تفسير الجزء 22 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الثاني والعشرون
22
سورة الأحزاب (31-73)
سورة سبأ
سورة فاطر
سورة يس (1-27)

﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبۡدِيلٗا﴾ [الأحزاب:62]


وهذهِ سُنَّةُ اللهِ وحُكمُهُ في المُفسِدينَ والمُنافِقينَ مِنَ الأُمَمِ الماضيَةِ كذلك، إذا تمَرَّدوا ولم يَرجِعوا إلى الحقّ، أنْ يُفعَلَ بهمْ ذلك، ولنْ تَجِدَ لهذهِ السنَّةِ تَبدُّلاً وتَغيُّرًا، فهيَ مَبنيَّةٌ على الحقِّ والعَدل.

﴿يَسۡـَٔلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ اللَّهِۚ وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الأحزاب:63]


يَسألُكَ النَّاسُ عنْ وَقتِ مجيءِ القِيامة، قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: لا يَعلَمُ وَقتَها إلاّ الله، ولم يُطْلِعْ عليهِ أحَدًا. وأيُّ شَيءٍ يُعْلِمُكَ بوَقتِ قيامِها؟ فلعلَّها تقَعُ قَريبًا.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الۡكَٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمۡ سَعِيرًا﴾ [الأحزاب:64]


إنَّ اللهَ أبعدَ الكافِرينَ وطرَدَهمْ مِنْ رَحمَتِه، وهيَّأ لهمْ في الآخِرَةِ نارًا شَديدَةً مُستَعِرَة.

﴿خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّا يَجِدُونَ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا﴾ [الأحزاب:65]


يَبقُونَ في جهنَّمَ دائمًا، لا يَموتونَ فيها ولا يَزولونَ عَنها، ولا يَجِدونَ فيها حافِظًا ومُتوَلِّيًا يُغيثُهم، ولا مُعينًا يُنقِذُهمْ ممَّا هُمْ فيه.

﴿يَوۡمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمۡ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَٰلَيۡتَنَآ أَطَعۡنَا اللَّهَ وَأَطَعۡنَا الرَّسُولَا۠﴾ [الأحزاب:66]


في ذلكَ اليَومِ الشَّديدِ تُقَلَّبُ وجوهُهمْ في النَّارِ مِنْ جِهَةٍ إلى جِهَة، ليَذوقُوا ألَمَ العَذابِ أكثَر، فيَقولونَ نادِمينَ مَقهورين: يا لَيتَنا سَمِعنا كلامَ اللهِ وأطَعنا رَسُولَهُ في الحيَاةِ الدُّنيا، حتَّى لا نُعَذَّبَ في هذا المَكان.

﴿وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا۠﴾ [الأحزاب:67]


وقالوا: ربَّنا إنَّنا اتَّبَعنا أشرَافَنا وقادَتَنا ومَسؤولينا، فحرَّفوا أفكارَنا، وزَيَّنوا لنا الباطِل، وأبعَدونا عنِ طَريقِ الإيمانِ والهِدايَة.

﴿رَبَّنَآ ءَاتِهِمۡ ضِعۡفَيۡنِ مِنَ الۡعَذَابِ وَالۡعَنۡهُمۡ لَعۡنٗا كَبِيرٗا﴾ [الأحزاب:68]


ربَّنا فآتِهمْ ضِعفَي عَذابِ غَيرِهم، لضَلالِهم، وإضلالِهم، وأبعِدْهمْ مِنْ رَحمَتِكَ بُعدًا كثيرًا.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهٗا﴾ [الأحزاب:69]


أيُّها المؤمِنون، لا تَكونوا كبَعضِ بَني إسْرائيلَ الذينَ آذَوا نَبيَّهمْ موسَى بما آذَوهُ به، فأظهرَ اللهُ بَراءَتَهُ وطهَّرَهُ مِنْ أذيَّتِهمْ وإفكِهمْ فيه(113)، وكانَ ذا وَجاهَةٍ ومَنزِلَةٍ وكرَامَةٍ عندَ رَبِّه، فلا تَفعَلوا معَ نَبيِّكمْ كما فعلَهُ أولئك، ولا تَسمَعوا أكاذيبَ المنافِقينَ وشائعاتِهمْ فيه، لئلاّ تقَعُوا في حَبائلِهمْ وتَرتَكِبوا مَحظورًا.

