﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الۡكَٰفِرِينَ وَالۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا﴾ [الأحزاب :1]
أيُّها النبيُّ الكريم، داوِمْ على طاعَةِ اللهِ واثبُتْ عَليها، وابتَعِدْ عنْ مَعاصيهِ حذَرًا مِنْ عقوبَتِه، ولا تَسمَعْ مِنَ الكافِرينَ والمُنافِقينَ ولا تَستَشِرهمْ في أَمرٍ مِنْ أمُورِك، واللهُ عَليمٌ بعَواقبِ الأمُور، حَكيمٌ فيما يأمرُ ويَنهَى ويُدَبِّر.
والخِطابُ لأمَّتِهِ كذلك، صلى الله عليه وسلم.
﴿وَاتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا﴾ [الأحزاب :2]
واتَّبِعْ ما يُوحي إليكَ اللهُ واعمَلْ بموجبِه، واللهُ مُحيطٌ بما تَعمَلون، خَبيرٌ بما تُظهِرونَ وما تُخفُون، لا يَخفَى عليهِ شَيء.
﴿وَتَوَكَّلۡ عَلَى اللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلٗا﴾ [الأحزاب :3]
واعتَمِدْ على اللهِ في أمورِكَ كُلِّها وثِقْ به، وكفَى بهِ حافِظًا لمَنْ فوَّضَ إليهِ أمرَه.
﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ الَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَاللَّهُ يَقُولُ الۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب :4]
ما جعلَ اللهُ للشَّخصِ الواحدِ قَلبَينِ في جَوفِه(110) ، وكما لا يَكونُ هذا، كذلكَ لا تَصيرُ زَوجَةُ الشَّخصِ أُمًّا لهُ إذا قالَ لها: أنتِ عليَّ كظَهرِ أُمِّي، كما كانَ الأمرُ في الجاهليَّة. وكذلكَ لا يَصيرُ أدعياؤكمْ أبناءً لكمْ إذا تبنَّيتُموهم، كما كانَ الأمرُ في الجاهليَّةِ أيضًا. فهذا الظِّهارُ والتبَنِّي قَولٌ بأفواهِكمْ مِنْ غَيرِ أنْ يَكونَ لهُ أساسٌ مِنَ الصِّدقِ والحَقيقَة، فإنَّ زَوجاتِكمْ أُمَّهاتٌ لأولادِكم، وأدعياؤكمْ أولادٌ لغَيرِكم. واللهُ يُثْبِتُ الحقَّ كما هو، ويُرشِدُكمْ إلى طَريقِ الحقِّ فاتَّبِعوه.
والظِّهارُ محرَّم، ويأتي بيانُ حُكمِهِ في الآيَةِ الثانيَةِ مِنْ سُورَةِ المُجادِلَة.
(110) جوفُ الإنسانِ بطنه، كما في اللغات، وذكرهُ لزيادةِ التقرير، كما في قولهِ تعالى: {وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [سورة الحج: 46]. (روح البيان).
الجوف: باطنُ الإنسان: صدرهُ وبطنه، وهو مقرُّ الأعضاءِ الرئيسيةِ عدا الدماغ. (التحرير والتنوير).
﴿ادۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ اللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي الدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب :5]
فانسِبوا أدعياءَكمْ إلى آبائهم، فهوَ الكلامُ العَدْل، والحُكمُ الحقُّ الذي قضَى بهِ الله، فلا يَجوزُ أنْ يُقالَ لشَخصٍ ابنُ فُلانٍ وهوَ ليسَ ابنًا له. فإذا لم تَعرِفوا آباءَهمْ لتَنسِبوهمْ إليهم، فهمْ إخوانُكمْ في الدِّين، وأولياؤكمْ ونُصَراؤكمْ فيه، فادْعُوهُمْ بالأُخوَّةِ والمُوالاة، كما يُقال: سالِمٌ مَولَى حُذَيفَة. ولا حرَجَ عَليكمْ إذا نسَبتُمْ بَعضَهمْ إلى غَيرِ آبائهمْ خطأً بعدَ البَحثِ والتحَرِّي، ولكنَّ الإثمَ على مَنْ تعَمَّدَ نِسبَةَ شَخصٍ إلى غَيرِ أبيه. واللهُ يَغفِرُ لمَنْ تابَ وإنْ كانَ مُتعَمِّدًا، رَحيمٌ بعبادِهِ المؤمِنينَ التَّائبين.
