تفسير الجزء 29 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء التاسع والعشرون
29
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح
سورة الجن
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات

سورة القلم - مكية - عدد الآيات: 52

68

﴿نٓۚ وَالۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ﴾ [القلم:1]


الحروفُ المُقَطَّعَةُ... اختلَفَ المفسِّرونَ في دَلالتِها.

أُقسِمُ بالقلَمِ، وما يَكتُبون.

فيهِ تَنبيهٌ على فَضيلَةِ القلَم، وتَعليمِ الكتابَة.

وصحَّ في الحديثِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أوَّلَ شَيءٍ خلقَهُ اللهُ القلَم، وأمرَهُ فكتبَ كُلَّ شَيءٍ يَكون". رواهُ أبو يَعلَى في مُسنَدِه، والحاكمُ في مُستَدرَكِه وصحَّحَ إسنادَه، والترمذيُّ وحسَّنَه، واللَّفظُ للأوَّل.

﴿مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ﴾ [القلم:2]


لستَ بفَضلِ اللهِ مَجنونًا، كما يَقولُهُ الجَهلَةُ المشرِكون.

﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجۡرًا غَيۡرَ مَمۡنُونٖ﴾ [القلم:3]


وإنَّ لكَ ثَوابًا عَظيمًا وأجرًا كبيرًا لا يَنقَطِع، على تَبليغِكَ الرسالَة، وصَبرِكَ على أذَى المشرِكين.

﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ﴾ [القلم:4]


وإنَّكَ لعَلَى أدَبٍ عَظيم، وأخلاقٍ كريمَةٍ عالية، لا يُدرِكُ شَأوَها أحَدٌ مِنَ الخَلق.

وعندَما سُئلَتْ أُمُّنا عائشَةُ رضِيَ اللهُ عَنها عنْ أخلاقِهِ صلى الله عليه وسلم قالتْ للسَّائل: ألَستَ تَقرَأُ القُرآن؟ قال: بلَى. قالت: فإنَّ خُلُقَ نَبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ القُرآن. رَواهُ مُسلمٌ في صَحيحِه.

قالوا: يَعني أنَّ ما في القُرآنِ كُلِّهِ مِنْ مَكارِمِ الأخلاقِ كانَ فيهِ صلى الله عليه وسلم، وما فيهِ مِنَ النَّهي عنْ سَيِّءِ الأخلاقِ كانَ مُنتَهيًا عنه. هذا على ما طَبعَهُ اللهُ مِنَ الأخلاقِ العَظيمَة، كالحِلم، والعَفو، والكرَم، والحيَاء، والشَّجاعَة، وكُلِّ خُلُقٍ جَميل.

﴿فَسَتُبۡصِرُ وَيُبۡصِرُونَ﴾ [القلم:5]


فسترَى أيُّها النبيّ، وسيرَى مُكَذِّبوكَ عندَما يَنزِلُ بهمُ العَذاب،

﴿بِأَييِّكُمُ الۡمَفۡتُونُ﴾ [القلم:6]


أيًّا منكمْ هوَ المَجنون.

﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِالۡمُهۡتَدِينَ﴾ [القلم:7]


إنَّ اللهَ تَعالَى أعلَمُ بمَنْ ضَلَّ عنِ الهُدَى وتاهَ عنِ الحقِّ، فكانَ مِنَ المَجانين، الخاسِرين، وهوَ أعلَمُ بمَنِ اهتدَى وسلكَ طَريقَ الحقّ، فكانَ مِنَ العُقلاءِ الفَائزين.

﴿فَلَا تُطِعِ الۡمُكَذِّبِينَ﴾ [القلم:8]


فدُمْ على ما أنتَ عليهِ مِنَ الحقّ، ولا تُطِعِ المشرِكينَ فيما يَدْعُونَكَ إليه،

﴿وَدُّواْ لَوۡ تُدۡهِنُ فَيُدۡهِنُونَ﴾ [القلم:9]


تَمنَّوا أنْ تَلينَ لهمْ وتُصانِعَهمْ في دِينِك، فيَلينُونَ لكَ ويُصانِعونَكَ في دِينِهم.

﴿وَلَا تُطِعۡ كُلَّ حَلَّافٖ مَّهِينٍ﴾ [القلم:10]


ولا تُطِعْ كُلَّ كثيرِ الحَلِفِ بالباطِل؛ ليُغَطِّيَ بهِ على كَذِبِهِ ويَستَجلِبَ ثِقةَ النَّاس، وهوَ حَقيرٌ مُهان.

