﴿وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَادۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [البقرة :23]
وإذا كُنتُمْ في شكٍّ منْ نُبوَّة محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيُّها الكافِرون، فهاتُوا سُورَةً مِنْ مِثْلِ ما جاءَ به، واستعينوا بمن شِئْتُمْ منْ أعوانِكمْ في ذلك، إذا كنتُمْ صادِقينَ في أنَّ القُرآنَ مِنْ عندِ غَيرِ الله.
﴿فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة :24]
فإذا لم تَقْدِرُوا على ذلك، ولنْ تَقْدِرُوا عليه، فاعلَموا أنَّهُ كلامُ اللهِ المعجِزُ الحقُّ، واعلَموا أنَّ وراءَ إنكارِ الحقِّ نارًا عظيمةً مُحرِقَةً، تُضْرَمُ مِنْ أجسادِ الكفرةِ الظالمين، ومِنَ الحجارةِ الصُّلْبَةِ الضَّخمةِ الشديدةِ الاشتِعال، أُرصِدتْ لمنْ كانَ على مِثْلِ ما أنتمْ عليه مِنَ الكفرِ باللهِ ورسولِه.
﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا الَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [البقرة :25]
أمّا المؤمنون، الذينَ آمَنوا بالله، وبنبوَّتِكَ، وبالكتابِ الذي أُنْزِلَ عليك، وشفَعوا ذلك بالعملِ الصالح، والاستِقامةِ والإخلاص، فَأَلْقِ عليهمُ الخَبَرَ السَّارَّ المُفْرِحَ، وبَشِّرْهُمْ بأنَّ لهمْ جِنانًا كبيرةً رائعة، تَجري منْ تحتِها المياهُ العَذبةُ، لتَجلُبَ الأَرْيَحِيَّةَ والنشاطَ، وتُؤْنِسَ وَتَسُرّ.
وإذا أُعطُوا ثَمرًا مِنْ ثِمارِ الجنَّةِ استَبْشَروا وقالوا: إنَّهُ يُشبِهُ الفاكهةَ التي كُنَّا نَأكلُها في الدنيا، وفَرِحُوا بذلك، فإنَّ الطبائعَ تَسْتأنسُ بالمعهودِ، وتَميلُ إلى المألوف.
وتُؤْتَى لهمْ ثِمارٌ مُشابِهةٌ لثمارِ الدنيا، في اللَّونِ والمَظهَرِ، ولكنَّها تختلفُ في الطَّعْمِ والحجمِ.
ولهمْ في الجنةِ أزواجٌ مُطَهَّرَاتُ الأبدانِ منَ القَذَرِ والأذَى.
ولتمامِ سعادتِهم في هذا النعيمِ، فإنَّهمْ خالدونَ في الجنَّةِ، لا انقضاءَ لمُدَّتِهِ ولا آخِر.
﴿۞إِنَّ اللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ الۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا الۡفَٰسِقِينَ﴾ [البقرة :26]
واللهُ لا يَستَحيي أنْ يَضربَ مَثلاً بشيءٍ ما(3) ، صَغُرَ أو كَبُر، مِنْ بعوضٍ فما فوقَها، فإنَّ في كلِّ شيءٍ خلقَهُ حِكمةً وعِظة.
فالذينَ آمنوا يَعلمونَ أنَّ ضربَ المَثَلِ بالبعوضِ حَقٌّ، فيؤمنونَ بهِ وبالحِكمةِ منه، أمّا الكافِرونَ فيَزدادونَ بهِ ضَلالة، ويَقولون: ما قيمةُ البَعوض، وما مَوقِعُهُ في الكونِ حتَّى يُضْربَ بهِ المَثَلُ، وهوَ مِنْ أحقرِ المَخلوقات؟!
