﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمۡ فِي بَعۡضِ الۡأَمۡرِۖ وَاللَّهُ يَعۡلَمُ إِسۡرَارَهُمۡ﴾ [محمد :26]
ذلكَ بأنَّ المُنافِقينَ قالوا لليَهودِ الذينَ كَرِهوا نُزولَ القُرآنِ على محمَّدٍ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: سَنُطيعُكمْ في بَعضِ أُمورِكمْ ورَغَباتِكم، فنَتعَاوَنُ معَكمْ في عَداوَةِ محمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ونَقعُدُ عنِ الجِهادِ معَه. واللهُ مُطَّلِعٌ على ما يُسِرُّون، وعالِمٌ بما يَمكرون.
﴿فَكَيۡفَ إِذَا تَوَفَّتۡهُمُ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَضۡرِبُونَ وُجُوهَهُمۡ وَأَدۡبَٰرَهُمۡ﴾ [محمد :27]
فكيفَ تَكونُ حالُهمْ إذا جاءَ مَلَكُ المَوتِ وأعوانُهُ مِنَ المَلائكةِ لقَبضِ أروَاحِهم، وهمْ يَضرِبونَ وجوهَهمْ وأدبارَهمْ بالمَقامِع؟
﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسۡخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضۡوَٰنَهُۥ فَأَحۡبَطَ أَعۡمَٰلَهُمۡ﴾ [محمد :28]
وهذا الذي استحَقُّوهُ ونالُوهُ مِنَ العَذاب، بسبَبِ أنَّهمُ اتَّبَعوا ما أغضبَ اللهَ وأسخطَهُ مِنَ الكُفرِ والضَّلالِ والمَعاصي، وكَرِهوا ما يَرضاهُ مِنَ الإيمانِ والجِهادِ والطَّاعَة، فأبطلَ اللهُ ثوابَ أعمالِهم.
﴿أَمۡ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخۡرِجَ اللَّهُ أَضۡغَٰنَهُمۡ﴾ [محمد :29]
أمْ حَسِبَ المُنافِقونَ أنَّنا لنْ نُظهِرَ أحقادَهمْ وما يُبطِنونَهُ مِنْ عَداوَةٍ للمؤمِنين؟
﴿وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ الۡقَوۡلِۚ وَاللَّهُ يَعۡلَمُ أَعۡمَٰلَكُمۡ﴾ [محمد :30]
ولو أرَدنا أيُّها الرسُولُ لعرَّفناكَ أسماءَهم، وأرَيناكَ أشخاصَهم، وجعَلنا عَليهمْ عَلاماتٍ عرَفتَهمْ بها، ولتَعرِفنَّهمْ مِنْ فَحوَى كلامِهم، الدَّالِّ على مَقاصدِهم.
قالَ ابنُ كثيرٍ رَحِمَهُ الله: ولكنْ لم يَفعَلْ تَعالَى ذلكَ في جَميعِ المُنافِقين، سِترًا منهُ على خَلقِه، وحَملاً للأمورِ على ظَاهرِ السَّلامَة، ورَدِّ السَّرائرِ إلى عالمِها. اهـ.
واللهُ يَعلَمُ أحوالَكمْ وأعمالَكم، وسيُجازيكمْ عَليها بحسَبِ مَقاصدِكم.
﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ الۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَالصَّـٰبِرِينَ وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ﴾ [محمد :31]
ولنَختَبِرَنَّكمْ بالجِهادِ ونَحوِهِ مِنَ الأوامِر، الذي يَبدو مِنْ خِلالِهِ صِدقُ الإيمانِ مِنْ عدَمِه، حتَّى نرَى المُجاهِدينَ منكمْ حقًّا والصَّابِرينَ على مَشاقِّ التَّكاليف، ونُظهِرَ نَتيجةَ أعمالِكمْ ومَواقفِكمُ الحقيقيَّة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الۡهُدَىٰ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيۡـٔٗا وَسَيُحۡبِطُ أَعۡمَٰلَهُمۡ﴾ [محمد :32]
إنَّ الذينَ كفَروا باللهِ ورَسُولِه، ومنَعوا النَّاسَ مِنْ دِينِ اللهِ الحقّ، وعادَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدَما ظهرَ لهمْ بالدَّلائلِ والمُعجِزاتِ أنَّ الإسْلامَ هوَ الدِّينُ الحقّ، وأنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَسُولُه، لنْ يَضرُّوا اللهَ بكُفرِهمْ وصَرفِ النَّاسِ عنْ دِينِه، وإنَّما يَضُرُّونَ أنفُسَهم، وسيُبطِلُ اللهُ ثَوابَ أعمالَهم، لأنَّها لم تَكنْ في سَبيلِهِ ولمَرضاتِه.
