تفسير سورة الحشر

  1. سور القرآن الكريم
  2. الحشر
59

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۖ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [الحشر:1]


نزَّهَ اللهَ ووَحَّدَهُ كُلُّ المخلوقاتِ في السَّماواتِ والأرْض، وهوَ الغالِبُ الذي لا يُغلَب، الحكيمُ فيما يَشْرَعُ ويُقدِّر.

فالمَخلوقاتُ كلُّها مُسَبِّحةٌ مُقَدِّسَةٌ لذاتِهِ سُبحانَهُ وتَعالَى، قَولاً وفِعلاً، طَوْعًا وكَرْهًا، بلسانِ الحال، أو بلسانِ المَقال {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء: 44].

﴿هُوَ الَّذِيٓ أَخۡرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ الۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ الۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ اللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي الۡمُؤۡمِنِينَ فَاعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي الۡأَبۡصَٰرِ﴾ [الحشر:2]


لمَّا قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ هادَنَ بَني النَّضيرِ مِنَ اليَهود، وأعطاهُمْ عَهدًا وذِمَّةً أنْ لا يُقاتِلَهمْ ولا يُقاتِلوه، ولكنَّهمْ نقَضوا العَهد، وناصَروا قُرَيشًا ضدَّ المسلِمين، فأحلَّ اللهُ بهمْ بأسَه، وأخرجَهمْ مِنْ حُصونِهمُ الحَصينَة...

اللهُ الذي أخرَجَ الذينَ كفَروا مِنْ يَهودِ بَني النَّضيرِ مِنْ ديارِهمْ بالمَدينَة، في أوَّلِ حَشرِهمْ وإخراجِهمْ إلى الشَّام. فكانَ هذا أوَّلَ إجلاءٍ لهمْ مِنْ جَزيرَةِ العَرب، ثمَّ أجلَى آخِرَهمْ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه. ما ظنَنتُمْ أيُّها المسلِمونَ عندَ حِصارِكمْ لهمْ أنْ يَخرُجوا مِنْ حُصونِهمُ المَنيعَةِ بسُهولَة، لشدَّةِ بأسِهمْ وكثرَةِ عدَدِهمْ وعُدَّتِهم، وظَنُّوا همْ أنَّ حُصونَهمُ القويَّةَ تَمنَعُهمْ مِنْ بأسِ الله، فجاءَهمْ أمرُهُ بما لم يَخطُرْ لهمْ ببَال، وقذفَ في قُلوبِهمُ الهلعَ والخَوفَ الشَّديد، وصَاروا يُخرِبونَ ما في بُيوتِهمْ لئلاَّ يَستَفيدَ منها المسلِمون، وليَنقُلوا ما يَقدِرونَ عليهِ معَهم، ويُخرِبُها المؤمِنونَ مِنَ الخارِج، ليُوهِنوهُمْ ويَدخُلوا عَليهم. فاتَّعِظوا يا أهلَ العُقولِ والبَصائر، وتَفكَّروا في عاقِبَةِ مَنْ خالفَ أمرَ اللهِ ورسُولِهِ كيفَ يَحِلُّ بهمْ بأسُه، وما أُعِدَّ لهمْ مِنَ العَذابِ في الآخِرَةِ أكبرُ وأفظَع.

﴿وَلَوۡلَآ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيۡهِمُ الۡجَلَآءَ لَعَذَّبَهُمۡ فِي الدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي الۡأٓخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ [الحشر:3]


ولولا أنَّ اللهَ قضَى بجَلاءِهمْ وإخراجِهمْ مِنْ ديارِهمْ وأموالِهم، لعذَّبَهمْ في الدُّنيا بالقَتلِ والسَّبي، كما فعلَ بإخوانِهمْ بَني قُرَيظَة، ولهمْ في الآخِرَةِ عَذابٌ شَديد.

﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥۖ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الۡعِقَابِ﴾ [الحشر:4]


ذلكَ بأنَّهمْ خالَفوا أمرَ اللهِ وعادَوا رَسولَه، ومْنْ يُخالِفْ أمرَ الله، فإنَّ عِقابَهُ شَديد، وعَذابَهُ أليم.

﴿مَا قَطَعۡتُم مِّن لِّينَةٍ أَوۡ تَرَكۡتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذۡنِ اللَّهِ وَلِيُخۡزِيَ الۡفَٰسِقِينَ﴾ [الحشر:5]


ما قطَعتُمْ مِنْ نَخلَةٍ مِنْ نَخيلِهم، أو أبقَيتُموها كما كانت، فبإذنِ اللهِ ومَشيئتِه، وليُذِلَّ اليَهودَ الكافِرينَ ويُرغِمَ أُنوفَهمْ ويُنزِلَهمْ مِنْ حُصونِهم.

﴿وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡهُمۡ فَمَآ أَوۡجَفۡتُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ خَيۡلٖ وَلَا رِكَابٖ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُۥ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [الحشر:6]


وما ردَّ اللهُ على رسُولِهِ مِنْ أموالِ يَهودِ بَني النَّضيرِ ولم تُوَزَّعْ على المُجاهِدينَ منكم، فلأنَّكمْ لم تُقاتِلوا الأعدَاء، ولم تُسرِعوا بخَيلٍ وإبِلٍ وتُلاحِقوهمْ في مَعرَكة، فأفاءَها اللهُ على رسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فتصرَّفَ فيها كما شاء، وردَّها على مَصالحِ المسلِمين.

واللهُ يُسَلِّطُ رسُلَهُ على مَنْ يَشاءُ مِنْ أعدَائه، وقدْ سَلَّطَ اللهُ رَسولَهُ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم على هؤلاءِ اليَهودِ الذينَ خالَفوا العَهد، فأذلَّهم، واللهُ قَديرٌ على ما يِشاء، لا يُغلَبُ ولا يُقهَر.

﴿مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ الۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الۡقُرۡبَىٰ وَالۡيَتَٰمَىٰ وَالۡمَسَٰكِينِ وَابۡنِ السَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ الۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَانتَهُواْۚ وَاتَّقُواْ اللَّهَۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الۡعِقَابِ﴾ [الحشر:7]


وما أعادَهُ اللهُ على رسُولِهِ مِنْ جَميعِ البُلدانِ التي تُفتَحُ هكذا، مِنْ دونِ قِتالٍ يُذكَر، فحُكمُهُ حُكمُ أموَالِ بَني النَّضير: يُقسَّمُ خَمسةَ أخمَاس: خُمُسٌ للهِ ورسُولِه، فيَصرِفُهُ كما يَشاءُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام، وخُمُسٌ لذوي قَرابَتِهِ صلى الله عليه وسلم، والمُراد: بَنو هاشمٍ وبَنو عبدِالمُطَّلِب، وخُمُسٌ لليَتامَى الذينَ فَقَدوا آباءَهمْ وهمْ مازالُوا صِغارًا، وخُمُسٌ للمسَاكينِ والمُحتاجين، وخُمُسٌ لابنِ السَّبيلِ المُنقَطِعِ في سفَرِهِ مِنَ المسلِمين، حتَّى لا يَكونَ الفَيءُ مُتَداوَلاً بينَ الأغنياءِ منكمْ خاصَّةً (حيثُ كانَ الرُّؤساءُ والأغنياءُ يَحوزونَ الغَنيمةَ دونَ غَيرِهم)، فيَستأثِرونَ بهِ ولا يَصرِفونَهُ إلى الفُقَراء.

وما أمرَكمُ الرسُولُ بهِ فافعَلوه، وما نَهاكمْ عنهُ فاجتَنِبوه، واخشَوا اللهَ وابتَعِدوا مِنْ مُخالفَتِه، واللهُ شَديدُ العِقابِ لمَنْ عَصاهُ وخالفَ أمرَه.