(113) في الحديثِ الصحيح: "كانتْ بنو إسرائيلَ يَغتَسلون عُراةً، يَنظُرُ بعضُهم إلى بعضٍ، وكان موسى يَغتَسلُ وحدَه، فقالوا: واللهِ ما يَمنَعُ موسى أن يَغتَسلَ معَنا إلا أنه آدَرُ، فذهبَ مرةً يَغتسِلُ، فوَضعَ ثوبَهُ على حجَرٍ، ففرَّ الحجَرُ بثوبِه، فخرَجَ موسى في إثرِه يقول: ثوبي يا حجَرُ، حتى نظرَتْ بنو إسرائيلَ إلى موسى، فقالوا: واللهِ ما بموسى من بأس. وأخذَ ثوبَه، فطفِقَ بالحجَرِ ضربًا". فقال أبو هُرَيرة: واللهِ إنه لنُدَبٌ بالحجَرِ، ستةٌ أو سبعةٌ، ضربًا بالحجر. رواه الشيخان، واللفظ للبخاري. والآدر: المنفوخُ الخصية. والندب: أثَرُ الضَّربِ في الحَجر.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا﴾ [الأحزاب:70]


أيُّها المؤمِنون، اخشَوا اللهَ وأطيعُوهُ ولا تُخالِفوا أمرَه، وقُولوا قَولاً مُستَقيمًا لا اعوِجاجَ فيه، غَيرَ جائرٍ ولا باطِل.

﴿يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:71]


فإنْ تَفعَلوا ذلكَ يُثِبْكُمْ ويُزَكِّ أعمالَكمُ الحسَنة، ويُضاعِفِ الأجرَ لكم، ويَتقَبَّلْها منكم، ويُوَفِّقْكُمْ للتَّوبَة، ويَغفِرْ ذُنوبَكم، ومَنْ يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ فقدْ ظفَرَ بالنَّعيمِ المُقيم، وأُجيرَ مِنَ العَذابِ الألِيم.

﴿إِنَّا عَرَضۡنَا الۡأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَالۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا الۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا﴾ [الأحزاب:72]


إنَّا عرَضْنا الفرائضَ والتَّكاليفَ على السَّماواتِ والأرضِ والجِبال، وأوجَبْنا تلقِّيها بحُسنِ الطَّاعَةِ والانقياد، والمحافَظةَ عليها وأداءَها وعدَمَ الإخلالِ بها، فإنْ أحسنَتْ أُثيبَت، وإنْ عصَتْ وضيَّعَتْ عُوقِبَت، عرَضْناها عَليها عَرْضَ تَخييرٍ لا إجبَار، فأبَتْ أنْ تَحمِلَ هذهِ الأمانَة، خَوفًا مِنْ أنْ لا تَقومَ بحَقِّها. وعرَضَ اللهُ هذهِ الأمانةَ على الإنسَان، إنْ قامَ بحَقِّها أُثيب، وإنْ ترَكَها عُوقِب، فقَبِلَ حَملَها، وبيَّنَ استِعدادَهُ للالتِزامِ بها، والمُحافظَةِ عَليها، وأدائها كما يَجِب، إنَّهُ كانَ بذلكَ مُفرِطًا في الظُّلمِ لنَفسِهِ والإضرارِ بها، مُبالِغًا في الجَهلِ بما قَبِلَه، مُعتَدًّا بنَفسِهِ عندَما وافَقَ على شُروطِ هذهِ الأمانَةِ الصَّعبَة.