﴿۞يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلَا تُبۡطِلُوٓاْ أَعۡمَٰلَكُمۡ﴾ [محمد :33]
يا عِبادَ اللهِ المؤمِنين، أقبِلوا على طاعَةِ اللهِ ورَسُولِه، بالقَولِ الطيِّبِ والعمَلِ الصَّالح، ولا تُبطِلوا أعمالَكمُ الحسنَةَ بالشِّركِ والنِّفاق.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يَغۡفِرَ اللَّهُ لَهُمۡ﴾ [محمد :34]
إنَّ الذينَ كفَروا باللهِ ورَسولِه، ومنَعوا النَّاسَ مِنِ اعتِناقِ دِينِه، وأصَرُّوا على الكُفرِ واستمَرُّوا عليهِ حتَّى ماتُوا وهمْ كافِرون، فلنْ يَغفِرَ اللهُ لهم، فاللهُ لا يَغفِرُ أنْ يَشرَكَ به، ويَغفِرُ ما دونَ ذلكَ لمَنْ يَشاء، ومَنْ لم يَغفِرِ اللهُ لهُ فلا نَصيبَ لهُ في الجنَّة.
﴿فَلَا تَهِنُواْ وَتَدۡعُوٓاْ إِلَى السَّلۡمِ وَأَنتُمُ الۡأَعۡلَوۡنَ وَاللَّهُ مَعَكُمۡ وَلَن يَتِرَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ﴾ [محمد :35]
فلا تَضعُفوا عنِ الأعدَاء، ولا تُظهِروا لهمْ لِيْنًا، ولا تَدْعُوهمْ إلى الصُّلحِ والمُهادَنَةِ ووَقفِ القِتالِ بينَكمْ وبينَهمْ وأنتُمُ الأقوَى، واللهُ معَكم، وناصِرُكمْ على أعدَائكم، ولنْ يَنقُصَكمْ شَيئًا مِنْ ثَوابِ أعمالِكم، بلْ يُوفيكمْ ثَوابَها ويَزيدُها لكم.
﴿إِنَّمَا الۡحَيَوٰةُ الدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞۚ وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤۡتِكُمۡ أُجُورَكُمۡ وَلَا يَسۡـَٔلۡكُمۡ أَمۡوَٰلَكُمۡ﴾ [محمد :36]
إنَّما هذهِ الحياةُ الدُّنيا - في غالبِها - كاللَّعِبِ واللَّهوِ في عدَمِ النَّفعِ والثَّبات، فلا يَشتَغِلُ العاقِلُ بما هوَ باطِلٌ وغُرورٌ ولا بَقاءَ له. وإنْ تَكونوا صادِقينَ في إيمانِكم، وتتَّقوا اللهَ فيما تأتونَ وما تذَرون، يؤتِكمْ ثَوابَ أعمالِكمْ في الآخِرَة، ولا يَسألْكُمْ جَميعَ أموالِكم، بلْ جُزءًا قَليلاً منهُ تُؤدُّونَهُ لإخوانِكمُ المُحتاجين، ويَرجِعُ ثَوابُهُ إليكم.
﴿إِن يَسۡـَٔلۡكُمُوهَا فَيُحۡفِكُمۡ تَبۡخَلُواْ وَيُخۡرِجۡ أَضۡغَٰنَكُمۡ﴾ [محمد :37]
وإذا سألَكمْ جَميعَ أموالِكم، فسيُجهِدُكمْ ذلك، وستَبخَلونَ بها، ويُخرِجُ بذلكَ أحقادَكم، لمَزيدِ حُبِّكمْ للمَال.