والبعوضُ مخلوقٌ عَجيبٌ حقًّا، فهوَ معَ صِغَره، لهُ عينانِ ضَخمتانِ تَتكوَّنانِ منْ آلافِ العدَساتِ السُّداسية، وفي رِجلهِ خمسةُ مَفاصلَ رئيسيَّة، معَ زوجٍ منَ المَخالب، وعَضلاتٌ قوَّيةٌ تَلتصِقُ بجدارِ الصدر، ودَبُّوسٌ للتوازنِ في جناحَيه! ولهُ جِهازٌ يَمنعُ تَجلُّطَ الدم، وقدْ يَمتصُّ دماً أكثرَ منْ وزنهِ مرَّةً ونصفَ المرَّة! ولهُ أكثرُ منْ ثلاثةِ آلافِ نوع، وينقلُ أسوأ الأمراض، وماتَ الملايينُ من البشرِ بسببِ ذلك، وهو موجودٌ في كلِّ أنحاءِ العالم.
(3) المثَل: المثيلُ والمشابِه، وغلبَ على مماثلةِ هيئةٍ بهيئة، أي: جعلَ شيئاً مثلاً، أي: شبهاً، وهو مستعملٌ مجازاً في الوضعِ والجعل. (التحرير والتنوير، باختصار).
﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ اللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي الۡأَرۡضِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡخَٰسِرُونَ﴾ [البقرة :27]
إنَّ الكافِرينَ والمنافقينَ لا عهدَ لهمْ ولا مِيثاق(4) ، فقدْ ترَكوا الإقرارَ بالحقِّ معَ صِحَّةِ أدلَّته، وكذَّبوا الرسلَ والكتبَ المُنـزَلةَ على الأنبياء، معَ علمِهمْ أنَّ ما أتَوا بهِ حقّ، فمُعجزاتُهم شاهِدةٌ على صِدقِهم، ولا طاقةَ لهم بردِّها. وهمْ معَ عِنَادِهِمْ وفسادِ عَقيدتهمْ غيرُ أوفياءَ معَ أقربِ المقرَّبينَ إليهم، فهمْ يَقطعونَ علاقاتِهمْ معَ أهليهمْ وأقرِبائهم، ويُفسِدونَ في الأرضِ بالمعاصي والفِتَنِ وإثارَةِ الشُبُهاتِ حَولَ القُرآن، وقدْ خسروا بهذا وتعرَّضوا إلى غضبِ الله، وحالتْ أعمالُهمُ السيِّئةُ بينَهمْ وبينَ رحمةِ اللهِ العظيمة.
(4) الميثاق: العهدُ المؤكد. (البغوي).
﴿كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [البقرة :28]
كيفَ تَجحَدونَ وجودَ الخالقِ وقدْ كنتُمْ عَدَماً فأخرجَكمْ إلى الوجود، ثمَّ يُميتُكمْ موتةَ الحقّ، ثمَّ يُحييكمْ مرَّةً أخرَى عندَ البَعث؟
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ اسۡتَوَىٰٓ إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾ [البقرة :29]
هوَ الإلهُ الحقّ، الذي خلقَ الأرضَ وما فيها لأجلِكم، ثمَّ استوَى إلى السماءِ (ذهبَ كثيرٌ من المفسِّرينَ إلى أنَّ معناها: قصدَ إلى السماء) فخلقَها سبعَ طبقاتٍ وأحكمَها، وعِلمُهُ محيطٌ بجميعِ ما خَلق، لا يَخفى عليهِ شَيء.
﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي الۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة :30]
واعلمْ يا نبيَّ اللهِ أنَّ ربَّكَ قالَ لملائكتِه: سأجعلُ بني آدمَ خُلفاءَ في الأرض، يَخلُفُ بعضُهم بعضاً، وأسخِّرُ جميعَ ما خلقتُهُ فيها منْ طاقاتٍ وخاماتٍ لهم.