وفي صَحيحِ البُخاريِّ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: "ليسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لغَيرِ أبيه، وهوَ يَعلَمُه، إلاّ كفرَ بالله، ومَنِ ادَّعَى قَومًا ليسَ لهُ فيهمْ نسَبٌ فليَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ منَ النَّار". والمَقصودُ بالكُفرِ هُنا كفرُ النِّعمَة، تَغليظًا وزَجرًا لفاعلِه. وهوَ زَجرٌ شَديد.
﴿النَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِالۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ الۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ مِنَ الۡمُؤۡمِنِينَ وَالۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا﴾ [الأحزاب :6]
النبيُّ أقرَبُ إلى المؤمِنينَ مِنْ أنفُسِهمْ وأشَدُّ وِلايَةً ونُصرَةً لهم، فلا يأمرُهمْ إلاّ بما فيهِ خَيرُهمْ وصَلاحُهم، ويَكونُ حُكمُهُ مُقَدَّمًا على اختِيارِهمْ لأنفُسِهم، فيُطيعونَهُ ويُلَبُّونَ أمرَه.
وزَوجاتُ النبيِّ بمَنزِلَةِ أُمَّهاتِهمْ في حُرمَةِ نِكاحِهِنّ، وتَعظيمِ قَدْرِهنّ.
وذَوو القَراباتِ بَعضُهمْ أَولَى بالتَّوارُثِ مِنْ بَعضٍ في القُرآنِ مِنْ وِراثَةِ المُهاجِرينَ والأنصارِ بَعضِهمْ مِنْ بَعض، إلاّ إذا كانَ ما تُعطونَهمْ مِنْ بابِ البِرِّ والصِّلَةِ والوَصيَّة. وما ذُكِرَ مِنْ التوارُثِ بينَ أُولي الأرحامِ بدلَ الهِجرَةِ والإخاء، هوَ الحُكمُ المُقَدَّرُ والمَكتوبُ في القُرآن، أو في اللَّوحِ المَحفوظ.
فالآيَةُ ناسِخَةٌ لِما كانَ مَعمولاً بهِ مِنْ قَبل، مِنَ التَّوارُثِ بالهِجرَةِ والإيمَان.
﴿وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ النَّبِيِّـۧنَ مِيثَٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابۡنِ مَرۡيَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا﴾ [الأحزاب :7]
واذكُرْ إذْ أخَذنا مِنَ النبيِّينَ العَهدَ والميثَاقَ بتَبليغِ الرِّسالَة، والدَّعوَةِ إلى دِينِ الله، والوَفاءِ بما وُكِّلَ إليهم، وأنْ يُصَدِّقَ بَعضُهمْ بَعضًا، معَ التَّناصُرِ والتناصُحِ والاتِّفاق، وكذا أخَذنا مِنْ أُولي العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ هذا الميثَاقَ، لبَيانِ مَزيدِ فَضلِهم: منكَ أيُّها الرَسُول، ومِن نُوح، وإبراهيم، وموسَى بنِ عِمران، وعيسَى بنِ مَريَم، أخَذنا منهمْ عَهدًا قَويًّا عَظيمَ الشَّأنِ على ذلك.