﴿هَـٰٓأَنتُمۡ هَـٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَاللَّهُ الۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ الۡفُقَرَآءُۚ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ يَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمۡثَٰلَكُم﴾ [محمد :38]
ها أنتُمْ تُدْعَونَ للإنفَاقِ في طاعَةِ الله، مِنَ الجِهادِ وغَيرِه، فمِنكمْ مَنْ يَبخَلُ بمالِهِ فلا يُجيب، ومَنْ يَبخَلْ بما عندَهُ فإنَّما يَضرُّ نَفسَه، ويَنقُصُ مِنْ أجرِه، واللهُ غَنيٌّ عنْ طاعَتِكم، غَيرُ مُحتاجٍ إلى أموالِكم، وأنتمُ الفُقَراءُ إليه، المُحتاجُونَ إلى رِزقِه، فإنفاقُكمْ أو عدَمُهُ مَحسُوبٌ لكمْ أو عَليكم. وإذا أعرَضتُمْ عنْ طاعَةِ اللهِ يَستَبدِلْ بكمْ قَومًا آخَرينَ، ولا يَكونوا مثلَكمْ مُعرِضينَ عنْ أمرِ الله، بلْ يَسمَعونَ ويُطيعون.
سورة الفتح - مدنية - عدد الآيات: 29
48
﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا﴾ [الفتح :1]
إنَّا قضَينا لكَ قَضاءً بيِّنًا، ونصَرناكَ نَصرًا مِنْ دونِ قِتال.
وهوَ إخبارٌ عنْ صُلحِ الحُدَيبيَة، الذي اعتُبِرَ فَتحًا ظاهِرًا، لِما حصَلَ فيهِ مِنَ المَصلَحةِ للمُسلِمين، فقدْ تمَكَّنَ الإسلامُ مِنْ قُلوبِ النَّاسِ بعدَ ذلك، وزادَ عَدَدُهمْ كثيرًا، وتَضاعفَتْ قوَّتُهم.
﴿لِّيَغۡفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَيَهۡدِيَكَ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا﴾ [الفتح :2]
ليَغفِرَ اللهُ لكَ معَ نِعمَةِ الفَتحِ جَميعَ ذُنوبِك، ما سبقَ منها وما يَكون. وهذا مِنْ خَصائصِهِ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلام، والمُرادُ ما ظَهرَ مِنْ خِلافِ الأَولَى بالنسبَةِ إلى مَقامِهِ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلام. وليُتِمَّ نِعمتَهُ عَليك، في الحيَاةِ الدُّنيا وفي الآخِرَة، فيَنصُرَ الإسْلام، ويَنشُرَه، ويُعليَ مَقامَكَ في العِلِّيِّين، وليُثبِّتَكَ على صِراطِ اللهِ المُستَقيم، وشَرعِهِ العَظيم، فتَحكُمَ بهِ وتُبَلِّغَه، وليَهديَ بكَ النَّاس.
﴿وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصۡرًا عَزِيزًا﴾ [الفتح :3]
وليَنصُرَكَ اللهُ على أعدائكَ نَصرًا غالِبًا، فيهِ العِزُّ والمنَعَة.
﴿هُوَ الَّذِيٓ أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الۡمُؤۡمِنِينَ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِيمَٰنٗا مَّعَ إِيمَٰنِهِمۡۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا﴾ [الفتح :4]
هوَ الذي أنزَلَ الطُّمأنينَةَ والثَّباتَ في قُلوبِ المؤمِنينَ الذينَ شَهِدوا صُلحَ الحُدَيبيَة، فاستَجابوا لحُكمِ اللهِ ورَسُولِه، واطمأنَّتْ قُلوبُهمْ به؛ ليَزدادوا يَقينًا معَ يَقينِهم، برُسوخِ العَقيدَةِ والرِّضا بحُكمِ اللهِ ورَسولِهِ في قُلوبِهم.
ولو أرادَ اللهُ لانتقَمَ مِنَ المشرِكينَ يَومَئذ، وهوَ يَسيرٌ عَليهِ سُبحانَه، فلهُ جُنودٌ لا يُحصَونَ في السَّماواتِ والأرْض، ولكنْ أرادَ لكمُ الصُّلحَ، وهوَ العَليمُ بالأمُور، الحَكيمُ لِما يَشرَعُ ويُقَدِّر.
﴿لِّيُدۡخِلَ الۡمُؤۡمِنِينَ وَالۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوۡزًا عَظِيمٗا﴾ [الفتح :5]
ليُدخِلَ بذلكَ المؤمِنينَ والمؤمِناتِ جنَّاتٍ عاليَات، تَجري الأنهارُ خلالَ قصورِها وأشجارِها، ماكثينَ ومَتنَعِّمينَ فيها أبَدًا، وليَغفِرَ لهمْ خَطاياهُمْ وذُنوبَهم، وكانَ ذلكَ فَوزًا وسَعادَةً عُظمَى لهمْ عندَ الله.