وقدْ فَهِمتِ الملائكةُ منَ الطبيعةِ البشريَّة، أو بإلهامٍ منَ الله، أنَّ منَ البشرِ مَنْ يُفسِدُ في الأرض، ويَستغلُّ طاقاتِها في غيرِ وجهتِها الصَّحيحة، فقالوا استِعلاماً واستكشافاً عنِ الحكمةِ في ذلك، لا اعتراضاً على اللهِ سُبحانَه: يا ربَّنا، أتجعلُ في هذهِ الأرضِ مَنْ يَعيثُ فساداً، ويُريقُ الدماءَ بغَيرِ حقّ، مُتجاوزينَ الحِكمَةَ والصَّواب؟ وإذا كانَ الهدفُ منِ استخلافِهمْ فيها عبادتَك، فها نحنُ نُنَـزِّهُكَ ونَحمَدُكَ ونُمَجِّدك، ونعبدُكَ ونصلِّي لك؟
فقالَ اللهُ لهم: إني أعلمُ منَ المصلحةِ في استخلافِهمْ فيها ما لا تَعلمون، فإذا كانَ فيهمْ مُفسِدون، فإنَّهُ يَكونُ منهمْ أنبياءُ وصِدِّيقون، وأولياءُ للهِ مقرَّبون، وعُلماءُ عامِلون، وعُبّادٌ خاشِعون، وشُهداءُ أبرارٌ في عِلِّيين.
﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى الۡمَلَـٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَـٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [البقرة :31]
وعلَّمَ اللهُ آدمَ أسماءَ الأشياءِ كلِّها، ثمَّ عرضَها على الملائكةِ وقالَ لهم: اذكرُوا لي أسماءَ هذهِ الأشياء، إنْ كنتُمْ صادقينَ في زَعمِكمْ أنَّكمْ أحقُّ بالخِلافَةِ مِنْ آدمَ وذُرِّيَّتِه. فإذا كنتُمْ لا تعلمونَ أسماءَها وأنتُمْ تُشاهدونَها، فأنتُمْ عمّا هوَ غيرُ موجودٍ من الأمورِ الكائنةِ التي لم توجدْ أحرَى أنْ تكونوا غيرَ عالِمينَ بها.
إنَّ الملائكةَ لا حاجةَ لهمْ إلى هذهِ الأشياء؛ لأنَّها لا تُناسبُ طَبِيعتَهم، بلْ هي مختصَّةٌ بابنِ آدم، ولذلكَ جُعلتِ الخِلافةُ لهُ في الأرض، لا لهم.
﴿قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ الۡعَلِيمُ الۡحَكِيمُ﴾ [البقرة :32]
عندَ ذلكَ استسلمتْ ملائكةُ الرحمنِ للحقّ، فقدَّستْهُ ونزَّهتْهُ وقالت: سبحانَك، لا علمَ لنا بشيءٍ إلاّ ما أحطتَنا بهِ منْ عندِك، فأنتَ تعلمُ كلَّ شيء، ولكَ الحكمةُ في خلقِكَ وأمرِك، وتعلِّمُ مَنْ تشاءُ ما تشاء، وتمنعُ مَنْ تشاءُ ممّا تشاء.
﴿قَالَ يَـٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ﴾ [البقرة :33]
وطلبَ اللهُ مِنْ أبينا آدمَ أنْ يَذكرَ للملائكةِ أسماءَ الأشياء، مِنْ أعلامٍ وحيواناتٍ وجمادات، فأنبأهمْ بها، وظهرَ فضلُهُ في ذلك، منْ علمِ ما لا يَعلمونه، فقالَ اللهُ لهم: ألم أقلْ لكمْ إنِّي أعلمُ علمَ الغَيب، فلا يَخفى عليَّ شيءٌ مِنْ أمرِهمْ وأمرِكمْ وما في الكونِ جميعاً، وأعلمُ ما تُسِرُّونَ في أنفسِكمْ وما تُظهِرونَه، فما خفيَ عليَّ قولُكم: مَنْ يُفسدُ فيها، ولا خفيَ عليَّ أمرُ إبليسَ في خلافِ أمرِي والتكبُّرِ على طاعتي.
﴿وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ اسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَاسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة :34]
وقدْ كرَّمَ اللهُ آدمَ عليهِ السلامُ عندما قالَ لملائكته: اسجُدوا لآدم، فسجَدوا لهُ طاعةً لربِّهم، فكانتِ السجدةُ لآدم، والطاعةُ لله، كرامةٌ منَ اللهِ أكرمَ بها آدم. إلاّ إبليس، الذي كانَ بينَهم، وهوَ مِنَ الجنّ، أبَى أنْ يَسجُدَ له، تكبرُّاً واستِعلاء، فكانَ بذلكَ مِنَ العاصينَ الضالِّين.
