تفسير الجزء 28 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الثامن والعشرون
28
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة الممتحنة
سورة الصف
سورة الجمعة
سورة المنافقون
سورة التغابن
سورة الطلاق
سورة التحريم

سورة المجادلة - مدنية - عدد الآيات: 22

58

﴿قَدۡ سَمِعَ اللَّهُ قَوۡلَ الَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة:1]


قدْ سَمِعَ اللهُ قَولَ المرأةِ التي تُراجِعُكَ الكلامَ في شَأنِ زَوجِها، وقَولِهِ لها: "أنتِ عَليَّ كظَهرِ أُمِّي"، وتَشتَكي حالَها إلى اللهِ وتَقول: "يا رسُولَ الله، أكلَ شَبابي، ونثَرْتُ لهُ بَطني، حتَّى إذا كَبِرَتْ سِنِّي، وانقَطعَ ولَدي، ظاهرَ منِّي". واللهُ يَسمَعُ ما دارَ بينَكما مِنْ حِوارٍ بشَأنِ ذلك، إنَّ اللهَ يَسمَعُ جَميعَ الأصوات، وإنْ كانتْ خَفيَّة، ويُبصِرُ كلَّ شَيء، فلا يَخفَى عليهِ أمر.

﴿الَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمۡۖ إِنۡ أُمَّهَٰتُهُمۡ إِلَّا الَّـٰٓـِٔي وَلَدۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَيَقُولُونَ مُنكَرٗا مِّنَ الۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ﴾ [المجادلة:2]


والحقُّ أنَّ الذينَ يُظاهِرونَ مِنْ زَوجاتِهم، ويَقولُ أحدُهمْ لزَوجِه: أنتِ عليَّ كظَهرِ أُمِّي، لَسْنَ أُمَّهاتِهم، إنَّما أُمَّهاتُهمْ على الحقيقَةِ هُنَّ اللَّائي ولَدْنَهم، فلا يَصِرْنَ بقَولِهمْ هذا أُمَّهاتِهنّ، وما يَقولونَ مِنْ ذلكَ كلامٌ باطِلٌ شَرعًا وعَقلاً، وكذِبٌ لا يُطابِقُ الحقّ، وحَرامٌ قَولُه. واللهُ كثيرُ العَفوِ والمَغفِرَةِ لذُنوبِ عِبادِه، إنْ تابوا وأصلَحوا، ولذلكَ شرَعَ لهمْ الكفَّارَة.

﴿وَالَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ [المجادلة:3]


والذينَ يُظاهِرونَ مِنْ زَوجاتِهم، ثمَّ يَعزِمونَ على العَودَةِ إلى وَطئِهنّ، فعَليهمْ أنْ يَعتِقوا رقبَةً مِنْ قَبلِ الجِماع، ويَحرُمُ الوَطءُ قَبلَ التَّكفير. ذلكمْ ما تُزجَرونَ بهِ مِنَ ارتِكابِ المُنكَرِ المذكُور، واللهُ عَليمٌ بظَواهرِ أحوالِكمْ وبَواطنِها، خَبيرٌ بما يُصلِحُكم.

﴿فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ اللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المجادلة:4]


فمَنْ لم يَملِكْ رقَبةً يُعتِقُها ولا ثمنَها، فعَليهِ أنْ يَصومَ شَهرَينِ مُتَتابِعَينِ قَبلَ الوطء، فمَنْ ضَعُفَ عنِ الصَّوم، لكِبَرٍ أو مرَض، فعَليهِ أنْ يُطعِمَ ستِّينَ مِسكينًا. وشرَعنا ذلكَ الحُكمَ لتتَّبِعوهُ وتَعمَلوا به، وتَتركوا ما كنتُمْ عَليهِ في جاهليَّتِكم، مِنْ كونِ المرأةِ تُطلَّقُ إذا ظاهرَها زَوجُها. وتلكَ الأحكامُ مَحارِمُ الله، فالزَموها ولا تتَعدَّوها، ولمَنْ كذَّبَ بها عَذابٌ شَديد.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾ [المجادلة:5]