﴿هَمَّازٖ مَّشَّآءِۭ بِنَمِيمٖ﴾ [القلم:11]


يَغتابُ النَّاسَ ويَعِيبُهم، بالقَولِ والإشارَة، ويَنقلُ الكلامَ بينَ النَّاسِ علَى جِهَةِ الإفسَاد، ليُفسِدَ قُلوبَهم، ويُحَرِّشَ بينَهم، ويَقطَعَ صِلاتِهم.

﴿مَّنَّاعٖ لِّلۡخَيۡرِ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ﴾ [القلم:12]


وهوَ بَخيلٌ، يَمنَعُ الخَيرَ عنْ نَفسِهِ وعنِ الآخَرين، وظالِمٌ مُعتَدٍ يَتجاوَزُ الحقَّ والعَدل، ويَصرِفُ النَّاسَ عنْ دِينِ الله، وفاجِرٌ، يَرتَكِبُ المَعاصيَ والذُّنوب.

﴿عُتُلِّۭ بَعۡدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ﴾ [القلم:13]


غَليظٌ جَافٍ شَديدُ الخُصومَةِ في الباطِل، معَ ما وصَفناهُ به، دَعيٌّ في النسَب، مُلصَقٌ بالقَومِ وليسَ منهم.

﴿أَن كَانَ ذَا مَالٖ وَبَنِينَ﴾ [القلم:14]


ألأنَّهُ ممَّنْ أنعَمنا عَليهِ بأموَالٍ وبَنينَ كثُر؟

﴿إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ الۡأَوَّلِينَ﴾ [القلم:15]


فجعَلَ مُجازاةَ نِعمَتِنا عليهِ أنَّهُ إذا قُرِئتْ عَليهِ آياتُ كتابِنا كذَّبَ بها وقال: هذا ممَّا سطَّرَهُ الأوَّلونَ في الكتُب، فهوَ حِكاياتٌ وخُرافاتٌ تُروَى وليسَ وَحيًا!

﴿سَنَسِمُهُۥ عَلَى الۡخُرۡطُومِ﴾ [القلم:16]


سنَجعَلُ على أنفِهِ سِمَةً وعَلامةً حتَّى يُعرَفَ بها وتَبقَى عَيبًا فيه. أو أنَّهُ تَعذيبٌ بنَارٍ على أنفِهِ في جهنَّم.

﴿إِنَّا بَلَوۡنَٰهُمۡ كَمَا بَلَوۡنَآ أَصۡحَٰبَ الۡجَنَّةِ إِذۡ أَقۡسَمُواْ لَيَصۡرِمُنَّهَا مُصۡبِحِينَ﴾ [القلم:17]


إنَّا ابتلَينا كُفَّارَ مكَّةَ بالقَحطِ والجُوعِ لمَّا كفَروا بنِعمَةِ اللهِ وجحَدوا برِسالَةِ الإسْلام، كما ابتلَينا أصحابَ البُستان، المُشتَمِلِ على أنوَاعِ الفَاكهةِ والثِّمار، عندَما أقسَمَ أصحابُهُ أنَّهمْ سيَقَطَعونَ ثِمارَهُ في الصَّباحِ الباكِر، قَبلَ أنْ يَعلمَ بهمْ سائلٌ أو فَقير.

﴿وَلَا يَسۡتَثۡنُونَ﴾ [القلم:18]


ولا يَتركونَ منهُ شيئًا للمسَاكين(148).

(148) في الطبعة الأولى: "ولم يَستَثنوا في حَلِفِهم، فلمْ يَقولوا: إنْ شاءَ الله، إصرَارًا وثِقَةً منهمْ بالأمرِ الذي همْ مُقدِمونَ عليه". وهذا عند كثيرٍ من المفسرين. وقالَ العلّامةُ إسماعيل حقي بعدَ ذكرِ تفسيرهِ بالمشيئة: والأظهرُ ان المعنى: ولا يستثنون حصةَ المساكين، أي: لا يميِّزونها ولا يخرجونها كما كان يفعلهُ أبوهم. وقالَ أبو حيان: ولا ينثنون عمَّا عَزموا عليه من منعِ المساكين. (روح البيان). وهو عند العلامةِ الطاهر بنِ عاشور أيضًا، قال: ومعنى {لَا يَسْتَثْنُونَ} أنهم لا يستثنون من الثمرةِ شيئاً للمساكين، أي: أقسَموا ليَصْرِمُنَّ جميعَ الثمرِ ولا يتركون منه شيئاً. وهذا التعميمُ مستفادٌ مما في الصرمِ من معنى الخزنِ والانتفاعِ بالثمرة، وإلاّ فإن الصرمَ لا ينافي إعطاءَ شيءٍ من المجذوذِ لمن يريدون. وأُجمِلَ ذلك اعتماداً على ما هو معلومٌ للسامعين من تفصيلِ هذه القصة، على عادةِ القرآنِ في إيجازِ حكايةِ القصصِ بالاقتصارِ على موضعِ العبرةِ منها. وقالَ في آخره: وعلى الرواياتِ كلِّها يُعلَمُ أن أهلَ هذه الجنةِ لم يكونوا كفاراً، فوجهُ الشبهِ بينهم وبين المشركين المضروبُ لهم هذا المثل، هو بطرُ النعمةِ والاغترارُ بالقوة. (التحرير والتنوير).