﴿وَقُلۡنَا يَـٰٓـَٔادَمُ اسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ الۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [البقرة :35]
بعدَ هذا التكريمِ لآدم، أباحَ اللهُ لهُ الجنَّةَ ليَسكُنَ فيها حيثُ يَشاء، هوَ وزوجُهُ حوّاء، ويأكلا منها في رَغَدٍ وهَناء، وسَعَةٍ وسَعادة، لكنْ حذَّرهما فقال: لا تَقْرَبا هذهِ الشجرة، وعيَّنها لهما، فإنَّكما إذا أكلتُما منها عَصيتُما ربَّكما وظلمتُما أنفُسَكما، ووقعتْ عليكما عاقبةُ المخالفَة.
وكانَ ذلكَ امتحاناً لهما، وتوجيهاً لسلوكِهما، ولتعليمِهما الوفاءَ بالشرط، ولابدَّ في ذلكَ مِن إرادَة.
﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا اهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي الۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ﴾ [البقرة :36]
لكنَّ الشيطانَ أغواهما ونحّاهما عنِ الجنَّةِ عندَما زيَّنَ لهما الأكلَ مِنَ الشجرةِ فأكلا منها! وأخرجَهما بذلكَ منَ الجنّاتِ الجميلةِ وما فيها مِنْ رزقٍ هنيءٍ وراحةٍ ومَنـزلٍ رَحب، فقالَ اللهُ لهما عَقِبَ هذا العِصيانِ ما تَفسيره: انزلا منَ الجنَّةِ إلى الأرض، لتتحكَّمَ العداوةُ بينكمْ وبينَ الشيطانِ، الذي غرَّكمْ فأخرجَكمْ منْ هذا النعيم، وسيكونُ لكمْ قرارٌ في الأرض، ورِزق، ورَغبةٌ وانتِفاع، ولكنْ إلى زَمَنٍ مَحدود.
﴿فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة :37]
وعرفَ آدمُ ذنبَهُ ونَدِم، واستغفرَ ربَّهُ وطلبَ منهُ الصفحَ والمغفرة، فقبِلَ توبتَه، إنَّهُ كثيرُ الغُفرانِ لذنوبِ عبادهِ المؤمنين، رحيمٌ بهم(5) .
(5) ... وأما قوله: {الرَّحِيمُ}، فإنه يعني أنه المتفضِّلُ عليه مع التوبةِ بالرحمة. ورحمتهُ إيَّاهُ إقالةُ عثرته، وصَفحهُ عن عقوبةِ جُرمه. (الطبري).
﴿قُلۡنَا اهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ [البقرة :38]
تكريرٌ وتحذيرٌ مِنْ جَديد، لآدمَ وذرِّيتِه، حتَّى لا يَقعوا في الخطأ مرَّةً أخرى: انزِلوا إلى الأرض، فإذا بَعثتُ إليكمْ أنبياءَ ورُسلاً، وأنزلتُ عليكمْ كتُباً لتهتَدوا بها، واتَّبعتُمْ هذا الهَدي، فلا تَضِلُّونَ في الدنيا، ولا تَشقَوْنَ في الآخِرَة، ولا تَحزنونَ على ما فاتَكمْ منْ أمورِ الدنيا، ولا تخافونَ ما ينتظرُكمْ يومَ القيامة.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ النَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [البقرة :39]
أمَّا مَنْ كَفَرَ وكذَّبَ بأنبيائنا وكُتُبِنا، فهمْ أصحابُ النار، لا مَحِيدَ لهمْ عنها ولا محيص، خالدينَ فيها أبدًا.