إنَّ الذينَ يُعادُونَ اللهَ ورسُولَه، فيَكفُرونَ ويُحارِبونَ الدِّين، أُخزُوا ورُدُّوا مَخذولينَ كما فُعِلَ بأمثالِهمْ مِنْ كُفَّارِ الأُمَمِ الماضيَةِ مِنَ المُعادِينَ للهِ ورسُلِه، وقدْ أيَّدنا الرسُلَ بمُعجِزاتٍ تَدلُّ على صِدقِ ما جاؤوا به، وحُجَجٍ واضِحاتٍ لا يُخالِفُها إلاّ مُعانِدٌ مُستَكبِر، ولمَنِ استَكبرَ عنِ الإيمَانِ بتلكَ الآيات، ولم يتَّبِعْ شَرعَ الله، عَذابٌ يُهينُهمْ ويُذِلُّهمْ في اليَومِ الآخِر.

﴿يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ أَحۡصَىٰهُ اللَّهُ وَنَسُوهُۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ﴾ [المجادلة:6]


يَومَ يَبعَثُهمُ اللهُ مِنْ قُبورِهم، ويَجمَعُهمْ كُلَّهمْ في صَعيدٍ واحِد، فيُحاسِبُهم، ويُخبِرُهمْ بما عَمِلوا مِنْ خَيرٍ وشرّ، وقدْ أحصَى اللهُ أعمالَهمْ وحفِظَها عَليهم، ونَسُوا همْ ما عَمِلوه، واللهُ لا يَنسَى أمرًا، ولا يَغيبُ عَنهُ شَيء، بلْ هوَ شاهِدٌ يَسمَعُ كُلَّ ما تَقولون، ويُبصِرُ كُلَّ ما تَعمَلون.

﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة:7]


ألمْ تَعلَمْ أنَّ اللهَ قدْ أحاطَ علمُهُ بجَميعِ المَوجوداتِ التي في السَّماواتِ والأرْض، ما يَكونُ مِنْ إسرارِ ثَلاثَةٍ إلاّ وهوَ رابِعُهمْ بالعِلمِ به، ولا يَتناجَى خَمسَةٌ إلاّ وهوَ سادِسُهمْ بعِلمِه، ولا نَجوَى أقلَّ مِنْ ذلكَ ولا أكثَر، كالستَّةِ وما فَوق، إلاَّ وهوَ يَسمَعُ سِرَّهمْ ويَعلَمُ ما يَجري بينَهم، في أيِّ مَكانٍ كانوا، ثمَّ يُخبِرُهمْ يَومَ الحِسابِ والجَزاءِ بما عَمِلوهُ في الحياةِ الدُّنيا، واللهُ عالِمٌ بكلِّ شَيء، لا يَخفَى عليهِ أمر.

﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِالۡإِثۡمِ وَالۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ الرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ الۡمَصِيرُ﴾ [المجادلة:8]


ألمْ ترَ إلى اليَهودِ الذينَ مُنِعوا مِنَ التَّناجي دونَ المؤمِنينَ فيما يَسوؤهم، ثمَّ يَرجِعونَ إلى المُناجاةِ التي نُهوا عَنها، ويَتحدَّثونَ فيما بينَهمْ بما يَكونُ وَبالاً عَليهم، وفيهِ تعَدٍّ على المؤمِنين، ومُخالفَةٌ لأمرِ الرسُولِ عَليهِ الصَّلاةِ والسَّلام؟