قالَ ابنُ الجوزيِّ في "النَّواسخ": اختلفَ العُلماءُ فيما يُصنَعُ بسَهمِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم بعدَ وفاتِه، فقالَ قَوم: هوَ للخَليفَةِ بعدَه، وقالَ قَوم: يُصرَفُ في المصَالح، فعلَى هذا تَكونُ هذهِ الآيَةُ مُبيِّنةً لحُكمِ الفَيء، والتي في الأنفالِ مُبيِّنةً لحُكمِ الغَنيمة، فلا يَتوجَّهُ النَّسخ.

ويُراجَعُ تَفسيرُ الآيةِ (41) مِنْ سُورةِ الأنفالِ لمَعرِفةِ الفَرقِ بينَ الفَيءِ والغَنيمة، وتَقسيمِهما.

﴿لِلۡفُقَرَآءِ الۡمُهَٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ اللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الصَّـٰدِقُونَ﴾ [الحشر:8]


فيَكونُ الفَيءُ للفُقَراءِ مِنَ المُهاجِرين، الذينَ أخرجَهمْ كفَّارُ مكَّةَ مِنْ ديارِهمْ وأموالِهم، وهمْ يَطلبونَ مِنَ اللهِ رِزقًا في الدُّنيا ومَرضاةً في الآخِرَة، ويَنتَصِرونَ لدِينِ اللهِ ويُطيعُونَ رَسولَه، فأولئكَ همُ الصَّادِقونَ في إيمانِهمْ حقًّا.

﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡمُفۡلِحُونَ﴾ [الحشر:9]


والأنصارُ الذينَ اتَّخَذوا دارَ الهجرَةِ مَنزِلاً وسَكنًا قَبلَ المُهاجِرين، وآمَنوا قَبلَ كثيرٍ منهم، يُحبُّونَ إخوانَهمُ الذينَ هاجَروا إليهم، ويُواسُونَهم، ولا يَتبرَّمونَ مِنْ حَوائجِهم، ولا يَجدونَ في نفُوسِهمْ حَسدًا لهمْ ممَّا أُعطُوا مِنْ فَيءٍ وغَيرِه، ويُفَضِّلونَهمْ على أنفُسِهمْ في كُلِّ شَيء، ولو كانَ بهمْ حاجَة، ومَنْ مَنعَ نَفسَهُ مِنَ البُخلِ والحِرصِ على المَال، فقدْ أفلحَ وفاز.

وفي حديثِ جابرٍ المرفوعِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: "واتَّقوا الشُّحّ، فإنَّ الشُّحَّ أَهلَكَ مَنْ كانَ قَبلَكم، حملَهمْ على أنْ سفَكوا دِماءَهم، واستَحلُّوا مَحارِمَهم". رَواهُ مُسلم.

والشُّحُّ أشَدُّ البُخل، وأبلَغُ في المَنعِ مِنَ البُخل. وفيهِ أقوالٌ أخرى ذكرَها النَّوَويُّ في شَرحِهِ على صَحيحِ مُسلم.

﴿وَالَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر:10]


والذينَ جاؤوا بعدَ المُهاجرينَ والأنصَار، واتَّبَعوا آثارَهمُ الحسَنة، يَقولونَ في دُعائهمُ الطيِّبِ ما تَفسيرُه: ربَّنا اغفِرْ لنا ذُنوبَنا، ولإخوانِنا في الدِّين، الذينَ سبَقونا بفَضيلَةِ الإيمَانِ بكَ وبرَسُولِك، ولا تَجعَلْ في قُلوبِنا حسَدًا وبُغضًا للَّذينَ آمَنوا، ربَّنا إنَّكَ كثيرُ الرَّحمَةِ بالنَّاس، قدْ وَسِعَتْ رَحمَتُكَ كُلَّ شَيء.