﴿يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ اذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ الَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِيَّـٰيَ فَارۡهَبُونِ﴾ [البقرة :40]
يا أبناءَ إسرائيلَ (يعقوبَ) النبيِّ الكريمِ المطيعِ لله، تذكَّرُوا نِعمتي عَليكمْ أنْ جعلتُ منكمْ أنبياءَ ومُلوكاً، وأنزلتُ عليكمُ الكتُب، وأنجَيتُكُمْ مِنْ عُبوديةِ فِرعَونَ وآلِه... وأوفوا بالعهدِ الذي طَلبتُ منكمُ الإيفاءَ به، وهوَ اتِّباعُ دينِ الإسلامِ ومتابعةُ النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إذا أُرسِل، فإذا وَفَيتُمْ بالعهدِ الذي في أعناقِكم، رَضِيتُ عنكمْ وأدخلتُكمُ الجنَّة، وإنْ لم تَفعَلوا فاذكروا ما أنزلتُ بآبائكمْ مِنَ النِّقم، كالمسخِ وغيره، فإنِّي قادرٌ على أنْ أُنزلَ بكمْ ما أنزلتهُ بهم.
﴿وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۭ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّـٰيَ فَاتَّقُونِ﴾ [البقرة :41]
وآمِنوا بالقرآنِ المُنـزَلِ على النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، المصدِّقِ لِما معَكم، ممَّا هوَ مَكتوبٌ في التوراةِ والإنجيل، ولا تكونوا -يا يهودَ المدينةِ- أوَّلَ مَنْ يَكفرُ بنبوَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَني إسرائيل. ولا تَستبدلُوا بالإيمانِ وتصديقِ رسولي الدنيا وشهواتِها القليلةَ الفانية، وأطيعوني رجاءَ رَحمَتي بكمْ وهدايَتِكُمْ وإنقاذِكُمْ مِنَ العذاب.
﴿وَلَا تَلۡبِسُواْ الۡحَقَّ بِالۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُواْ الۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة :42]
ولا تَخلِطوا الحقَّ بالباطلِ والصدقَ بالكذب، ولا تسكتُوا عنِ الحقِّ فتَكتموهُ وأنتُمْ تَعلمونَ أنَّهُ الحقّ، فإنَّ عندَكمْ معرفةً برسولي وبما جاءَ به، وهوَ مَكتوبٌ عندَكم، فلِمَ لا تُعلنونَ الإيمانَ به، بلْ تَكذِبونَ وتَقولونَ إنَّهُ ليسَ بنبيّ؟!
﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ وَارۡكَعُواْ مَعَ الرَّـٰكِعِينَ﴾ [البقرة :43]
فآمِنوا به، وصلُّوا معَه، وادفعُوا زكاةَ أموالِكمْ إليه، وكونوا معَ مَنْ آمنَ بهِ مِنْ أصحابهِ في أحسنِ أعمالِهم، واركَعوا للَّهِ معَهمْ كما يَركعون.
﴿۞أَتَأۡمُرُونَ النَّاسَ بِالۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ الۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [البقرة :44]
أتَطلُبونَ مِنَ الناسِ أنْ يَعمَلوا الخيرَ ولا تَعملونَ أنتمْ به، وعندَكمُ العِلم، بما تقرؤونَهُ في الكتُب، وتَعلمونَ جزاءَ مَنْ خالفَ أمرَ اللهِ في ذلك؟ ألا تتنبَّهونَ إلى خطأ ما أنتمْ فيهِ وخطَرهِ عليكم؟ فهلاّ اتَّصفتُمْ بالعقلِ وعمِلتمُ الخيرَ كما تأمرونَ بهِ الناس؟
﴿وَاسۡتَعِينُواْ بِالصَّبۡرِ وَالصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الۡخَٰشِعِينَ﴾ [البقرة :45]
واستعينوا أيُّها المؤمنونَ على طَلَبِ الخيرِ في الآخِرةِ والدنيا، بالصبرِ على طاعةِ الله، والصَّلاة. فإنَّ الصبرَ لابدَّ منهُ في كلِّ أمرٍ شاقّ، والصلاةُ تُعِينُ على الثباتِ على الأمر، وهي شاقَّةٌ وثقيلةٌ إلاّ على المتَواضِعينَ المُطيعينَ لله.
﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾ [البقرة :46]
الذينَ يؤمنونَ بوعدِ اللهِ ووعيده، وبأنَّهمْ محشورونَ إليهِ يومَ القيامة، وأنَّ أعمالَهمْ معروضةٌ عليه. وهذا الإيمانُ هوَ الذي يدفعُهمْ إلى طاعتِه، وتجنُّبِ معاصيه.
﴿يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ اذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ الَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى الۡعَٰلَمِينَ﴾ [البقرة :47]
واذكروا يا بني إسرائيلَ نِعَمِي على آبائكمْ وأسلافِكم، وأنِّي فضَّلتُكمْ آنَذَاكَ على العالَمين، بإرسالِ الرسلِ إليهم، وإنزالِ الكتبِ عليهم، وجعَلتُهمْ سادَةً ومُلوكًا.
﴿وَاتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡـٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ﴾ [البقرة :48]
واحذَروا يومَ الجزاء، الذي لا يُغني فيهِ أحدٌ عنْ آخَر، ولا يُقْبَلُ مِنْ كافرٍ تقرُّبٌ ولا فِداءٌ للتجاوُزِ عنْ كُفرهِ ومَعصِيَته، ولا أحدَ يدافعُ عنهُ وينْصُرهُ ليُنقذَهُ منَ العذاب، فكلُّ نفسٍ مسؤولةٌ عنْ نفسِها.
﴿وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ الۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ﴾ [البقرة :49]
واذكروا يا بني إسرائيلَ مِنْ نِعَمِي عَليكمْ إنقاذَكُم مِنْ ظُلمِ فِرعَونَ وآلِه، عندَما كانوا يُذِيقُونَكمْ أقسَى أنواعِ العذابِ وآلَمَه، فيَذبَحونَ كلَّ ذَكَرٍ يُولَدُ فيكم، ويُبْقُونَ على بناتِكم؛ خَوفاً مِنْ أنْ يكونَ زوالُ مُلكهِ على يدَي رَجُلٍ منكم. وفي إنقاذِكمْ مِنْ هذا العَذابِ نعمةٌ عَظيمةٌ مِنْ ربَّكمْ عليكم، فلا تَنْسَوْها.
﴿وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ الۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ﴾ [البقرة :50]
واذكُروا عندَ خروجِكمْ معَ موسى استنفارَ فرعونَ جيشَهُ لمتابعتِكمْ والقضاءِ عليكم، فانفلقَ البحرُ لكمْ وخلَّصكمُ اللهُ منهم، فحجزَ بينَكمْ وبينَهم، وأغرقَهم، وأنتمْ تَنظُرونَ إليهم.
﴿وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ اتَّخَذۡتُمُ الۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ﴾ [البقرة :51]
واذكروا أيضاً عندَما ذهبَ موسى إلى ميقاتِ ربِّهِ للمناجاة، مُسْتَخْلِفاً هارونَ عليكم، وبقيَ أربعينَ يوماً، وأُنزِلَتْ عليهِ التوراة، ثمَّ اتَّخذتُمُ العِجلَ إلهاً وعَبدتموهُ بتَسويلِ السامريِّ لكم، مِنْ بَعدِ غَيبَةِ موسَى عَنكم. وقدْ كانَ عملُكمْ هذا ظُلماً عظيماً، باتِّخاذِكمُ العِجْلَ إلهًا دونَ الله.
﴿ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [البقرة :52]
ومعَ هذا فقدْ عفا اللهُ عنكم، لعلَّكمْ تشكرونَه، وتَعرفونَ نعمتَهُ عَليكم.
﴿وَإِذۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى الۡكِتَٰبَ وَالۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [البقرة :53]
واذكروا منْ نِعَمِنا عليكمْ أنْ أَعْطَيْنا موسى التوراة: كتابًا مُنَـزَّلاً، وحجةً يُفَرِّقُ بينَ الحقِّ والباطل، لعلَّكمْ تَهتدونَ بالتدبُّرِ فيهِ والعملِ بما يَتضمَّنه.