة، وليسَتْ لقَناعَةٍ ذاتيَّة.

﴿يَدۡعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُۥ وَمَا لَا يَنفَعُهُۥۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَٰلُ الۡبَعِيدُ﴾ [الحج:12]


يَتركُ عِبادَةَ اللهِ، خالقِهِ ورازِقِه، ويَعبدُ الأصْنام، التي لا تَضُرُّهُ إذا لم يَعبدْها، ولا تَنفَعُهُ إذا عبَدَها، وهذا هوَ الضَّلال، البَعيدُ عنِ الحقِّ والرَّشاد.

﴿يَدۡعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقۡرَبُ مِن نَّفۡعِهِۦۚ لَبِئۡسَ الۡمَوۡلَىٰ وَلَبِئۡسَ الۡعَشِيرُ﴾ [الحج:13]


وضَرَرُهُ مِنْ عِبادَتِها في الدُّنيا (بالخِزي والذُّلِّ) قَبلَ الآخِرَةِ (بتوَقُّعِ الشَّفاعَةِ له)، أقرَبُ منْ نَفعِها لهُ فيها. وهوَ أسلوبٌ بلاغيٌّ يَعني أنَّهُ لا نَفعَ فيها ألبتَّة، أو يُقال: إنْ نفَعَ بتخَيُّلِه، فيَكونُ ضَرَرُهُ أقرَبَ مِنْ نَفعِه. أمَّا الضَّرَرُ الذي يَقَعُ عَليهِ منها في الآخِرَة، فمُحَقَّقٌ ومُتَيَقَّن. فبئسَ هذا الذي يُتَّخَذُ وليًّا وناصِرًا، وبئسَ الذي يُعَاشَرُ ويُخالَط.

﴿إِنَّ اللَّهَ يُدۡخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُۚ إِنَّ اللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [الحج:14]


إنَّ اللهَ يُدخِلُ المؤمِنينَ المُخلِصين، الذينَ يُتبِعونَ إيمانَهمْ بالأعمالِ الحسَنة، جنَّاتٍ عاليَات، تَجري الأنهارُ مِنْ تحتِ أشجارِها. واللهُ يَفعَلُ ما يُريد، فيُعاقِبُ الكافِرينَ لكُفرِهمْ وعِنادِهمْ، ويُثيبُ المؤمِنينَ على إيمانِهمْ وأعمالِهمُ الصَّالِحة.

﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنۡيَا وَالۡأٓخِرَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لۡيَقۡطَعۡ فَلۡيَنظُرۡ هَلۡ يُذۡهِبَنَّ كَيۡدُهُۥ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج:15]


مَنْ كانَ يَظُنُّ مِنَ المشرِكينَ أنَّ اللهَ لنْ يَنصُرَ نَبيَّهُ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فليَمُتْ غَيظًا، ليَربِطْ حَبلاً بسَقفِ بَيتِهِ ويَمُدَّهُ ثمَّ يَخنُقْ بهَ نفسَه، فليَنْظُرْ: هلْ يَشفي صَنيعُهُ هذا ما يَجِدُ في صَدرِهِ مِنَ الكمَدِ والغَيظ؟! وهوَ تهَكُّمٌ به، أو زيادَةٌ في غَيظِه، ولا يَنفَعهُ ذلكَ شَيئًا، ولنْ يُؤخِّرَ مِنْ نَصرِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فاللهُ ناصِرُهُ ولو كَرِهَ الكافِرون.

﴿وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ وَأَنَّ اللَّهَ يَهۡدِي مَن يُرِيدُ﴾ [الحج:16]


وبمثلِ هذا البَيانِ والحِكَمِ البالِغَةِ أنزَلنا القُرآن، الذي يَتضَمَّنُ آياتٍ واضِحَةً بَليغَةً، واللهُ يَهدي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِه، ممَّنْ وجدَ عندَهمْ استِعدادًا وقَبولاً للحَقّ.

﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّـٰبِـِٔينَ وَالنَّصَٰرَىٰ وَالۡمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ اللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ﴾ [الحج:17]


إنَّ المؤمِنين، واليَهودَ، والصَّابِئة: وهمْ قَومٌ أهلُ دِيانَةٍ بالعِراق، والنَّصارَى، والمَجوس: عبَدَةَ النَّار، والمُشرِكينَ: عَبَدَةَ الأوثان، إنَّ اللهَ يَحكُمُ بينَهمْ يَومَ الحِسابِ بالحَقِّ والعَدل، فيُعاقِبُ مَنْ كَفرَ بالنَّار، ويُثيبُ مَنْ آمنَ بالجنَّةِ والرِّضوَان، واللهُ مُراقِبٌ لأحوَالِ النَّاس، شاهِدٌ على أعمالِهم، لا يَخفَى عليهِ شَيءٌ ممّا أعلَنوا أو أسَرُّوا.

﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي الۡأَرۡضِ وَالشَّمۡسُ وَالۡقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالۡجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ النَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ الۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ اللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩﴾ [الحج:18]


وكلُّ شَيءٍ في هذا الكونِ بأمرِ اللهِ وإرادَتِهِ وتحتَ سَيطَرَتِه. ألمْ تَرَ أنَّهُ يَسجُدُ لعظمَتِهِ مَنْ في السَّماواتِ مِنَ المَلائكة، ومَنْ في الأرضِ مِنَ الأناسيِّ والجانِّ والحيَوان، وكذلكَ الشَّمسُ، والقَمَرُ، والنجومُ الكثيرَة، والجِبالُ الكبيرَة، والشَجَرُ والنَّبات، وكُلُّ مَنْ دَبَّ على الأرض، فهذهِ كُلُّها مُنقادَةٌ لحُكمِهِ تعالَى، خاضِعَةٌ لأمرِه، خاشِعَة، مُسَبِّحَةٌ له، وكثيرٌ مِنَ الناس، ممَّنْ أسلمَ وَجهَهُ لله، يَسجُدُ لهُ طَوعًا، وكثيرٌ منَ الناسِ وجبَ عَليهمُ العذابُ بسبَبِ امتناعِهمْ واستِكبارِهمْ عنِ السُّجودِ لرَبِّهم.

ومَنْ أذَلَّهُ اللهُ وكتبَ عليهِ الشَّقاء، فلا يُكرِمُهُ بالسَّعادةِ أحَد، ولا يَدفَعُ عنهُ الهَوانَ الذي لَحِقَه، ولا يُثابُ بثَوابٍ حسَن، واللهُ يَفعَلُ ما يَشاء، فيُكرِمُ مَنْ شَاء، ويُهينُ مَنْ شَاء، بحُكمِهِ العَدْل.

﴿۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ اخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ الۡحَمِيمُ﴾ [الحج:19]


هذانِ فَريقانِ اختلَفوا وتَخاصَموا في شَأنِ اللهِ أو دِينِه، بينَ مؤمِنٍ وكافِر، فالذينَ كفَروا أُعِدَّتْ أو فُصِّلَتْ لهمْ مُقَطَّعاتٌ مِنْ نَارٍ على قَدْرِ أجسادِهم، ليَلبَسوها إذا صَاروا إلى النِّيران، يُصَبُّ مِنْ فَوقِ رؤوسِهمُ الماءُ الحارُّ الشَّديدُ الحرارَة.

﴿يُصۡهَرُ بِهِۦ مَا فِي بُطُونِهِمۡ وَالۡجُلُودُ﴾ [الحج:20]


يُذابُ بهذا الماءِ الحارِّ ما في بُطونِهمْ مِنَ الأمعاءِ والأحشَاء، وكذلكَ الجُلود، التي تُشوَى بحَرِّ الحَميم، فتَتساقَط.

وقدْ روَى التِّرمذيُّ وصحَّحَهُ منْ قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الحَميمَ لَيُصَبُّ على رؤوسِهم، فيَنْفُذُ الحَميمُ حتَّى يَخلُصَ إلى جَوفِه، فيَسْلِتُ ما في جَوفِهِ حتَّى يَمرُقَ مِنْ قدَمَيه، وهوَ الصَّهْر، ثمَّ يُعادُ كما كان".