﴿لِّيَسۡـَٔلَ الصَّـٰدِقِينَ عَن صِدۡقِهِمۡۚ وَأَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابًا أَلِيمٗا﴾ [الأحزاب :8]
ليَسألَ اللهُ النبيِّينَ الصَّادِقينَ يَومَ القِيامَةِ عنْ كَلامِهمُ الصَّادِقِ الذي بلَّغوهُ النَّاس، وعنِ استِجابَتِهمْ لهم، وأعدَّ للكافِرينَ مِنْ أقوامِهمْ عَذابًا مُؤلِمًا مُوجِعًا.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ اللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الأحزاب :9]
أيُّها المؤمِنون، اذكرُوا فَضلَ اللهِ ونِعمتَهُ العَظيمَةَ عَليكمْ في غَزوَةِ الأحزَاب، عندَما حُوصِرتُمْ معَ الرَّسُولِ في المَدينَة، إذْ جاءَتْكمْ جُيوشُ قُرَيشٍ وغَيرِها مِنَ القبائلِ العَربيَّةِ واجتمعَتْ على مُحاربَتِكم، فأرسَلنا عَليهمْ ريحًا شَديدَة، لم تُبْقِ لهمْ خَيمَةً ثابِتَة، ولا نارًا مُوقَدَة، وأرسَلنا عَليهمْ جُنودًا لم ترَوها، همُ المَلائكة، ألقَتْ في قُلوبِ الأحزَابِ الرُّعبَ والخَوف، فلم يَقِرَّ لهمْ قَرار، فانهزَموا.
وكانَ اللهُ بَصيرًا بما تَعمَلون، مِنْ بَذلِ جُهدِكمْ لنُصرَةِ دِينِ اللهِ ومُوالاةِ رَسولِه، والتِجائكمْ وتَضَرُّعِكمْ إلى رَبِّكمْ ليَكُفَّ شَرَّهُمْ عَنكمْ ويَنصُرَكمْ عَليهم.
﴿إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ الۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ الۡقُلُوبُ الۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا۠﴾ [الأحزاب :10]
واذكروا كيفَ جاؤوكمْ منْ أعلَى الوادي مِنْ قِبَلِ المَشرِق، ومِنْ بَطنِ الوَادي مِنْ قِبَلِ المَغرِب، وقدْ مالَتِ العُيونُ وشخَصَتْ مِنَ الحَيرَةِ والرُّعب، وخافَتِ القُلوبُ وفَزِعَتْ فزَعًا عَظيمًا، وتَظنُّونَ باللهِ الظُّنونَ المُختَلِفَة، فمِنْ مُخلِصٍ ثابتِ الإيمانِ يؤمِنُ بنَصرِ الله، ومِنْ خائفٍ لا يتحمَّلُ ما يَرَى، وظنَّ المُنافِقونَ أنَّ الأحزَابَ سيَقضُونَ على المسلِمين.
﴿هُنَالِكَ ابۡتُلِيَ الۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا﴾ [الأحزاب :11]
في ذلكَ الوَقتِ العَصيب، والحِصارِ الشَّديد، اختبَرَ اللهُ المؤمِنين، ليَتميَّزَ المُخلِصُ مِنْ غَيرِه، وقدِ اضطَرَبوا اضطِرابًا شَديدًا، ورُوِّعوا مِنْ كَثرَةِ الأعدَاءِ ومُناوَشاتِهمْ للدُّخولِ إلى المَدينَةِ والفَتكِ بالمُسلِمينَ ونِسائهمْ وأطفالِهم.
﴿وَإِذۡ يَقُولُ الۡمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا﴾ [الأحزاب :12]
وظهرَ النِّفاقُ في هذا الاختِبارِ الربَّانيّ، فقالَ المُنافِقونَ الذينَ كانوا يُظهِرونَ الإيمانَ وهمْ ليسُوا كذلك، ومعَهمْ ضُعَفاءُ الإيمانِ الذينَ تأثَّروا بكلامِهمْ وشُبَهِهمْ وشائعاتِهم، معَ ما أصابَهمْ منَ الخَوفِ والفزَع، قالوا: إنَّ الذي وعدَنا اللهُ ورَسولُهُ منَ النَّصرِ والفَتحِ ما هوَ إلاّ قَولٌ باطِل. وهذهِ عادَةُ المُنافِقينَ عندَ الشِّدَّةِ والمِحنَة.
﴿وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَـٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَارۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَـٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا﴾ [الأحزاب :13]
واذكُرْ إذْ قالَتْ جَماعَةٌ مِنَ المُنافِقينَ أو المَخذولِينَ وقدْ جَزِعوا: يا أهلَ المدينَةِ لا تُعَسْكِروا خارِجَ الخَندَقِ وارجِعوا إلى مَنازلِكم، فإنَّهُ لا طاقةَ لكمْ بالقِتال.