﴿وَيُعَذِّبَ الۡمُنَٰفِقِينَ وَالۡمُنَٰفِقَٰتِ وَالۡمُشۡرِكِينَ وَالۡمُشۡرِكَٰتِ الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوۡءِۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ السَّوۡءِۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَلَعَنَهُمۡ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرٗا﴾ [الفتح :6]
وليُعَذِّبَ بذلكَ المُنافِقينَ والمُنافِقات، والمُشرِكينَ والمُشرِكات، الذينَ يَغِيظُهمْ رَفعُ رايَةِ الإسْلام، ويُسيؤونَ الظنَّ بحُكمِ اللهِ ورَسُولِه، ويَقولونَ إنَّ اللهَ لا يَنصُرُ رَسولَهُ والمؤمِنين، وأنَّهمْ سيُقتَلونَ جَميعًا، أحاطَ بهمُ السُّوءُ وأرداهُم، وسَخِطَ اللهُ عَليهمْ وأبعدَهمْ مِنْ رَحمَتِه، وهيَّأَ لهمْ ما يَسوؤهمْ مِنَ العَذابِ الشَّديدِ في جهنَّم، وبئسَ المَصيرُ مَصيرُهم.
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [الفتح :7]
وللهِ كُلُّ ما في السَّماواتِ والأرْضِ مِنْ جُنود، وهوَ القادِرُ على الانتِقامِ بهمْ ممَّنْ يَشاء، وهوَ القَويُّ الذي لا يُغالَب، ولهُ الحِكمَةُ في فِعلِ ما يَشاء.
﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا﴾ [الفتح :8]
إنَّا أرسَلناكَ شاهِدًا على مَنْ أُرسِلتَ إليهم، ومُبَشِّرًا للمؤمِنينَ بالثَّوابِ الجَزيلِ على طاعَتِهم، ومُنذِرًا للكافِرينَ بالعَذابِ الشَّديدِ على مَعصيَتِهم.
﴿لِّتُؤۡمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُۚ وَتُسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا﴾ [الفتح :9]
لتُؤمِنوا باللهِ ورَسُولِهِ إيمانًا صادِقًا، وتَنصُروا اللهَ بنُصرَةِ دينِهِ ورَسُولِه، وتُعَظِّموهُ وتُجِلُّوه، وتُقَدِّسُوهُ وتُنَزِّهوه، صَباحًا ومَساءً.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوۡقَ أَيۡدِيهِمۡۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيۡهُ اللَّهَ فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [الفتح :10]
إنَّ الذينَ يُبايعُونَكَ على المَوتِ لنُصرَتِكَ يَومَ الحُديبيَة، إنَّما يُبايعونَ الله، بطاعَتِهِ وامتِثالِ أمرِه، يَدُ اللهِ فَوقَ أيديهم، وهوَ الذي يُؤيِّدُهمْ ويَنصرُهم، فمَنْ نقضَ العَهد، فإنَّ ضَرَرَ نَقضِهِ يَعودُ بالخَسارَةِ على نَفسِه، ومَنْ وفَّى بالعَهدِ الذي عاهَدَ اللهَ عَليه، فسيُؤتيهِ ثَوابًا جَزيلاً، وهوَ الجنَّة.
﴿سَيَقُولُ لَكَ الۡمُخَلَّفُونَ مِنَ الۡأَعۡرَابِ شَغَلَتۡنَآ أَمۡوَٰلُنَا وَأَهۡلُونَا فَاسۡتَغۡفِرۡ لَنَاۚ يَقُولُونَ بِأَلۡسِنَتِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ ضَرًّا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ نَفۡعَۢاۚ بَلۡ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرَۢا﴾ [الفتح :11]
سيَعتَذِرُ إليكَ الأعرَابُ الذينَ تَخلَّفوا عنِ المَسيرِ معَكَ إلى مكَّةَ عامَ الحُدَيبيَة. وكانَ الرسُولُ صلى الله عليه وسلم قدِ استَنفرَهمْ حذَرًا مِنْ أنْ تَعرِضَ لهُ حَرب، وقدْ أرادَ العُمرَةَ معَ أصحابِه، فخافَ الأعرَابُ أنْ تُجابِهَهمْ قُرَيشٌ بحَربٍ عَظيمَة، فاعتذَروا وقالوا لهُ مِنْ بَعد: لقدْ شغَلَتْنا عنِ الذَّهابِ معكَ أموالُنا ونِساؤنا وذَرارينا، فلم ْ يَكنْ هُناكَ مَنْ يَحفَظُهمْ في غيابِنا، فادْعُ اللهَ أنْ يَغفِرَ لنا تخَلُّفَنا عنك. يَقولونَ ذلكَ بألسِنَتِهم، خِلافَ ما يُبطِنونَهُ في قُلوبِهم.
قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: فمَنْ يَستَطيعُ أنْ يَرُدَّ شَيئًا مِنْ قَدَرِ اللهِ إنْ أرادَ بكمْ شَرًّا وعُقوبَة، أو أرادَ بكمْ خَيرًا ومَثوبَة؟ لا أحدَ يَستَطيعُ أنْ يَمنعَ ذلكَ ويَدفعَه، فالأمرُ كلُّهُ بيدِه، وقدْ ظَننَتُمْ أنَّ تَخَلُّفَكمْ سيَجلُبُ لكمْ نَفعًا، ويَدفَعُ عَنكمْ ضُرًّا! بلْ كانَ اللهُ عَليمًا بسبَبِ تَخَلُّفِكم، مُطَّلِعًا على سَرائرِكم، وسيُجازيكمْ على ذلك.
﴿بَلۡ ظَنَنتُمۡ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالۡمُؤۡمِنُونَ إِلَىٰٓ أَهۡلِيهِمۡ أَبَدٗا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمۡ وَظَنَنتُمۡ ظَنَّ السَّوۡءِ وَكُنتُمۡ قَوۡمَۢا بُورٗا﴾ [الفتح :12]
بلْ كانَ تَخَلُّفُكمْ لظَنِّكمُ السيِّء، فحَسِبتُمْ أنَّ الرسُولَ صلى الله عليه وسلم ومَنْ صَحِبَهُ مِنَ المؤمِنينَ سيُلاقُونَ حَربًا شَديدَةً مِنْ قُرَيشٍ وغَيرِها، وأنَّهمْ لنْ يَرجِعوا إلى أهاليهمْ سالِمين، وسيُقضَى عَليهمْ كُلِّهم، وزُيِّنَ هذا الظنُّ السيِّءُ في قُلوبِكم، ولم تَدفَعوهُ بالإيمَانِ والوَلاءِ للهِ ولرسُولِه، بلِ انشغَلتُمْ بذلكَ الظنِّ الفاسِد، وكنتُمْ قَومًا هالِكينَ بذلك، لا خَيرَ فيكم.
﴿وَمَن لَّمۡ يُؤۡمِنۢ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ فَإِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ سَعِيرٗا﴾ [الفتح :13]
ومَنْ لم يُؤمِنْ باللهِ ورَسُولِهِ حقَّ الإيمَان، فإنَّا هيَّأنا للكافِرينَ نارًا مُوقَدةً مُلتَهِبَة.
﴿وَلِلَّهِ مُلۡكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾ [الفتح :14]
وللهِ ما في السَّماواتِ والأرْضِ وما بينَهما، خَلقًا، ومُلكًا، وتَدبيرًا، يَغفِرُ لمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِه، ويُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ منهم، بعَدلِهِ وحِكمَتِه، وهوَ الغَفورُ لذُنوبِ التَّائبينَ إليه، الرَّحيمُ بالمؤمِنينَ منهم.
﴿سَيَقُولُ الۡمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقۡتُمۡ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأۡخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعۡكُمۡۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَٰمَ اللَّهِۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمۡ قَالَ اللَّهُ مِن قَبۡلُۖ فَسَيَقُولُونَ بَلۡ تَحۡسُدُونَنَاۚ بَلۡ كَانُواْ لَا يَفۡقَهُونَ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [الفتح :15]
سيَقولُ المتَخَلِّفونَ عنِ الجِهادِ مِنَ الأعرَاب، عندَ انطِلاقِكمْ إلى مَغانِمِ خَيبَر، التي وعدَ اللهُ بها أصحابَ البَيعَةِ بالحُدَيبيَة، سيَقولونَ لكم: دَعونا نَخرُجْ معَكمْ إلى خَيبَر، ونَشهَدْ معَكمْ قِتالَ أهلِها. وكانتْ حُصونُها آخِرَ ما بَقيَ لليَهودِ في الجَزيرَةِ مِنْ مَراكزِ القوَّة.