وإذا جاؤوكَ أسَاؤوا الأدبَ في إلقاءِ تَحيَّتِهمْ إليك، وحيَّوا بنَقيضِ ما أمرَ اللهُ به، وقالوا: "السَّامُ عَليك"، ويُسِرُّ بَعضُهمْ لبَعضٍ قائلين: هلاَّ يُعَذِّبُنا اللهُ بسبَبِ ذلك، فلو كانَ محمَّدٌ نبيًّا حقًّا لأوحَى ربُّهُ بذلكَ وعذَّبَنا به؟ يَكفيهمْ نارُ جهنَّمَ عَذابًا ونَكالاً، التي يَصْلَونَها ويُعَذَّبونَ فيها، وبئسَ المَرجِعُ والمَآلُ الذي يَصَيرونَ إليه، وقدْ جُمِعَ لهمْ فيهِ كلُّ عَذابٍ وشَقاء.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَنَٰجَيۡتُمۡ فَلَا تَتَنَٰجَوۡاْ بِالۡإِثۡمِ وَالۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَٰجَوۡاْ بِالۡبِرِّ وَالتَّقۡوَىٰۖ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾ [المجادلة:9]


أيُّها المؤمِنون، إذا تَناجَيتُمْ في مَجالسِكمْ وأنديَتِكم، فلا تَتناجَوا بما فيهِ إثمٌ وتعَدٍّ على حُقوقِ الآخَرين، ومُخالفَةٌ لسُنَّةِ الرسُولِ الكريمِ صلى الله عليه وسلم، كما يَفعَلُهُ اليَهودُ والمُنافِقون، ولكنْ تَناجَوا وتَباحَثوا بما فيهِ خَيرٌ ومَنفَعَةٌ وإحسَان، واخشَوا اللهَ وانتَهُوا عمَّا نَهاكمْ عَنه، فإليهِ تُحشَرون، ليُحاسِبَكمْ على ما تَعمَلون.

﴿إِنَّمَا النَّجۡوَىٰ مِنَ الشَّيۡطَٰنِ لِيَحۡزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيۡسَ بِضَآرِّهِمۡ شَيۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ اللَّهِۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ الۡمُؤۡمِنُونَ﴾ [المجادلة:10]


إنَّما التَّناجي بالإثمِ والعُدوان، أو بما يَشعُرُ المؤمِنونَ أنَّهُ لسُوءٍ بهم، هوَ مِنْ تَسويلِ الشَّيطانِ وتَزيينِه، ليُحزِنَهمْ بذلك، ولنْ يَضُرَّ الشَّيطانُ أوِ التَّناجي المؤمِنينَ شَيئًا، إلاَّ بإرادَةِ اللهِ ومَشيئتِه، وعلى اللهِ فليَعتَمِدِ المؤمِنون، ولا يُبالوا بنَجواهُم.

وفي الحديثِ قَولُهُ صلى اللهُ عليهِ وسلم: "إذا كنتُمْ ثَلاثَةً فلا يَتناجَى اثنانِ دونَ صاحبِهما، فإنَّ ذلكَ يُحزِنُه". رواهُ مُسلم.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي الۡمَجَٰلِسِ فَافۡسَحُواْ يَفۡسَحِ اللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرۡفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ [المجادلة:11]


أيُّها المؤمِنون، إذا قالَ لكمْ قائل: توَسَّعوا في المَجالِس، فليَفسَحْ بَعضُكمْ لبَعضٍ فيها، فإنَّ اللهَ يُوَسِّعُ لكمْ في رَحمَتِهِ بكم، أو في مَنازلِكمْ بالجنَّة.

عنِ ابنِ عمرَ رَضيَ اللهُ عَنهما، عنِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ "نهَى أنْ يُقامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجلسِهِ ويَجلِسَ فيهِ آخَر، ولكنْ تفسَّحوا وتَوسَّعوا". رَواهُ البخاريّ.

وإذا قيلَ لكمُ انهَضوا إلى خَيرٍ فأجيبُوا ولا تَتكاسَلوا، كالقيامِ إلى الصَّلاة، والجِهاد، ومَجالسِ الخَير.