﴿لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الۡمُنَٰفِقِينَ وَالۡمُنَٰفِقَٰتِ وَالۡمُشۡرِكِينَ وَالۡمُشۡرِكَٰتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الۡمُؤۡمِنِينَ وَالۡمُؤۡمِنَٰتِۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمَۢا﴾ [الأحزاب:73]


ليُعَذِّبَ اللهُ بذلكَ مَنْ لا يَقومُ بحَملِ هذهِ الأمانَةِ كما يَنبَغي، وهمُ المُنافِقونَ والمُنافِقات، الذينَ يُظهِرونَ الإيمانَ ويُبطِنونَ الكُفر، والمشرِكونَ والمشرِكات، وهمُ الذينَ ظاهِرُهمْ وباطِنُهمُ الشِّركُ باللهِ ومُخالَفَةُ أمرِه، وليَغفِرَ اللهُ بذلكَ للمؤمِنينَ والمؤمِناتِ لِمَا فرَطَ منهم، الذينَ آمَنوا باللهِ وصَدَقوا في إيمانِهمْ وأخلَصُوا فيه، وأدَّوا الأمانَةَ كما يَنبَغي، واللهُ كثيرُ المَغفِرَةِ لذُنوبِ عِبادِهِ التَّائبين، رَحيمٌ بمؤمِنيهمْ رَحمَةً واسِعَة.

وهذهِ هيَ طَبيعَةُ الإنسان... فمنهمْ مَنْ يَفي بعَهدِ اللهِ وميثاقِهِ ويَصبِر، وهمُ المؤمِنون، ومنهمْ مَنْ يَلتَزِمُ ببَعضِهِ ظاهِرًا وهوَ لا يُريدُهُ باطِنًا، وهمُ المنافِقون، ومنهمْ مَنْ يَعصِي ويَخونُ، ويُكَذِّبُ الحقَّ ويُفسِد، فلا يَقومُ بذلكَ ظاهِراً ولا باطِنًا، وهمُ الكُفَّارُ والمشرِكون.

سورة سبأ - مكية - عدد الآيات: 54

34

﴿الۡحَمۡدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُۥ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِ وَلَهُ الۡحَمۡدُ فِي الۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ الۡحَكِيمُ الۡخَبِيرُ﴾ [سبإ:1]


الشُّكرُ للهِ والثناءُ عَليهِ بما هوَ أهلُه، الذي لهُ كُلُّ ما في السَّماواتِ والأرض، خَلقًا، ومُلكًا، وتَدبيرًا، فالجَميعُ مُلكُهُ وعَبيدُهُ وتحتَ قَهرِهِ وسُلطانِه، وهوَ المَحمودُ في الآخِرَةِ على ما قضَى بالحقِّ وعدَل، وأثابَ عِبادَهُ المؤمِنينَ بالنَّعيمِ المُقيمِ وزيَادةً على ما يَستَحِقُّون، وهوَ المَحمودُ في كُلِّ وَقتٍ وحين، يَحمَدُهُ مَلائكتُهُ وعِبادٌ لهُ ومَنْ لا نَفقَهُ تَسبِيحَهم، وهوَ الحَكيمُ في تَقديرِهِ وتَدبيرِه، الخبيرُ بظَواهرِ الأشياءِ وبَواطنِها.