يُريدُ الأعرابُ أنْ يُغَيِّروا وَعدَ اللهِ لأهلِ الحُدَيبيَةِ مِنْ كَونِ الغَنائمِ لهمْ وحدَهم، فقُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: لا تتَّبِعونا(138) ، ولنْ تُشارِكوا في المَغانِمِ التي وعدَ اللهُ بها أهلَ الحُدَيبيَةِ كما قالَ اللهُ تَعالَى لنا قَبلَ رُجوعِنا إليكم، لأنَّكمْ لم تَلبُّوا نِداءَ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم عندَما استَنفرَكمْ أوَّلَ مرَّة، فكنتُمْ مِنَ المُتخَلِّفينَ عنِ الجِهاد، فلنْ تُشارِكوا مَنْ أطاعَهُ مِنْ أصحابِهِ في مَغانمِ خَيبر، السَّهلَةِ المَأخَذ.
فسيَقولُ لكَ الأعراب: بلْ تَحسُدونَنا، وتَمنَعونَنا مِنَ الخُروجِ لتَحرِمونا مِنَ الغَنيمَة! بلْ همْ لا يَفهَمونَ إلاّ قَليلاً، فجَزاءُ المُتخَلِّفينَ الطَّامِعينَ هوَ حِرمانُهمْ ممَّا طَمِعوا فيه، وجَزاءُ المُطيعينَ أنْ يُعطَوا مِنْ فَضلِ الله.
(138) {لَّن تَتَّبِعُونَا}: هذا النفيُ هو في معنى النهي، والمعنى: لا تتَّبِعونا. (فتح القدير). والمرادُ نهيُهم عن الاتِّباعِ فيما أرادوا الاتِّباعَ فيه، في قولهم: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ}، وهو الانطلاقُ إلى خيبر. (روح المعاني).
﴿قُل لِّلۡمُخَلَّفِينَ مِنَ الۡأَعۡرَابِ سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَۖ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤۡتِكُمُ اللَّهُ أَجۡرًا حَسَنٗاۖ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ كَمَا تَوَلَّيۡتُم مِّن قَبۡلُ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا﴾ [الفتح :16]
قُلْ للمُتخَلِّفينَ عنِ الجِهادِ مِنَ الأعرَاب: ستُدعَونَ في وَقتٍ لاحقٍ إلى مُحاربَةِ قَومٍ أقوياءَ شَديدي البَأس، تُقاتِلونَهمْ إلى أنْ يُسلِموا، فإنْ تَستَجيبوا لدَاعي الجِهادِ وتُقاتِلوا، يُعطِكمُ اللهُ أجرًا حسَنًا مَرضيًّا، في الدُّنيا وفي الآخِرَة، وهوَ المَغنَم، ثمَّ الجنَّة. وإذا أعرَضتُمْ وتعلَّقتُمْ بأعذارٍ كاذِبَةٍ كما كانَ في زمَنِ الحُدَيبيَة، فسيُعاقِبُكمُ اللهُ عُقوبَةً شَديدَة، لتَضاعُفِ جُرمِكم.
﴿لَّيۡسَ عَلَى الۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى الۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى الۡمَرِيضِ حَرَجٞۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُۖ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبۡهُ عَذَابًا أَلِيمٗا﴾ [الفتح :17]
لا إثمَ على الأعمَى، ولا على الأعرَج، ولا على المَريض، في التخَلُّفِ عنِ الجِهاد، لِما بهمْ مِنَ العُذر، ومَنْ يُطِعِ اللهَ ورَسولَهُ فيما أُمِرَ بهِ ونُهيَ عنه، يُدْخِلْهُ اللهُ جَنَّاتٍ عاليَات، تَجري مِنْ تَحتِ أشجارِها الأنهار، ومَنْ يُعرِضْ عنِ الطَّاعَة، ويَتخلَّفْ عنِ الجِهاد، يُعَذِّبْهُ في الدُّنيا بالمَذلَّةِ والصَّغار، وفي الآخِرَةِ بالعُقوبَةِ والنَّار.