﴿۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لِإِخۡوَٰنِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ الۡكِتَٰبِ لَئِنۡ أُخۡرِجۡتُمۡ لَنَخۡرُجَنَّ مَعَكُمۡ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمۡ أَحَدًا أَبَدٗا وَإِن قُوتِلۡتُمۡ لَنَنصُرَنَّكُمۡ وَاللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ﴾ [الحشر:11]


ألمْ تَنظُرْ إلى المُنافِقينَ كيفَ يَتصرَّفون، ويَقولونَ لإخوانِهمْ في العَقيدَةِ مِنَ الكافِرينَ اليَهود: لئنْ أُخرِجْتُمْ مِنْ ديارِكمْ بالمدِينةِ لنَخرُجَنَّ مِنها معَكم، ونَصحَبَكمْ أينَما ذهَبتُم، ولنْ نَسمَعَ كلامَ أحَدٍ في غَيرِ مَصلحتِكمْ أبدًا، وإذا قاتلَكمْ أحَدٌ فسنُعينُكمْ على عَدوِّكم. واللهُ يَشهَدُ إنَّ المُنافِقينَ كاذِبونَ فيما قالُوا ووعَدوا به.

﴿لَئِنۡ أُخۡرِجُواْ لَا يَخۡرُجُونَ مَعَهُمۡ وَلَئِن قُوتِلُواْ لَا يَنصُرُونَهُمۡ وَلَئِن نَّصَرُوهُمۡ لَيُوَلُّنَّ الۡأَدۡبَٰرَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ﴾ [الحشر:12]


ولو أنَّ اليَهودَ أُجْلُوا مِنْ ديارِهمْ لما خرَجَ المُنافِقونَ معَهم، ولو قُوتِلوا فلنْ يُدافِعوا عَنهم، ولو قاتَلوا معَهمْ فسيَنهَزِمونَ شرَّ هَزيمة، ثمَّ لنْ يُدافِعَ عنهمْ أحد، بلْ يُهلِكُهمُ الله.

﴿لَأَنتُمۡ أَشَدُّ رَهۡبَةٗ فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ﴾ [الحشر:13]


إنَّكمْ أيُّها المسلمونَ أكثَرُ خَوفًا في صُدورِهمْ مِنَ اللهِ تَعالَى، وهذا لأنَّهمْ لا يَعلَمونَ عَظمَةَ اللهِ ليَخشَوهُ حقَّ الخَشيَة.

﴿لَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرٗى مُّحَصَّنَةٍ أَوۡ مِن وَرَآءِ جُدُرِۭۚ بَأۡسُهُم بَيۡنَهُمۡ شَدِيدٞۚ تَحۡسَبُهُمۡ جَمِيعٗا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ﴾ [الحشر:14]


ومِنْ جُبْنِ اليَهودِ أنَّهمْ لا يَبرُزونَ لقِتالِكمْ مُجتَمِعينَ مُتَّفِقينَ في مَكانٍ مُعيَّن، إلاّ مُتحَصِّنينَ في قُرًى، أو مُتسَتِّرينَ وَراءَ جُدران. عَداوَةُ بَعضِهمْ لبَعضٍ شَديدة، تَحسَبُهمْ ظاهِرًا مُجتَمِعينَ ذَوي أُلفَةٍ واتِّحاد، بينَما قُلوبُهمْ مُتفَرِّقَةٌ مُختلِفَة، فبينَهمْ عَداواتٌ وأحقَاد، فلا يَتَعاضَدون، ذلكَ بأنَّهمْ لا يَتدَبَّرونَ سبَبَ الاتِّفاق، وهوَ الإيمَان، والعَقيدَةُ الصَّحيحة، التي تؤلِّفُ بينَ القُلوب.

﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ قَرِيبٗاۖ ذَاقُواْ وَبَالَ أَمۡرِهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [الحشر:15]


ومثَلُ يَهودِ بَني النَّضيرِ كمثَلِ الذينَ مِنْ قَبلِهمْ مِنْ مُشرِكي مكَّة، الذينَ ذاقُوا سُوءَ عاقبَةِ كُفرِهمْ منذُ زمَنٍ قَريبٍ ببَدر، أو كمَثَلِ بَني قَينُقاع، الذينَ أجلاهمُ الرسُولُ صلى الله عليه وسلم قَبلَهم. ولهمْ يَومَ القِيامَةِ عَذابٌ أشَدُّ وأبقَى.