﴿يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ فِي الۡأَرۡضِ وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعۡرُجُ فِيهَاۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الۡغَفُورُ﴾ [سبإ:2]


يَعلَمُ ما يَدخلُ في باطنِ الأرْض، مِنْ قَطْرِ الماء، وبذورِ النَّباتِ والشَّجَر، والرِّمالِ والصُّخور، والموتَى مِنْ أصنافِ الحيَوان، وما يَخرُجُ منها، مِنَ النَّباتِ والمعادِنِ وغَيرِها، عَدَدِها وكَيفيَّتِها ووَقتِها وأينَ تَصير، وما يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ضِياءٍ ومطَرٍ وقُوتٍ ومَقاديرَ، وما يَصعَدُ فيها مِنَ الملائكَةِ والأعمالِ الصَّالِحَةِ وغَيرِها. وهوَ الرَّحيمُ بعِبادِهِ فلا يُعاجِلُهمْ بالعُقوبَة، الغَفورُ لذُنوبِ التَّائبينَ منهمْ وإنْ أفرَطوا فيها.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا السَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ الۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي الۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ﴾ [سبإ:3]


وقالَ الكافِرونَ المُكَذِّبونَ بالبَعث: لا حياةَ بعدَ الموت، ولا تأتينَا القِيامةُ كما تَزعُم. قُلْ لهمْ أيُّها الرَّسُول: بلَى واللهِ ستُبعَثونَ بعدَ الموت، وتَفجَؤكمُ السَّاعَةُ بقِيامِها، فلا يَعلَمُ وَقتَها إلاّ الله، العالِمُ بما غابَ عنِ الإنسَانِ والملائكَةِ وجَميعِ العِباد، لا يَغيبُ عَنْ عِلمِهِ مِقدارُ ذَرَّةٍ كائنَةٍ في السَّماواتِ أو في الأرْض، أو أصغَرُ منها أو أكبَر، وكُلُّ ذلكَ مُدَوَّنٌ في اللَّوحِ المَحفوظ.

﴿لِّيَجۡزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ﴾ [سبإ:4]


ليُثيبَ المؤمِنينَ المُخلِصينَ على ما قَدَّموا مِنْ أعمالٍ حسَنَةٍ في الدُّنيا، أولئكَ لهمْ مَغفِرَةٌ لِما فرَطَ منهمْ مِنْ ذُنوب، ورِزقٌ حسَنٌ طَيِّبٌ أعَدَّهُ اللهُ لهمْ في جنَّاتِ النَّعيم.

﴿وَالَّذِينَ سَعَوۡ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مُعَٰجِزِينَ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مِّن رِّجۡزٍ أَلِيمٞ﴾ [سبإ:5]


والذينَ سعَوا في الكُفرِ بآياتِنا، واجتَهَدوا بالصدِّ عنْ رِسالاتِنا، والتَّكذيبِ برُسُلِنا، وجاهَدوا في إبطالِها، فأولئكَ لهمْ سَيِّءُ العَذاب، وأشَدُّهُ وآلمُه(114).

(114) {سَعَوْا}: السَّعْيُ: المشيُ السَّريع، وهو دونَ العَدْو، ويستعملُ للجدِّ في الأمر، خيرًا كان أو شرًّا، قالَ تعالى: {وَسَعَى فِي خَرَابِها} [سورة البقرة: 114]... (مفردات الراغب). {سَعَوْا فِي آيَاتِنَا}: اجتهدوا بالصدِّ عنها ومحاولةِ إبطالها، فالسعيُ مستعارٌ للجدِّ في فعلٍ ما. (التحرير). {آيَاتِنَا}: أدلتِنا وحججِنا. (الطبري). آياتِنا القرآنية، بالردِّ والطعنِ فيها، ومنعِ الناسِ عن التصديقِ بها. (روح البيان).

﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الۡعِلۡمَ الَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الۡحَقَّ وَيَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطِ الۡعَزِيزِ الۡحَمِيدِ﴾ [سبإ:6]


ويَعلَمُ أُولو العِلمِ والفَهمِ مِنْ أصحابِك، ومُؤمِني أُمَّتِك، ومَنْ آمنَ مِنْ أهلِ الكِتاب، أنَّ القُرآنَ هوَ الكتابُ الحَقُّ المُنْزَلُ مِنْ عندِ اللهِ عَليك، لا شَكَّ فيه، وأنَّهُ يُرشِدُ إلى دِينِ الإسْلام، صِراطِ اللهِ المستَقيم، العَزيزِ الذي لا يُقهَرُ ولا يُغالَب، المَحمودِ في ذاتِهِ وجَميعِ شُؤونِه.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلۡ نَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ يُنَبِّئُكُمۡ إِذَا مُزِّقۡتُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمۡ لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍ﴾ [سبإ:7]