ولا تَظنُّوا أنْ تَكونَ إجابتُكمْ لفِعلِ خَيرٍ نَقصًا في حقِّكم، بلْ هوَ فَضيلَةٌ فيكم، فإذا فعَلتُمْ ذلكَ فإنَّ اللهَ يُثيبُكمْ على تَواضُعِكمْ وامتِثالِكمْ لأمرِه، ويَرفَعُ الذينَ آمَنوا منكمْ بطاعَتِهمْ واستِجابَتِهمْ لأدَبِ الإسْلام، والذينَ أُوتوا العِلمَ بفَضلِ عِلمِهمْ وسابقَتِهمْ وامتِثالِهمْ أمرَ الله، درَجاتٍ كبيرَة، تَكريمًا لهم. وأهلُ العِلمِ همْ أكثَرُ النَّاسِ مَعرفَةً بآدَابِ الإسْلامِ وأحكامِه، وتَعليمِها، والعمَلِ بها. واللهُ عَليمٌ بأحوالِكم، خَبيرٌ بما تُسِرُّونَ وتُعلِنون.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةٗۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ﴾ [المجادلة:12]


أيُّها المؤمِنون، إذا أرَدتمُ المُناجاةَ معَ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم(143) فتَصدَّقوا قَبلَ ذلك، فإنَّ في ذلكَ ثَوابًا لكم، وهوَ أطهَرُ لقُلوبِكمْ وأزكَى لنفُوسِكم، فمَنْ عجَزَ عنْ ذلكَ فلا بأس، فإنَّ اللهَ يَغفِرُ لهُ ويَرحَمُه.

قالَ صاحبُ "روحِ المعاني": في هذا الأمرِ تَعظيمُ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم، ونَفعٌ للفُقَراء، وتَمييزٌ بينَ المُخلِصِ والمُنافِق، ومُحِبِّ الدُّنيا ومُحِبِّ الآخِرَة، ودَفعٌ للتَّكاثُرِ عليهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيرِ حاجَةٍ مُهِمَّة.

ثمَّ رُفِعَ أمرُ الوجُوبِ في هذهِ الصَّدَقَة، الذي لم يَدُمْ إلاّ ساعَةً مِنْ نَهار، ونُسِخَ بالآيَةِ التَّالية.


(143) {نَاجَيْتُمُ} أي: يسارُّهُ فيما بينه وبينه. (ابن كثير).

﴿ءَأَشۡفَقۡتُمۡ أَن تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَٰتٖۚ فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [المجادلة:13]


هلْ خِفتُمْ منِ استِمرارِ وجُوبِ الصَّدقَةِ عليكمْ قَبلَ مُناجاةِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم، وخَشِيتُمْ مِنَ الفَقرِ لأجلِ ذلك؟ فإذا لم تَفعَلوا ما أُمِرتُمْ بهِ وشَقَّ ذلكَ عَليكم، وتابَ اللهُ عَليكم، ولم يُعاقِبْكمْ بتَركِ الصَّدَقَة، ورخَّصَ لكمُ المُناجاةَ بدونِها، فاعمَلوا بما أمرَكمْ به، مِنَ المُواظبَةِ على إقامَةِ الصَّلاة، وإعطاءِ حُقوقِ الفُقَراءِ والمُحتاجينَ مِنْ زكاةِ أموالِكم، وأطيعُوا اللهَ والرسُولَ في سائرِ الأوامِر، واللهُ عَليمٌ بأحوالِكم، خَبيرٌ بما تُسِرُّونَ وما تُعلِنون.

﴿۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيۡهِم مَّا هُم مِّنكُمۡ وَلَا مِنۡهُمۡ وَيَحۡلِفُونَ عَلَى الۡكَذِبِ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ [المجادلة:14]


ألمْ تَنظُرْ إلى المُنافِقينَ الذينَ يَقولونَ إنَّهمْ معَكم، وقدْ والَوا اليَهودَ الذينَ غَضِبَ اللهُ عَليهم، وناصَحوهم ونقَلوا أسرَارَ المؤمِنينَ إليهم؟ فهمْ ليسُوا منكمْ في الدِّينِ والولايَة، ولا مِنَ اليَهودِ والكافِرين، بلْ همْ مُذَبذَبونَ بينَ هؤلاءِ وهؤلاء، ويُقسِمونَ على أمرٍ كذِب، وهمْ يَعلَمونَ أنَّ ما أقسَموا عَليهِ كذِبٌ وبُهتان.

﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدًاۖ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [المجادلة:15]


هيَّأ اللهُ لهمْ عَذابًا مؤلِمًا بسبَبِ صَنيعِهمُ السيِّءِ هذا، ومُوالاتِهمْ لأعداءِ الدِّين، ومُعاداتِهمْ للمؤمِنينَ وغِشِّهمْ لهم.

﴿اتَّخَذُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ جُنَّةٗ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾ [المجادلة:16]


لقدْ أظهرَ المُنافِقونَ الإيمَانَ وأسَرُّوا الكُفر، واتَّخَذوا الحَلِفَ بالكذِبِ عندَ الحاجَةِ وقايةً وسِترًا لهمْ عنِ المؤاخذَةِ والمُحاسبَة، وظنَّ مَنْ لم يَعرِفْهمْ واغترَّ بهمْ أنَّهمْ صادِقون، فقدْ كانَ المنافِقُونَ يَحثُّونَ على العِصيان، ويَمنَعونَ مِنَ الجِهادِ بالمالِ والنَّفس، فلهمْ عَذابٌ يُهينُهمْ ويُخزيهمْ يَومَ القِيامَةِ بسبَبِ ذلك.

﴿لَّن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ النَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [المجادلة:17]


لنْ يَنفعَ المُنافِقينَ شَيءٌ ممَّا جمَعوهُ مِنْ أموَال، وشيَّدوهُ مِنْ قُصور، ولنْ يَستَطيعَ أولادُهمْ وذَراريهمْ أنْ يَمنَعوا عَنهمْ بأسَ اللهِ وعَذابَه، وسيَكونُ مَصيرُهمْ إلى النَّارِ المُحرِقَة، التي تأتي على وجوهِهمْ وأفئدَتِهم، خالدينَ فيها أبدًا.

﴿يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ الۡكَٰذِبُونَ﴾ [المجادلة:18]


يَحشرُهمُ اللهُ جَميعًا يَومَ القِيامَة، فيَحلِفونَ لهُ كاذِبينَ أنَّهمْ كانوا على إيمَانٍ واستِقامَة، وأنَّهمْ لم يَكونوا مُشرِكين، كما كانوا يَحلِفونَ لكمْ في الدُّنيا أنَّهمْ مُسلِمونَ مثلَكم، ويَظنُّونَ أنَّ الحَلِفَ الكاذِبَ سيَنفَعُهمْ في الآخِرَةِ ويَدفَعُ عَنهمُ العَذابَ كما كانوا يَتخلَّصونَ بهِ مِنَ المؤاخذَةِ في الدُّنيا، واللهُ يَعلَمُ كذِبَهم، فلا يَخفَى عَليهِ حالُ المُنافِقينَ، وما يُسِرُّونَ بهِ أو يُعلِنون.

﴿اسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ الشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ اللَّهِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حِزۡبُ الشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ الشَّيۡطَٰنِ هُمُ الۡخَٰسِرُونَ﴾ [المجادلة:19]


غلبَ على قُلوبِهمُ الشَّيطان، واستَولَى على عُقولِهمْ بوَسوَسَتِهِ وكَيدِهِ حتَّى وافَقوهُ واتَّبَعوه، فأنساهُمْ ذِكْرَ اللهِ بما زيَّنَ لهمْ مِنَ الشَّهواتِ وألهاهُمْ بهِ منَ الدُّنيا وزينَتِها، فأولئكَ جُنودُ الشَّيطانِ وأتباعُه، ألَا إنَّ أتْباعَهُ همُ الخاسِرونَ المَغبونون، الذينَ فوَّتوا على أنفُسِهمُ النَّعيمَ المُقيم، واستَعاضُوا بهِ العَذابَ الألِيم.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي الۡأَذَلِّينَ﴾ [المجادلة:20]


إنَّ الذينَ يُعادُونَ اللهَ ورسُولَه، ويُحارِبونَ الدِّينَ الحقَّ وأهلَه، أولئكَ مِنَ الأشْقياءِ المُهانينَ في الحيَاةِ الدُّنيا وفي الآخِرَة.

﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِيٓۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ﴾ [المجادلة:21]


قضَى اللهُ وحكَمَ أنَّ النُّصرَةَ للهِ ورسُلِه، بالحُجَّةِ والدَّليل، وبالجِهادِ والقِتال، وقدْ أهلكَ اللهُ أقوامًا مِنَ الذينَ كذَّبوا أنبياءَهمْ وكفَروا برِسالاتِ ربِّهم، واللهُ قَويٌّ على نَصرِ رسُلِه، عَزيزٌ غالِبٌ على أعدَائه.

﴿لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حِزۡبُ اللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ اللَّهِ هُمُ الۡمُفۡلِحُونَ﴾ [المجادلة:22]


لا تَجِدُ أحدًا مِنَ المؤمِنينَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ - بصِدقٍ وإخلاصٍ - يُوالُونَ ويُصادِقونَ أعداءَ اللهِ ورَسولِه، ولو كانَ هؤلاءِ الأعداءُ آباءَهم، أو أبناءَهم، أو إخوانَهم، أو قَبيلتَهمْ وعَشيرتَهم، أو أيًّا مِنْ أقاربِهم، فالعَقيدَةُ أهَمُّ مِنَ النَّسَب، ومَنْ وَالاهمْ فهوَ معَهمْ يَومَ القيامَة.

والذينَ لا يُوادُّونَهمْ ولو كانوا أقرِباءَهم، فأولئكَ الذينَ أثبتَ اللهُ في قُلوبِهمُ الإيمانَ وزيَّنَهُ لهم، فهمْ مُوقِنونَ مُخلِصون، وقَوَّاهمْ بروحٍ مِنْ عِندِه(144)، ليَحصُلَ لهمُ الطُّمأنينَةُ والثَّباتُ على الإيمَانِ والعمَلِ الصَّالح، ويُدخِلُهمُ اللهُ جَنَّاتٍ عاليَاتٍ واسِعات، تَجري في خِلالِها أنهَارٌ مِنْ مَاءٍ زُلال، ومِنْ لبَن، وعسَل، وخَمرٍ لَذيذٍ لا يُسكِر، مُخلَّدينَ فيها أبدًا، رَضيَ اللهُ عَنهمْ بطاعَتِهمْ له، فأثابَهمُ النَّعيمَ المُقيم، ورَضُوا عَنهُ بما آتاهُمْ مِنَ الجنَّةِ والرِّضوان، أولئكَ عِبادُ اللهِ مِنْ أهلِ كرامَتِه، ألَا إنَّ عِبادَ اللهِ المؤمِنينَ المُطيعين، همُ السُّعَداءُ الفَائزون.


(144) {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ}: قوَّاهم بنصرٍ منه. قالَ الحسن: سمَّى نصرَهُ إيّاهم (روحاً) لأن أمرَهم يحيا به. وقالَ السدِّي: يعني بالإيمان. وقالَ الربيع: يعني بالقرآنِ وحجَّته، كما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [سورة الشورى: 52]، وقيل: برحمةٍ منه. وقيل: أمدَّهم بجبريلَ عليه السلام. (البغوي). الروحُ هنا ما به كمالُ نوعِ الشيء، من عملٍ أو غيره، وروحٌ من الله: عنايتهُ ولطفه. (التحرير والتنوير).

سورة الحشر - مدنية - عدد الآيات: 24

59

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۖ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [الحشر:1]


نزَّهَ اللهَ ووَحَّدَهُ كُلُّ المخلوقاتِ في السَّماواتِ والأرْض، وهوَ الغالِبُ الذي لا يُغلَب، الحكيمُ فيما يَشْرَعُ ويُقدِّر.

فالمَخلوقاتُ كلُّها مُسَبِّحةٌ مُقَدِّسَةٌ لذاتِهِ سُبحانَهُ وتَعالَى، قَولاً وفِعلاً، طَوْعًا وكَرْهًا، بلسانِ الحال، أو بلسانِ المَقال {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء: 44].

