تفسير الجزء 3 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الثالث
3
سورة البقرة (253 – 286)
سورة آل عمران (1 – 91)

﴿۞تِلۡكَ الرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ابۡنَ مَرۡيَمَ الۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ الۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ مَا اقۡتَتَلَ الَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ الۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ اخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ مَا اقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة:253]


لقدْ فضَّلنا رُسُلاً على رُسُلٍ آخَرين، فقدْ كلَّم اللهُ بَعضاً منهم، كموسَى عليهِ السلام، ورفعَ بعضَهم درجاتٍ أعلى منْ درجاتِ آخَرين، كمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، الذي فضَّلَهُ اللهُ على العالَمين، فهو رسولُ اللهِ إلى الناسِ كافَّة، ونَسَختْ رسالةُ الإسلامِ التي جاءَ بها سائرَ الرسالاتِ السابِقة. وآتَينا نبيَّ اللهِ عيسى بنَ مريمَ عليهِ السلامُ دلائلَ ومُعجِزاتٍ قويَّة، كإحياءِ الموتى بإذنِ الله، وغيرِها، تُثبتُ صحَّة نبوَّتهِ وما جاءَ بهِ لبني إسرائيل، وأيَّدناهُ بجبريلَ عليه السلام، يُثَبِّته ويُقَوِّيه.

وقدْ تقاتلَ أتباعُ الرسلِ مِنْ بعدُ نتيجةَ اختلافِهم، على الرَّغمِ مِنْ كونِ أنبيائهمْ جميعاً دعاةً إلى عِبادةِ اللهِ الواحدِ الأحَد، وعلى الرغمِ مِنْ وضوحِ الآياتِ البيِّناتِ والحُججِ السَّاطعاتِ لدَى الفريقِ المؤمن، فكانَ منهمْ مَنْ آمَن، ومنهمْ مَنْ كفَر، ولو أرادَ اللهُ لَمَا تَقاتلوا، ولكنْ هذهِ إرادَتُهُ ومَشيئتَه، ليدفعَ الكفرَ بالإيمان، وليثبِّتَ العقيدةَ الصحيحةَ في الأرض، لتنتَشِرَ ويَعرِفَها الناس.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خُلَّةٞ وَلَا شَفَٰعَةٞۗ وَالۡكَٰفِرُونَ هُمُ الظَّـٰلِمُونَ﴾ [البقرة:254]


أيُّها المؤمنون، إنَّ الدُّنيا فرصةٌ للعَملِ الصَّالح، فأنفِقوا ممّا تفضَّل اللهُ بهِ عليكمْ مِنْ رِزق، قبلَ أنْ تُغلَقَ صفحةُ الدُّنيا فلا يُقبَلُ منْ أحدٍ عَمَل، وإنَّ أمامَكمْ يومَ القيامَة، الذي لا يوجدُ فيهِ بَيعٌ ولا شِراءٌ حتَّى تُجَرِّبوا رِبحاً، فلا مالَ يَبذلهُ المرءُ ليَفديَ بهِ نفسَه، ولا تَنفعُ صداقةُ أحدٍ ولا قَرابتُهُ لمسامحتِكم، ولا وَساطاتٌ جاريةٌ لتَشفَعَ لكمْ وتَعفوَ عنكم، بلِ الأمرُ كلُّه يَومَئذٍ لله.

والكافِرونَ همْ أكثرُ الناسِ خَسارةً في ذلكَ اليوم، فقدْ أنكروا الحقّ، وظلموا أنفسَهمْ بعدمِ اتِّباعه، وظلَموا غيرَهمْ عندما صَدُّوهمْ عنِ الهُدَى، وحَرَموهمْ منْ خيرٍ كثير، فبَاؤوا بإثمِهمْ وآثامِ الآخَرين.

﴿اللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الۡحَيُّ الۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۗ مَن ذَا الَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ الۡعَلِيُّ الۡعَظِيمُ﴾ [البقرة:255]


هوَ اللهُ الواحِدُ الأحَد، الذي لا يُعْبَدُ بحقٍّ إلاّ هو، الحيُّ الدائمُ الباقي الذي لا يَعتريهِ الموتُ ولا سبيلَ للفَناءِ إليه، فهوَ ذو حياةٍ أزليَّةٍ لا بِدايةَ لها، وأبديَّةٍ لا نهايةَ لها، وهوَ الموجودُ القائمُ بتَدبيرِ كلِّ شَيءٍ وحفظِه، لا يَطرأ عليه فُتورٌ ولا يَغْلِبُ عليهِ وسَنٌ ولا نُعاس، فضلاً عنِ النومِ المُستَغرِق، فهوَ مُنَـزَّهٌ سُبحانَهُ عنْ هذا وذاك، لا يَغْفُلُ عنْ شَيءٍ لحظَة.