وقالَ الكافِرونَ مُستَهزِئين: هلْ ندُلُّكمْ على أمرٍ عجَب! رَجُلٌ يُخبِرُكمْ أنَّكمْ إذا مُتُّمْ وتقَطَّعَتْ أجسادُكمْ وتفرَّقَتْ في الأرْض، عُدتُمْ بعدَها أحياءً مرَّةً أُخرَى؟! يَعنُونَ محمَّدًا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

﴿أَفۡتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِۦ جِنَّةُۢۗ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِالۡأٓخِرَةِ فِي الۡعَذَابِ وَالضَّلَٰلِ الۡبَعِيدِ﴾ [سبإ:8]


وقالوا في كُفرِهم: هلْ كذَبَ محمَّدٌ على رَبِّهِ إذْ نسَبَ إليهِ القَولَ بالبَعث، واختَلقَهُ مِن عِنده، أمْ أنَّ بهِ جُنونًا فتوَهَّمَ ذلكَ وقالَه(115)؟

إنَّ الأمرَ ليسَ كذلك، فإنَّ نَبيَّ اللهِ صادِقٌ راشِد، ولكنَّ مُنكِري يَومِ القيامَةِ جهَلَةٌ بَعيدونَ عنِ الفَهمِ والإدراكِ لِمَا هوَ حَقّ، وهمْ سَائرونَ بهذا إلى العَذابِ والهَلاك.


(115) {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}: الافتراءُ هو الكذب، وهو مرادفُ الاختلاق، وكأن أصلَهُ كنايةٌ عن الكذبِ وتلميح، وشاعَ ذلك حتى صارَ مرادفًا للكذب. (ينظر: التحرير والتنوير، عند تفسيرِ الآيةِ 94 من سورةِ آلِ عمران).

﴿أَفَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالۡأَرۡضِۚ إِن نَّشَأۡ نَخۡسِفۡ بِهِمُ الۡأَرۡضَ أَوۡ نُسۡقِطۡ عَلَيۡهِمۡ كِسَفٗا مِّنَ السَّمَآءِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّكُلِّ عَبۡدٖ مُّنِيبٖ﴾ [سبإ:9]


ألَا يَنظُرونَ إلى ما حَولَهم، مِنْ أمامِهمْ ومِنْ خَلفِهم، وأينَما سارُوا، كيفَ يَجِدونَ السَّماءَ وقدْ أحاطَتْ بهم، والأرضَ وقدِ انبَسَطَتْ مِنْ تَحتِهم، فإذا شِئنا زَلزَلنا الأرضَ مِنْ تَحتِ أقدامِهم، أو أسقَطنا عَليهمْ قِطَعًا مِنَ السَّماءِ كما فعَلنا بأقوَامٍ سابِقين؛ لكُفرِهمْ وتَكذيبِهمْ رسُلَ الله، وفي ذلكَ دَليلٌ على قُدرَةِ اللهِ على البَعث، لكُلِّ عَبدٍ مُتفَكِّرٍ راجِعٍ إلى رَبِّه، تائبٍ إليه.

﴿۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَالطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ الۡحَدِيدَ﴾ [سبإ:10]


ولقدْ آتَينا عَبدَنا داودَ النبوَّة، والزَّبورَ، والمُلْكَ، والصَّوتَ الحسَنَ المؤثِّر، فهوَ نِعمَةٌ إذا وُجِّهَ إلى طاعَةِ الله، وأمَرنا الجِبالَ أنْ سَبِّحي معَهُ إذا سَبَّح، وكذلكَ الطَّير، وألَنَّا لهُ الحَديد، يَتصَرَّفُ فيهِ بينَ يَدَيهِ كالعَجين، مُعجِزَةً له.