وجَماعَةٌ أُخرَى يَستأذِنونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لتَركِ مَواقعِهم، ويَقولونَ إنَّنا نَخشَى على بيوتِنا مِنَ الخطَر، فليسَ دونَها ما يَحجبُها مِنَ العَدوِّ ونحنُ غائبونَ عَنها، وليسَ الأمرُ كما يَدَّعون، إنَّما يُريدونَ بالاستئذانِ الهربَ مِنَ القِتال.
﴿وَلَوۡ دُخِلَتۡ عَلَيۡهِم مِّنۡ أَقۡطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الۡفِتۡنَةَ لَأٓتَوۡهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلَّا يَسِيرٗا﴾ [الأحزاب :14]
ولو أنَّ هؤلاءِ دخلَ عَليهمُ الكُفَّارُ مِنْ نَواحي المَدينَةِ واحتَلُّوها، وطُلِبَ منهمْ أنْ يَكفُروا، لاستَجابوا لذلكَ مُسرِعين، ولم يؤَخِّروا جَوابَهمْ إلاّ زَمانًا يَسيرًا، فهمْ غَيرُ مُتَمَسِّكينَ بالدِّين، ولا مُحافِظينَ على العَهدِ والإيمان.
﴿وَلَقَدۡ كَانُواْ عَٰهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبۡلُ لَا يُوَلُّونَ الۡأَدۡبَٰرَۚ وَكَانَ عَهۡدُ اللَّهِ مَسۡـُٔولٗا﴾ [الأحزاب :15]
ولقدْ كانَ هؤلاءِ المُستأذِنونَ المُتذَبذِبونَ عاهَدوا اللهَ قَبلَ مُحاصرَتِهمْ أنْ لا يَفِرُّوا مِنَ الجِهاد، وسَيَسألُهمُ اللهُ عنْ العَهدِ الذي لم يَفُوا به.
﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ الۡمَوۡتِ أَوِ الۡقَتۡلِ وَإِذٗا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [الأحزاب :16]
قُلْ لهمْ أيُّها الرَّسُول: لنْ يُفيدَكمُ الهرَبُ مِنَ القِتال، ولنْ يَحميَكمْ مِنَ المَوتِ على فُرُشِكمْ أو القَتلِ بالسَّيفِ وغَيرِه، فالأجَلُ واحِد، وإذا حدَثَ أنْ هرَبتُمْ لتَسلَموا مِنَ القَتل، فلنْ تَتمَتَّعوا في الدُّنيا إلاّ زَمانًا يَسيرًا، فالموتُ مَصيرُ كُلِّ حَيّ.
﴿قُلۡ مَن ذَا الَّذِي يَعۡصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ سُوٓءًا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ رَحۡمَةٗۚ وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا﴾ [الأحزاب :17]
قُلْ لهم: مَنِ الذي يَمنَعُكمْ مِنْ قدَرِ اللهِ وتَنفيذِ حُكمِهِ فيكمْ إنْ أرادَ بكمْ شَرًّا أو أرادَ بكمْ خَيرًا؟ إنَّهُ لا أحَد، فالأمرُ كُلُّهُ بيَدِهِ سُبحانَه، نَفعًا كانَ أو ضُرًّا، ولنْ يَجِدوا لأنفُسِهمْ غَيرَ اللهِ يَجلُبُ لهمُ الخير، ولا نَصيرًا سِواهُ يُساعِدُهمْ ويَدفَعُ عَنهمُ الشرّ.
﴿۞قَدۡ يَعۡلَمُ اللَّهُ الۡمُعَوِّقِينَ مِنكُمۡ وَالۡقَآئِلِينَ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ هَلُمَّ إِلَيۡنَاۖ وَلَا يَأۡتُونَ الۡبَأۡسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب :18]
واللهُ يَعلَمُ المُثَبِّطينَ غَيرَهمْ مِنَ الخُروجِ إلى الجِهاد - وهمُ المُنافِقونَ - والقائلينَ لأصحابِهمُ الذينَ خرَجوا: تَعالَوا وأقيموا معَنا ولا تُحارِبوا. معَ كَونِهمْ يَخذُلونَ النَّاس، فإنَّهمْ لا يُشارِكونَ في القِتالِ بأنفُسِهمْ إلاّ قَليلاً.