كلُّ ما في السَّماواتِ والأرضِ مُلكٌ لهُ وتحتَ سيطرتهِ وإرادتِه.

ولا يَتجاسَرُ أحدٌ على طَلبِ الشفاعةِ منهُ إلاّ بإذنه، فالكلُّ لهُ عبيد، خاضِعونَ لمشيئتِه، يَطلبونَ منهُ الإذن، ويَشفعونَ في حُدودِ المأذونِ لهمْ به، ولهُ المُلْكُ والعظَمةُ والجَلال.

وعِلْمُهُ مُطلَقٌ شامِلٌ كامِلٌ، مُحيطٌ بجَميعِ الكائنات، ماضِيها وحاضرِها ومَستَقبلِها، وما تُسِرُّهُ وما تُظهِرُه. ولا يَعرِفونَ شَيئاً مِنْ علمهِ إلاّ إذا أطلعَهم عليه، ممّا يناسبُ حالَهمْ وحاجتَهم، ممّا سخَّرَ لهمْ في الأرضِ وفي السماءِ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [سورة فُصِّلَت: 53].

وقد وَسِعَ كرسيُّهُ السَّماواتِ والأرض.

ولا يُتْعِبُهُ حِفْظُ ما فيهما ولا يُثْقِلُهُ شيءٌ مِنْ ذلك، ولا ما بينَهما، بلْ هوَ سهلٌ عليهِ يَسير، فهوَ الرقِيبُ على جميعِ الكائنات، لا يَغيبُ عنهُ شيءٌ مِنْ حركاتِها، والأشياءُ كلُّها صَغيرةٌ ومَتواضِعَةٌ بالنسبةِ إلى قُدرتهِ وعظَمَتِه، وهيَ جميعاً مُحتاجَةٌ إلى حِفظهِ وتَدبيرِه.

وهوَ المُتَفرِّدُ بالعلوِّ والعظَمة، والجلالِ والجبَروت، الرفيعُ فوقَ خَلْقِه، المُتعالي عنِ الأشياءِ والأمثال، الكبيرُ الذي لا شيءَ أعظمُ منه.

ومهما عَلا إنسانٌ فلا يتجاوزُ مقامَ العبوديةِ للهِ العَظيم!

وهذهِ آيةُ الكرسيِّ، شأنُها عَظيم، وردَ في أحاديثَ صحيحةٍ أنَّها أعظمُ آيةٍ في القُرآنِ الكريم. كما صحَّ قولهُ صلى الله عليهِ وسلَّم: "مَنْ قرأ آيةَ الكرْسي ِّ دُبُرَ كلِّ صَلاةٍ مَكتوبة، لم يَمْنَعْهُ مِنْ دُخولِ الجنَّةِ إلاّ أنْ يَموت".

﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي الدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشۡدُ مِنَ الۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِالطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِاللَّهِ فَقَدِ اسۡتَمۡسَكَ بِالۡعُرۡوَةِ الۡوُثۡقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَاۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:256]


لا يُجْبَرُ أحدٌ على الدخُولِ في الإسْلام، ولا لزومَ لهذا الإكراهِ ولا فائدةَ منه، فإنَّ الإسلامَ نَهجٌ واضحٌ بيِّنٌ يُخاطِبُ عقلَ الإنسانِ وقُوَاهُ وطاقاتهِ كلَّها، وهوَ دينُ الفطرةِ والبَداهةِ والإقناع، وليسَ دينَ الغُموضِ والقَهْرِ والإكراهِ، ولا يُفيدُ الإسلامَ وأهلَهُ رجلٌ أبدى اعتناقَهُ للإسلامِ وهوَ غيرُ مقتنعٍ به، بلْ هذهِ صفةُ المنافقينَ الذينَ ذمَّهمُ اللهُ تعالى في كتابهِ ورفضَ قَبولَ إسلامِهم، وهمْ بهذا يكونونَ عالةً على المجتمعِ الإسلامي، ومَرَضاً يَسري في جسمِه.