﴿أَنِ اعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي السَّرۡدِۖ وَاعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ﴾ [سبإ:11]


وقُلنا له: اعمَلْ مِنَ الحَديدِ دُروعًا كامِلَةً طَويلَة، ونَظِّمْ حلَقاتِ الدِّرْعِ بشَكلٍ حسَن، فلا تَجعَلِ المسامِيرَ في حلَقاتِهِ دَقيقَةً فتَفلِت، ولا غَليظَةً فتَكسِرَ الحِلَق، ولكنِ اقصِدْ في ذلكَ وتوَسَّطْ على قَدْرِ الحاجَة. واعمَلوا الأعمالَ الصَّالِحَةَ يا آلَ داودَ على ما أعطاكُمُ اللهُ مِنَ النِّعَم، إنِّي مُراقِبٌ أحوَالَكم، بَصيرٌ بما تَعمَلون، وسأجازيكُمْ على ذلك.

﴿وَلِسُلَيۡمَٰنَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهۡرٞ وَرَوَاحُهَا شَهۡرٞۖ وَأَسَلۡنَا لَهُۥ عَيۡنَ الۡقِطۡرِۖ وَمِنَ الۡجِنِّ مَن يَعۡمَلُ بَيۡنَ يَدَيۡهِ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَمَن يَزِغۡ مِنۡهُمۡ عَنۡ أَمۡرِنَا نُذِقۡهُ مِنۡ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [سبإ:12]


وسَخَّرنا لعَبدِنا سُليمانَ بنِ داودَ الرِّيح، تَجري بهِ في الغَداةِ مَسيرَةَ شَهر، وفي العَشيِّ كذلك، وأذَبْنا لهُ النُّحاسَ كما ليَّنَّا لداودَ الحَديد، مُعجِزَةً له، وسَخَّرنا لهُ الجِنَّ، يَعمَلونَ بينَ يدَيهِ بأمرِنا، ومَنْ يَخرُجْ منهمْ عمَّا أمَرناهُ بهِ مِنْ طاعَةِ سُلَيمان، نُصْلِهِ عَذابًا كعَذابِ جهنَّم.

﴿يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَالۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ اعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبإ:13]


يَعمَلُ لهُ الجِنُّ ما يَشاءُ مِنْ أبنيَةٍ وقُصورٍ جَميلَة، وتَماثيلَ مِنْ نُحاسٍ وزُجاجٍ ورُخام، وأوانٍ للطَّعامِ كالأحوَاضِ العَظيمَة، وقُدورٍ لطَبخِ الطَّعام، ثابِتاتٍ في أماكنِها لا تَتحَرَّك، لعِظَمِها، فاعمَلوا شاكِرينَ يا آلَ داودَ على ما أنعمَ اللهُ عَليكمْ في الدِّينِ والدُّنيا، وقَليلٌ مِنْ عِبادي مَنْ يَقومُ بحَقِّ الشُّكرِ في كُلِّ أحوَالِه، قَلبًا ولِسانًا.

﴿فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ الۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ الۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ الۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي الۡعَذَابِ الۡمُهِينِ﴾ [سبإ:14]


فلمَّا حكَمنا على سُلَيمانَ بالمَوت، ما دَلَّ الجِنَّ على مَوتِهِ إلاّ حشَرَةُ الأَرَضَة، وهيَ سُوسَةُ الخشَب، فكانَتْ تأكُلُ عصَاهُ التي كانَ مَتَوكِّئًا عَليها، فلمَّا ضَعُفَتْ سقطَ على الأرْض، فعَلِمَتِ الجِنُّ أنَّهمْ لو كانوا يَعلَمونَ الغَيبَ كما يَدَّعون، لشعَروا بمَوتِه، ولمَا بَقُوا في الشَّقاءِ والعَمَلِ الصَّعبِ الذي كانَ يُكَلِّفُهمْ بهِ سُلَيمانُ عَليهِ السَّلام.