﴿هُوَ الَّذِيٓ أَخۡرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ الۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ الۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ اللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي الۡمُؤۡمِنِينَ فَاعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي الۡأَبۡصَٰرِ﴾ [الحشر:2]


لمَّا قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ هادَنَ بَني النَّضيرِ مِنَ اليَهود، وأعطاهُمْ عَهدًا وذِمَّةً أنْ لا يُقاتِلَهمْ ولا يُقاتِلوه، ولكنَّهمْ نقَضوا العَهد، وناصَروا قُرَيشًا ضدَّ المسلِمين، فأحلَّ اللهُ بهمْ بأسَه، وأخرجَهمْ مِنْ حُصونِهمُ الحَصينَة...

اللهُ الذي أخرَجَ الذينَ كفَروا مِنْ يَهودِ بَني النَّضيرِ مِنْ ديارِهمْ بالمَدينَة، في أوَّلِ حَشرِهمْ وإخراجِهمْ إلى الشَّام. فكانَ هذا أوَّلَ إجلاءٍ لهمْ مِنْ جَزيرَةِ العَرب، ثمَّ أجلَى آخِرَهمْ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه. ما ظنَنتُمْ أيُّها المسلِمونَ عندَ حِصارِكمْ لهمْ أنْ يَخرُجوا مِنْ حُصونِهمُ المَنيعَةِ بسُهولَة، لشدَّةِ بأسِهمْ وكثرَةِ عدَدِهمْ وعُدَّتِهم، وظَنُّوا همْ أنَّ حُصونَهمُ القويَّةَ تَمنَعُهمْ مِنْ بأسِ الله، فجاءَهمْ أمرُهُ بما لم يَخطُرْ لهمْ ببَال، وقذفَ في قُلوبِهمُ الهلعَ والخَوفَ الشَّديد، وصَاروا يُخرِبونَ ما في بُيوتِهمْ لئلاَّ يَستَفيدَ منها المسلِمون، وليَنقُلوا ما يَقدِرونَ عليهِ معَهم، ويُخرِبُها المؤمِنونَ مِنَ الخارِج، ليُوهِنوهُمْ ويَدخُلوا عَليهم. فاتَّعِظوا يا أهلَ العُقولِ والبَصائر، وتَفكَّروا في عاقِبَةِ مَنْ خالفَ أمرَ اللهِ ورسُولِهِ كيفَ يَحِلُّ بهمْ بأسُه، وما أُعِدَّ لهمْ مِنَ العَذابِ في الآخِرَةِ أكبرُ وأفظَع.

﴿وَلَوۡلَآ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيۡهِمُ الۡجَلَآءَ لَعَذَّبَهُمۡ فِي الدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي الۡأٓخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ [الحشر:3]


ولولا أنَّ اللهَ قضَى بجَلاءِهمْ وإخراجِهمْ مِنْ ديارِهمْ وأموالِهم، لعذَّبَهمْ في الدُّنيا بالقَتلِ والسَّبي، كما فعلَ بإخوانِهمْ بَني قُرَيظَة، ولهمْ في الآخِرَةِ عَذابٌ شَديد.

﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥۖ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الۡعِقَابِ﴾ [الحشر:4]


ذلكَ بأنَّهمْ خالَفوا أمرَ اللهِ وعادَوا رَسولَه، ومْنْ يُخالِفْ أمرَ الله، فإنَّ عِقابَهُ شَديد، وعَذابَهُ أليم.

﴿مَا قَطَعۡتُم مِّن لِّينَةٍ أَوۡ تَرَكۡتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذۡنِ اللَّهِ وَلِيُخۡزِيَ الۡفَٰسِقِينَ﴾ [الحشر:5]


ما قطَعتُمْ مِنْ نَخلَةٍ مِنْ نَخيلِهم، أو أبقَيتُموها كما كانت، فبإذنِ اللهِ ومَشيئتِه، وليُذِلَّ اليَهودَ الكافِرينَ ويُرغِمَ أُنوفَهمْ ويُنزِلَهمْ مِنْ حُصونِهم.