وفي كلِّ الأحوالِ لا يُقْبَلُ من المرءِ إلاّ إيمانٌ عنْ طَواعية، كما لا يُقْبَلُ منهُ عَمَلٌ إلا عنْ رضىً واقتِناع.

وقدْ وضَحَ الفرقُ بين الإيمانِ والكُفر، بينَ طَريقِ الحقِّ وطَريقِ الضَّلال، وأودعَ اللهُ في الإنسانِ ما يُدرِكُ بهِ ذلك، فمَنْ تجنَّبَ الأصْنام، وتركَ ما يدعو إليهِ الشيطانُ مِنْ عبادةِ غيرِ الله، ولم يَتجاوزِ الحدودَ التي حدَّها اللهُ للعباد، وآمنَ باللهِ وحدَه، واستمَدَّ مِنْ كتابهِ طريقَ العِبادةِ والعَمل، فقدْ تمسَّكَ منَ الدِّينِ بأقوَى سبَب، وقبضَ على عُقْدَةٍ قويَّةٍ متمكِّنةٍ لا تَنفَصِم، وحَبلٍ مَتينٍ لا يَنقطِع، وثبتَ على الطريقِ الصحيح، واستقامَ على النهجِ المُبين.

واللهُ يَسمعُ ما تَلهَجُ بهِ الألسِنة، عليمٌ بما تُكِنُّهُ القلوبُ مِنْ نيّاتٍ وعَقائد.

﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ الطَّـٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ النَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [البقرة:257]


إنَّ اللهَ يؤيِّدُ عبادَهُ المؤمنينَ فيقوِّي عزائمَهمْ ويَهديهِمْ إلى الحقّ، ويُخرِجُهمْ منْ ظُلماتِ الكُفرِ والشكِّ إلى نورِ الحقِّ المُبين، وإلى ضيائهِ وإشعاعهِ الصافي، الذي يَملأ القلبَ اطمئناناً ويَزيدُهُ ثَباتاً.

أمّا الكافرونَ الذينَ رَكنوا إلى الطاغوتِ ورَضُوا بالضَّلال، فإنَّ الشيطانَ يُزيِّنُ لهمْ ما همْ فيهِ منَ الغَيِّ والضَّلالِ حتَّى يَثْبُتوا عليه، بلْ يَزيدُهمْ غِوايةً واعوِجاجاً، وظَلاماً وهَوًى، وشُروداً وتِيهاً، وشَكًّا وقلَقاً.

وهؤلاءِ مَصيرُهمُ النار، ماكثونَ فيها أبدًا، فهوَ اللائقُ بأصحابِ الظُّلمات، الذين آثَروها على النورِ والحقِّ المُبين، ولا يَستوي الحقُّ والباطِل، كما لا يَستوي أهلُهما، ولا يَستوي كذلكَ مصيرُهما(16).


(16) حكمَ عليهم بالخلودِ في النارِ لكفرهم. (ابن عطية).

﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ اللَّهُ الۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأۡتِي بِالشَّمۡسِ مِنَ الۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ الۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَۗ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [البقرة:258]


انظرْ إلى هذا المَلِكِ المتكبِّرِ المتعنِّت، الذي أعطاهُ اللهُ منَ المالِ ما أعْطاه، ثمَّ جاءَ يُجادلُ النبيَّ إبراهيمَ عليهِ السلامُ ويُخاصِمهُ في ربِّه، وذلكَ لمّا رأى نفسَهُ مختصّاً بمالٍ ومُلكٍ ليسَ عندَ غَيرِه، ويأمرُ وينهَى كما يَشاءُ فيُسمَعُ ويُطاع، فقالَ لهُ إبراهيمُ عليهِ السلام، لِيُريَهُ حَقيقَةَ نفسهِ وضَعْفَ قوَّتهِ وإرادتهِ أمامَ ربِّهِ الخالق: إنَّ اللهَ يُحْيي ويُمِيتُ، وإنَّ ما يُرَى مِنْ ذلكَ في عالمِ الإنسانِ والحيوانِ دليلٌ على وجودِه، وعلى تَصريفهِ للكونِ وتَدبيرِهِ لما يَجري فيهِ وحدَه، فهي لا تَحْدُثُ بنفسِها، بلْ لا بدَّ لها مِنْ مُوجدٍ ومِنْ مدبِّر، وهوَ الذي يَسْلُبُ حياةَ مَنْ شاءَ متَى شاء، بأسبابٍ ظاهرةٍ أو باطِنة، مَعروفةٍ أو غيرِ مَعروفة.