﴿لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَاشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ﴾ [سبإ:15]


لقدْ كانَ لقَبيلَةِ سبَإٍ في مَسكَنِهمْ مأرِبَ باليَمَنِ عَلامَةٌ بارِزَةٌ وعِبرَةٌ واضِحَة، فكانَ لهمْ بُستَانانِ عَظيمانِ عنْ يَمينِ بلَدِهم، وشِمالِه، فكُلوا مِنْ ثِمارِ هاتَينِ الجنَّتَينِ اللَّتينِ أنعمَ اللهُ بهما عَليكم، واهنَؤوا بهما، واشكُروا لهُ على هذا الرِّزقِ الكريم، ولا تُسرِفوا ولا تَبطَروا، ولا تَنسوا الفُقَراءَ ممَّا أنعَمَ اللهُ بهِ عَليكم. إنَّها بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ مُبارَكَة، تُنبِتُ لكمْ ما تَشتَهونَ مِنَ الزَّرعِ والثَّمَر، ورَبٌّ كَريمٌ يَرزُقُكم، ويَغفِرُ لكمْ ما فرَطَ منكم، ما دُمتُمْ مُوَحِّدينَ شاكِرين.

﴿فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سَيۡلَ الۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ﴾ [سبإ:16]


فأعرَضوا عنِ التَّوحيدِ والطَّاعَة، ولم يَشكرُوا رَبَّهمْ على نِعَمِهِ عَليهم، بلْ ضَلُّوا وعبَدوا الشَّمس، فأرسَلنا عَليهمُ السَّيلَ الشَّديدَ الذي لا يُطاق، وبَدَّلناهُمْ ببُستانَيهمُ الكَبيرَينِ المَليئَينِ بأنوَاعِ الثِّمارِ، بُستانَينِ ذَواتَي ثمَرٍ مُرٍّ، ونبَاتِ الأثْلِ ذي الأغصَانِ المُعَقَّدَةِ والأورَاقِ الدَّقيقَة، وشجَرِ السِّدْرِ ذي الشَّوكِ الكثيرِ والثَّمَرِ القَليل.

﴿ذَٰلِكَ جَزَيۡنَٰهُم بِمَا كَفَرُواْۖ وَهَلۡ نُجَٰزِيٓ إِلَّا الۡكَفُورَ﴾ [سبإ:17]


وقدْ جزَيناهُمْ بذلكَ لكُفرِهمُ النِّعمَةَ وضَلالِهمْ عنِ الحقّ، ولا نُجازِي بمِثلِ هذا الجَزاءِ الشَّديدِ إلاّ الكافِرين.

﴿وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمۡ وَبَيۡنَ الۡقُرَى الَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَا قُرٗى ظَٰهِرَةٗ وَقَدَّرۡنَا فِيهَا السَّيۡرَۖ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ﴾ [سبإ:18]


وممَّا أنعَمنا عَليهمْ أنْ جعَلنا قُرَاهُمْ مُتَواصِلَة، مِنْ بِلادِهمْ حتَّى يَصِلوا إلى قُرَى الشَّام، فلا يَقيلُونَ بقَريَةٍ حتَّى يَجِدوا أمامَهمْ قُرًى أخرَى واضِحَة، وجعَلنا بينَ كُلِّ قَريَةٍ وأخرَى مسافَةً مُعيَّنةً يَعرِفُها المسافِرون، فامشُوا فيها باللَّيالي والأيَّامِ وَقتَما شِئتُم، آمِنينَ مُطمَئنِّين، لا تَخافُونَ عَدوًّا، ولا جُوعًا، ولا عطَشًا.