﴿وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡهُمۡ فَمَآ أَوۡجَفۡتُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ خَيۡلٖ وَلَا رِكَابٖ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [الحشر:6]


وما ردَّ اللهُ على رسُولِهِ مِنْ أموالِ يَهودِ بَني النَّضيرِ ولم تُوَزَّعْ على المُجاهِدينَ منكم، فلأنَّكمْ لم تُقاتِلوا الأعدَاء، ولم تُسرِعوا بخَيلٍ وإبِلٍ وتُلاحِقوهمْ في مَعرَكة، فأفاءَها اللهُ على رسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فتصرَّفَ فيها كما شاء، وردَّها على مَصالحِ المسلِمين.

واللهُ يُسَلِّطُ رسُلَهُ على مَنْ يَشاءُ مِنْ أعدَائه، وقدْ سَلَّطَ اللهُ رَسولَهُ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم على هؤلاءِ اليَهودِ الذينَ خالَفوا العَهد، فأذلَّهم، واللهُ قَديرٌ على ما يِشاء، لا يُغلَبُ ولا يُقهَر.

﴿مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ الۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الۡقُرۡبَىٰ وَالۡيَتَٰمَىٰ وَالۡمَسَٰكِينِ وَابۡنِ السَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ الۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَانتَهُواْۚ وَاتَّقُواْ اللَّهَۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الۡعِقَابِ﴾ [الحشر:7]


وما أعادَهُ اللهُ على رسُولِهِ مِنْ جَميعِ البُلدانِ التي تُفتَحُ هكذا، مِنْ دونِ قِتالٍ يُذكَر، فحُكمُهُ حُكمُ أموَالِ بَني النَّضير: يُقسَّمُ خَمسةَ أخمَاس: خُمُسٌ للهِ ورسُولِه، فيَصرِفُهُ كما يَشاءُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام، وخُمُسٌ لذوي قَرابَتِهِ صلى الله عليه وسلم، والمُراد: بَنو هاشمٍ وبَنو عبدِالمُطَّلِب، وخُمُسٌ لليَتامَى الذينَ فَقَدوا آباءَهمْ وهمْ مازالُوا صِغارًا، وخُمُسٌ للمسَاكينِ والمُحتاجين، وخُمُسٌ لابنِ السَّبيلِ المُنقَطِعِ في سفَرِهِ مِنَ المسلِمين، حتَّى لا يَكونَ الفَيءُ مُتَداوَلاً بينَ الأغنياءِ منكمْ خاصَّةً (حيثُ كانَ الرُّؤساءُ والأغنياءُ يَحوزونَ الغَنيمةَ دونَ غَيرِهم)، فيَستأثِرونَ بهِ ولا يَصرِفونَهُ إلى الفُقَراء.

وما أمرَكمُ الرسُولُ بهِ فافعَلوه، وما نَهاكمْ عنهُ فاجتَنِبوه، واخشَوا اللهَ وابتَعِدوا مِنْ مُخالفَتِه، واللهُ شَديدُ العِقابِ لمَنْ عَصاهُ وخالفَ أمرَه.

قالَ ابنُ الجوزيِّ في "النَّواسخ": اختلفَ العُلماءُ فيما يُصنَعُ بسَهمِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم بعدَ وفاتِه، فقالَ قَوم: هوَ للخَليفَةِ بعدَه، وقالَ قَوم: يُصرَفُ في المصَالح، فعلَى هذا تَكونُ هذهِ الآيَةُ مُبيِّنةً لحُكمِ الفَيء، والتي في الأنفالِ مُبيِّنةً لحُكمِ الغَنيمة، فلا يَتوجَّهُ النَّسخ.

ويُراجَعُ تَفسيرُ الآيةِ (41) مِنْ سُورةِ الأنفالِ لمَعرِفةِ الفَرقِ بينَ الفَيءِ والغَنيمة، وتَقسيمِهما.