﴿كَمَثَلِ الشَّيۡطَٰنِ إِذۡ قَالَ لِلۡإِنسَٰنِ اكۡفُرۡ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكَ إِنِّيٓ أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [الحشر:16]


مثَلُ اليَهودِ في اغتِرارِهمْ بوعُودِ المنافِقينَ وخِذلانِهمْ لهم، كمثَلِ الشَّيطان، إذْ أغرَى الإنسَانَ وزيَّنَ في نَفسِهِ العِصيان، وقالَ له: اكفُرْ فلنْ يَضُرَّكَ هذا. فلمَّا كفَر، قالَ لهُ الشَّيطان: إنَّني أتَبرَّأُ منك، حتَّى لا أُشارِكَكَ في العَذاب، إنِّي أخافُ عُقوبةَ الله، واللهُ شَديدُ العَذاب.

﴿فَكَانَ عَٰقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَٰلِدَيۡنِ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَـٰٓؤُاْ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [الحشر:17]


فكانَ مَصيرَ الإنسَانِ الضَّالِّ والشَّيطانِ المُضِلّ، أنَّهما في نارِ جهنَّم، خالدَينِ فيها أبدًا، وهذا جَزاءُ مَنْ ظلمَ نَفسَهُ وخرَجَ عنِ الحقّ.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَاتَّقُواْ اللَّهَۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [الحشر:18]


أيُّها المؤمِنون، أطِيعُوا اللهَ ولا تُخالِفوا أمرَه، ولتَنظُرْ كلُّ نَفسٍ ما ادَّخرَتْ لها مِنَ الأعمَالِ الصّاَلحةِ ليَومِ العَرضِ والحِساب، واتَّقوا اللهَ في كُلِّ ما تأتونَ وما تذَرون، وأطيعُوهُ فيما أمرَكمْ بهِ وما نَهاكمْ عنه، واللهُ عَليمٌ بأعمالِكم، خَبيرٌ بأحوالِكم، لا يَخفَى عليهِ أمر.

﴿وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡفَٰسِقُونَ﴾ [الحشر:19]


ولا تَكونوا كالذينَ ترَكوا أمرَ اللهِ وطاعتَهُ ولم يُراعُوا حُقوقَه، فأنسَاهمُ الأعمالَ الصَّالحةَ ليَنفَعوا بها أنفُسَهمْ يَومَ الحِساب، أولئكَ الخارِجونَ عنْ طاعَةِ الله، الخاسِرونَ يَومَ المَعاد.

﴿لَا يَسۡتَوِيٓ أَصۡحَٰبُ النَّارِ وَأَصۡحَٰبُ الۡجَنَّةِۚ أَصۡحَٰبُ الۡجَنَّةِ هُمُ الۡفَآئِزُونَ﴾ [الحشر:20]


لا يتَساوَى أهلُ النَّارِ مِنَ الكافِرين، وأهلُ الجنَّةِ مِنَ المؤمِنين، فالكافِرونَ يَفعَلونَ الشرّ، ويَرتَكبونَ المعَاصي والذُّنوب، ويَتعاوَنونَ على الإثمِ والعُدوان، ويَظلِمون، ويُفسِدون. والمؤمِنونَ يَفعَلونَ الخَير، ويُطيعونَ اللهَ فيما أمرَهم، ويَتعاوَنونَ على البرِّ والتَّقوَى، ويَنشُرونَ العَدل، ويَدعُونَ إلى الحقّ؛ فهمُ النَّاجونَ مِنَ النَّار، الفائزونَ برِضَى اللهِ وجنَّتِه. أمَّا الكافِرون، فعَليهمْ غضَبُ الله، ويَحِلُّ بهمْ عَذابُهُ يَومَ الحِساب.