فالإحياءُ والإماتةُ مِنْ صفاتِ هذا الإلهِ الذي لا يَكونُ أحدٌ مثلَه، ولا يَستطيعُ أحدٌ أنْ يَقومَ بما يقومُ هوَ به، وهوَ الذي أعبدهُ وأدعوكَ وأدعو الناسَ إلى الاستسلامِ لهُ وعبادتِه، فهوَ الخالق، والمُحيي والمُميت، الذي بيدهِ كلُّ شَيءٍ في هذا الكون، فلا إلهَ إلا هو، ولا عبادةَ إلاّ له.

واغترَّ هذا المَلِكُ المتكبِّرُ بما يَملِكُ مِنْ قُوىً بشَريَّةٍ وسَيطرة، فتمادَى في غَيِّهِ وقالَ لإبراهيم: أنا أيضاً أُحيي وأميت!

ذكرَ غيرُ واحدٍ أنَّهُ أوتيَ برَجُلَينِ استحقّا القَتل، فأمرَ بقَتلِ أحدِهما وعفَا عنِ الآخَر، فذكرَ أنَّهُ أماتَ الأوَّلَ وأحيَا الآخَر، فكانَ هذا مفهومَ الإحياءِ والإماتةِ عندَه!

ولم يُرِدْ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ أنْ يُطيلَ معَهُ الجِدالَ وهوَ بهذهِ العقليَّةِ المتكبِّرةِ المُنكَرة، فأرادَ أنْ يُفهِمَهُ أنَّ الإلهَ المقصودَ بعبادتهِ هوَ المتصرِّفُ في الكونِ كلِّه، وأنَّ هذهِ القوانينَ الكونيَّةَ الموجودةَ هي منْ صُنعهِ وتَدبيرِه، وطلبَ منهُ تغييرَ قانونٍ واحدٍ منْ هذهِ القوانينِ الكثيرةِ المبثوثةِ في الكون، بما أنَّهُ يدَّعي أنَّهُ هوَ الآخَرُ فيه صفةُ الربوبية، وقالَ له: إنَّ اللهَ جعلَ الشمسَ تُشرقُ منَ الشرق، فَأْمُرْها أنتَ لتُشْرِقَ منَ الغرب!

فتحيَّرَ ذلكَ المَلِكُ وسكت، وعَجَزَ عنِ الكلام، وصُدِمَ بهذهِ الحُجَّةِ الدامغةِ التي لم تَدَعْ لهُ منطقاً يُدافعُ بهِ عنْ نفسِه. لكنَّهُ لم يُسَلِّمْ بالأمرِ ولم يؤمن، لأنَّهُ لم يرغبْ في الحقّ، ولم يَتلمَّسْ طريقَ الهِداية. واللهُ لا يَهدي هؤلاءِ الذينَ يَظلِمونَ أنفسَهم، فيَختارونَ طريقَ الضلالِ والعِناد، على الرَّغمِ منْ وضوحِ الحُجَّةِ ضدَّهم.

﴿أَوۡ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ اللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَانظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَانظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَانظُرۡ إِلَى الۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [البقرة:259]


وانظرْ إلى هذا الذي مرَّ على قريةٍ خَرِبةٍ مُحَطَّمةٍ على قواعدِها، قدْ سقطتْ سقوفُها وجُدرانُها، ليسَ فيها أحد، ولا يَنطِقُ فيها شَيء. فوقفَ الرجلُ أمامَ هذا المشهدِ المحطَّمِ الميِّتِ البالي، وقال: كيفَ يُحيي اللهُ هذهِ القَريةَ بعدَ أنْ ماتَ فيها كلُّ شيء، فلا حِسَّ ولا حرَكة؟!

فأماتَهُ اللهُ مائةَ عام، ثمَّ أحياهُ بقُدرتِه، وقيلَ له: كمْ بَقيت؟

قال: بقيتُ يوماً أو أقلَّ! قيلَ له: بلْ بقيتَ مائةَ عامٍ مَيتاً! فانظرْ إلى قُدرتِنا على إماتَتِكَ وعلى إحيائك، وانظرْ إلى طعامِكَ وشرابِكَ كيفَ حَفِظْناه، فلمْ يَتعفَّنْ ولم يَتغيَّرْ طَعمُهُ كلَّ هذهِ المدَّةِ الطويلة، بلْ هوَ كما تركتَهُ قبلَ أنْ نُميتَك.