﴿فَطَافَ عَلَيۡهَا طَآئِفٞ مِّن رَّبِّكَ وَهُمۡ نَآئِمُونَ﴾ [القلم:19]


فأحاطَ بالبُستانِ بَلاءٌ مِنْ عندِ اللهِ ليلاً، وهمْ نائمونَ غافِلون.

﴿فَأَصۡبَحَتۡ كَالصَّرِيمِ﴾ [القلم:20]


فأصبَحَ مثلَ الزَّرعِ المَحصُود، أو الأشجارِ المَجنيَّةِ ثِمارُها.

﴿فَتَنَادَوۡاْ مُصۡبِحِينَ﴾ [القلم:21]


فنادَى بَعضُهمْ بَعضًا في وَقتِ الصَّباح:

﴿أَنِ اغۡدُواْ عَلَىٰ حَرۡثِكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰرِمِينَ﴾ [القلم:22]


اخرُجوا إلى بُستانِكمْ إذا كنتُمْ تُريدونَ قَطفَ ثِمارِه.

﴿فَانطَلَقُواْ وَهُمۡ يَتَخَٰفَتُونَ﴾ [القلم:23]


فمشَوا إليهِ وهمْ يَتكلَّمونَ بهُدوء، حتَّى لا يَسمعَهمْ أحَد، ويَقولون:

﴿أَن لَّا يَدۡخُلَنَّهَا الۡيَوۡمَ عَلَيۡكُم مِّسۡكِينٞ﴾ [القلم:24]


لا تُمَكِّنوا أحدًا مِنَ المسَاكينِ يَدخُلْ عَليكم.

﴿وَغَدَوۡاْ عَلَىٰ حَرۡدٖ قَٰدِرِينَ﴾ [القلم:25]


فعزَموا على مَنعِهم، وصَاروا قادِرينَ على ذلكَ.

﴿فَلَمَّا رَأَوۡهَا قَالُوٓاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ﴾ [القلم:26]


فلمَّا وصَلوا إليه، ووَقعَ نظَرُهمْ عليه، قالوا: لقدْ أخطَأنا الطَّريقَ إلى البُستَان، فليسَ هذا بُستانَنا!

﴿بَلۡ نَحۡنُ مَحۡرُومُونَ﴾ [القلم:27]


ولكنَّهمْ لمَّا وقَفوا على حَقيقةِ الأمرِ قالُوا: لم نُخطِئِ الطَّريق، فهذا بُستانُنا، ولكنَّنا حُرِمنا خَيرَه، لحِرمانِنا المسَاكينَ مِنْ خَيرِه، فلا حظَّ لنا فيهِ ولا نَصيب.

﴿قَالَ أَوۡسَطُهُمۡ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ لَوۡلَا تُسَبِّحُونَ﴾ [القلم:28]


قالَ أحسَنُهمْ وأرجَحُهمْ عَقلاً: ألمْ أقُلْ لكم: هلاَّ ذَكرتُمُ اللهَ وشَكرتُمْ نِعمَه، وأعطَيتُمْ حقَّ المساكينِ منه؟

﴿قَالُواْ سُبۡحَٰنَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ﴾ [القلم:29]


قالوا وهمْ نادِمون: تَبارَكَ اللهُ وتَنزَّهَ عنْ ظُلمِ عِبادِه، لقدْ كنَّا نحنُ الظَّالمينَ إذْ لم نَشكُرْ نِعمتَه، وعزَمنا على مَنعِ الفُقَراءِ مِنْ ثِمارِ البُستَان.

﴿فَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَلَٰوَمُونَ﴾ [القلم:30]


ثمَّ أقبلَ بَعضُهمْ يَلومُ بَعضًا على ما صدَرَ منهمْ بحقِّ المساكِين.