﴿أَشِحَّةً عَلَيۡكُمۡۖ فَإِذَا جَآءَ الۡخَوۡفُ رَأَيۡتَهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ تَدُورُ أَعۡيُنُهُمۡ كَالَّذِي يُغۡشَىٰ عَلَيۡهِ مِنَ الۡمَوۡتِۖ فَإِذَا ذَهَبَ الۡخَوۡفُ سَلَقُوكُم بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الۡخَيۡرِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَمۡ يُؤۡمِنُواْ فَأَحۡبَطَ اللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٗا﴾ [الأحزاب :19]
بُخلاءُ بأبدَانِهمْ عندَ القِتال، وبقُلوبِهمْ في المَحبَّةِ لكم، وبأموالِهمْ في النفقَةِ والنُّصرَة. فإذا جاءَ الخَوفُ مِنْ قِبَلِ العَدوّ، وظَنُّوا أنَّ البأسَ سيَقعُ بهمْ كما يَقَعُ بغَيرِهم، رأيتَهمْ يَنظُرونَ إليكَ وأعينُهمْ تَدورُ مِنَ القَلقِ وشِدَّةِ الهَلَع، كنظَرِ المَغشيِّ عَليهِ مِنْ سَكراتِ المَوت، فإذا انجَلَى الخَوفُ وأَمِنوا، بسَطوا فيكمْ ألسِنتَهمْ السَّليطَةَ المُقذِعَة، وآذَوكمْ وانتَقَصُوكم، وهمْ بُخَلاءُ بالنفَقة، لكنَّهمْ حَريصونَ على أخذِ الغنائمِ معَ المُجاهِدينَ المُسلِمين!
فهؤلاءِ المُتَّصِفونَ بهذهِ الصِّفاتِ لم يؤمِنوا بإخْلاص، بلْ أظهَروا إيمانَهمْ أمامَ النَّاسِ وهمْ كافِرونَ في بَواطنِهم، ولذلكَ أبطلَ اللهُ أعمالَهمُ التي يُظَنُّ أنَّ فيها خَيرًا، وهذا أمرٌ سَهلٌ على الله، فإنَّهُ لا يُبالي بهمْ وقدْ خانُوا الدِّينَ والعَهد.
﴿يَحۡسَبُونَ الۡأَحۡزَابَ لَمۡ يَذۡهَبُواْۖ وَإِن يَأۡتِ الۡأَحۡزَابُ يَوَدُّواْ لَوۡ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الۡأَعۡرَابِ يَسۡـَٔلُونَ عَنۡ أَنۢبَآئِكُمۡۖ وَلَوۡ كَانُواْ فِيكُم مَّا قَٰتَلُوٓاْ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [الأحزاب :20]
ومعَ أنَّ اللهَ خذَلَ الأحزابَ وهزَمَهمْ فرَحَلوا، إلاّ أنَّ المُنافِقينَ يَظنُّونَ أنَّهمْ لم يَذهَبوا! لجُبنِهمْ وخَوفِهم، وصُعوبَةِ تَصديقِهمْ أنْ يَنتَهيَ الأمرُ هكذا، ويَهرُبَ جميعُ الأحزابِ بدونِ حَربٍ تُذكَر! وظَنُّوا أنَّهمْ مُعَسكِرونَ قَريبًا منهم!
وإذا حدَثَ أنْ أتَتِ الأحزابُ مرَّةً أُخرَى، تمنَّوا لو أنَّهمْ كانوا خارِجَ المَدينَة، معَ الأعرابِ في الباديَة، يَسألونَ عنْ أخبارِكم، وما جرَى عَليكمْ مِنَ الأحزاب؛ خَوفًا وجُبنًا مِنْ أنْ يَشهَدوا حَربًا. ولو أنَّهمْ كانوا بينَكمْ لمَا قاتَلوا معَكمْ إلاّ قَليلاً، فلا تُبالُوا بهم، ولا تأسَوا عَليهم.