وهذا حمارُكَ الذي كنتَ راكباً عليه، انظرْ كيفَ نَخِرَتْ عظامهُ وتمزَّقتْ أوصالُه!

ولنَجعَلَكَ عِبرةً ودلالةً على البَعثِ بعدَ الموت.

وانظرْ إلى هذهِ العِظامِ المتفرِّقةِ لحمارِكَ كيفَ نرفعُ بعضَها إلى بعضٍ ونجمعُها في أماكنِها ونُلَبِّسُها لَحماً ونُحييها!

فلمّا تبيَّنَ لهُ كلُّ ذلك، وتَوضَّحَ لهُ الأمرُ عِياناً، أيقنَ بذلكَ تمامَ الإيقان، وقال: أعلمُ أنَّ اللهَ قادرٌ على كلِّ شيء، لا يَصعُبُ عليهِ أمر.

﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ الۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ الطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ اجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ادۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَاعۡلَمۡ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾ [البقرة:260]


وقال نبيُّ اللهِ وخليلهُ إبراهيمُ عليهِ السلامُ داعياً ربَّه: بَصِّرْني كيفَ تُحيي الموتَى يا ربّ، لأرَى ذلكَ عِياناً.

فقالَ لهُ ربُّه: أوَلم تؤمنْ بأنِّي قادرٌ على الإحياءِ يا إبراهيم؟

وهوَ يعلمُ سبحانَهُ أنَّهُ أثبتُ الناسِ إيماناً وأقواهُمْ يَقيناً.

فقالَ عبدهُ ونبيُّهُ إبراهيمُ عليهِ السلام: بلَى يا ربّ، قدْ عَلِمتُ وقدْ آمَنت، ولكنِّي أريدُ أنْ أرَى ذلكَ عِياناً، ليَنضمَّ ما أراهُ إلى ما أعتَقِدُهُ يقيناً، فأزدادُ بالمشاهدةِ بَصيرة، ويطمئنُّ بذلكَ قلبي، فإنَّهُ يَسْكنُ إذا عاينَ شيئاً وشاهدَه، وليسَ الخبرُ كالمعَايَنة.

قالَ صاحبُ "روح المعاني": ولا أرَى رؤيةَ الكيفيَّةِ زادَتْ منْ إيمانهِ المطلوبِ منهُ عليهِ السلام، وإنَّما أفادتْ أمراً لا يَجِبُ الإيمانُ به".

فاستجابَ اللهُ دُعاءَه، وأراهُ كيفيَّةَ الإحياءِ عِياناً، وقالَ له: خُذْ أربعةَ طُيور، فاذبَحْها وقَطِّعْها ومَزِّقْها، وفَرِّقْ أجزاءَها على جِبال، ثمَّ نادِها، فَسوفَ تأتيكَ مُسرِعَة. فاجتَمعتْ أجزاؤها مرَّةً أخرَى، وعادتْ إلى الحياةِ بإذنِ الله.

واعلمْ أنَّ اللهَ عزيزٌ لا يُعْجِزُهُ ولا يَمتنعُ منهُ شيء، حكيمٌ فيما يَقولُ ويَفعل، ويُشَرِّعُ ويُقَدِّر.

﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنۢبُلَةٖ مِّاْئَةُ حَبَّةٖۗ وَاللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۚ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:261]


إنَّ مَثَلَ الذينَ يُنفِقونَ أموالهمْ في سَبيلِ اللهِ وابتغاءَ مرضاتِه، منَ الإنفاقِ في الجهاد، أو غيرهِ منْ وجوهِ الخيرِ والطَّاعة، هوَ كَمثَلِ حبَّةٍ زُرِعَتْ فأعطَتْ سَبعَ سَنابل، في كلِّ سُنبُلةٍ منها مِئةُ حبَّة. واللهُ يُضاعفُ أجرَ مَنْ أنفقَ في سَبيلهِ بمثلِ هذا وزِيادة، لمنْ شاء، بحسَبِ حالِ المُنفقِ وإخلاصهِ وتَعبِه.

واللهُ ذو فَضلٍ واسعٍ كثير، يُعطي عنْ سَعَة، ولا يَضِيقُ عليهِ ممّا يَتفضَّلُ بهِ على الناس، عليمٌ بمنْ يستحقُّ فضلَهُ ممَّنْ لا يستحقّ، وبنيَّةِ المُنفقِ ومقدارِ إنفاقِه.

﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّٗا وَلَآ أَذٗى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ [البقرة:262]


الذينَ يُنفقونَ أموالَهمْ في سَبيلِ اللهِ ومَرضاتِه، منْ خَيراتٍ وصَدقات، ولا يُتْبِعونَ عطاءَهمْ هذا بمَنٍّ ولا أذًى، فلا يَمتعِضُونَ منَ السَّائلينَ ولا يتكبَّرونَ عليهم، ولا يُعَيِّرونَهمْ ولا يَتطاولونَ عليهمْ بكلامٍ لا يحبُّونَ سماعَهُ أو نَشره، بلْ يُعطونَهمْ بخُلقٍ طيِّبٍ ونفسٍ رَاضية، فهؤلاءِ لهمْ أجرُهمُ الكبيرُ الموعودُ بهِ عندَ ربِّهم، ولا يَلحقُهمْ مكروهٌ في الدارَيْن، ولا همْ يأسَفونَ على ما فاتَهمْ منَ الحياةِ الدُّنيا وزهرتِها، فقدْ صَاروا إلى ما هوَ أفضلُ منها.

﴿۞قَوۡلٞ مَّعۡرُوفٞ وَمَغۡفِرَةٌ خَيۡرٞ مِّن صَدَقَةٖ يَتۡبَعُهَآ أَذٗىۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٞ﴾ [البقرة:263]


وإنَّ كَلاماً حسناً لطِيفاً تَقبَلهُ القُلوب، ومُسامحةً للسَّائلينَ على إلحاحِهم، أفضلُ مِنْ عَطاءٍ يليهِ تَطاولٌ عليهمْ وكلامٌ غيرُ مَرغوب.

واللهُ غنيٌّ عمّا عندَكمْ مِنَ الصَّدَقة، حَليم، فلا يُعَجِّلُ بالعُقوبةِ على مَنْ يَمُنُّ بصَدقتِه.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالۡمَنِّ وَالۡأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ النَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَيۡهِ تُرَابٞ فَأَصَابَهُۥ وَابِلٞ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدٗاۖ لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّمَّا كَسَبُواْۗ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [البقرة:264]


أيُّها المؤمِنون، لا تَجعَلوا صدقاتِكمْ تَذهبُ هَباء، وذلكَ عندما تُتْبِعونَها بالمَنِّ والأذَى، فتَتكبَّرونَ عَليهمْ وتعيِّرونَهمْ بما لا يُحبُّون، فإنَّ هذا الغَلطَ منكمْ يُذهِبُ ثوابَ ما تَصدَّقتم به.

وهذا مَثَلُ المُنفقِ المُرائي بصدَقتِه، الذي يُعطي ليَراهُ الناس، وهو لا يرجو منْ ورائهِ ثواباً مِنْ عندِ الله، ولا يؤمنُ باللهِ ولا بيَومِ الجزاء (فهوَ مُنافق)، فهذا لا يؤجَرُ على فعلهِ مهما تَصدَّق.

ومَثَلهُ في هذا كمَثَلِ صَخرٍ أملسَ عليهِ ترابٌ خَفيف، فنـزلَ عليهِ مَطرٌ شَديد، فأذهبَ ما عليهِ مِنْ تراب، وتركَ الحجرَ أملسَ يابساً لم يُنبِتْ زرعاً، فما أفادَهُ المطَر.

وكذا أعمالُ المُرائينَ لنْ تُفيدَهم، ولا تُعْقِبُ مَثوبَة، بلْ تَذهبُ هباءً وتَضمحلُّ عندَ الله، وإنْ ظهرَ لهمْ أعمالٌ فيما يَرَى الناس.

واللهُ لا يَهدِي الكافِرينَ إلى الخيرِ والرُّشد، وهمْ لم يَطلبوا الهدايةَ والرشادَ منَ الله.

وفيهِ تَعريضٌ بأنَّ كلاًّ منَ الرياءِ، والمَنِّ والأذَى، مِنْ خصائصِ الكفّار، فلا بدَّ للمؤمنينَ مِنْ أنْ يَتجنَّبوها.

﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ابۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ اللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة:265]


أمَّا الذينَ يُعطُونَ أموالَهم في سَبيلِ الله، وطلبًا لرِضاه، ورجاءَ ثَوابِه، وهمْ مُتيقِّنونَ أنَّ اللهَ لا يُضِيعُ عملَهم هذا، بلْ سيُثيبُهمْ عليهِ ما داموا أخلَصوا نيّاتِهم وآمنوا بيومِ الجزاء، فإنَّ مثَلَهمْ كمَثَلِ حَديقةٍ على رابيةٍ هَطلَ عليها مَطَرٌ شَديد، فأثمرتْ ضِعفَي أمثالِها منَ الحدائق. فإذا لم يَنـزلْ عليها مطرٌ كثيرٌ فرَذاذٌ يَكفي لسقي تُربتِها الخِصْبة.

وهو كعَملِ المؤمنِ الذي لا يَنقطعُ كذلك، بلْ يتقبَّلهُ اللهُ ويُضاعفُهُ له. ولا يَخفى على اللهِ شيءٌ منْ أعمالِ عِبادِه، وسيُجازيهمْ عليها.

وفيهِ ترغيبٌ في الإخلاص، مع تحذيرٍ منَ الرياءِ ونحوِه.

﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمۡ أَن تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَابٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ لَهُۥ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَٰتِ وَأَصَابَهُ الۡكِبَرُ وَلَهُۥ ذُرِّيَّةٞ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعۡصَارٞ فِيهِ نَارٞ فَاحۡتَرَقَتۡۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة:266]


هلْ يُحِبُّ أحدُكمْ أنْ يكونَ لهُ بُستانٌ ظَليلٌ وارِف، فيه نخيلٌ وأعنابٌ تَجري منْ بينِها الأنهارُ العَذبةُ والجَداولُ الصَّافيةُ الرقرَاقة، ولهُ فيهِ ما يريدُ ويَتمنَّى منَ الثِّمارِ الطيِّبةِ اللَّذيذة، تَدرُّ عليهِ خيراً وبَركة، تَكفيهِ وتَكفي مَنْ يَعولُه، ولمّا كَبِرَ وشاخَ وعَجَزَ عنِ الغرْسِ والعَمل، ولهُ أولادٌ وأحفادٌ صِغارٌ لا قُدرةَ لهمْ على التكسُّب، جاءَهُ ريحٌ عاصِفٌ فيهِ نارٌ شَديدةٌ، فأحرقتِ البُستانَ كلَّه، ولم تُبقِ فيهِ شيئاً منَ الأشجارِ والثمار؟!

إنَّهُ مَثَلٌ ضربَهُ اللهُ "لرجلٍ غَنيٍّ يعملُ بطاعةِ الله، ثم بعثَ اللهُ لهُ الشيطانَ فعَمِلَ بالمعاصِي حتَّى أغرقَ أعماله"، كما فَسَّرَهُ ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما، ورواهُ لهُ البخاريُّ في صَحيحِه.

فيكونُ المرءُ حَسَنَ العملِ في الأوَّل، كثيرَ الخيرِ والبِرِّ والإحسان، وعندما يَكبَرُ ويَقتربُ منَ الموتِ والحِساب، تَنعكسُ حالُه، فيَنقبضُ عنِ الخيرِ والعملِ الصَّالح، فلا يُرتجَى منهُ إحسان، فيَخونهُ عَمَلُهُ وهوَ أحوجُ ما يكونُ إليه، ويُحْرَمُ الأجرَ وهوَ أفقرُ ما يكونُ إليه.

فمَنْ يُريدُ منكمْ أنْ تَكونَ حالهُ مثلَ حالِ هذا، ومَنْ ذا الذي يُحِبُّ أنْ يكونَ مَصيرهُ مثلَ مصيرِه؟

إنَّها أمثالٌ وآياتٌ واضِحاتٌ يَضرِبُها اللهُ لكم، لتَتفكَّروا وتَعتبروا وتَعملوا بموجبِها.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ الۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ الۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَاعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [البقرة:267]


أيُّها المؤمِنون، إذا تَصدَّقتمْ بشيءٍ منْ أموالِكمْ فليَكنْ ذلكَ مِنْ طيِّبِ ما كَسبتموهُ وأجودِه، مِنْ تِجارةٍ أو غيرِها، ومِنْ طيِّبِ ما أخرجَهُ اللهُ لكمْ منَ الأرض، مِنْ تمرٍ أو غيرِه، ولا تَلجَؤوا إلى الرَّديءِ منهُ فتُعطوهُ للناس، فإنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَلُ إلا طيِّباً، وإنَّكمْ لو أُعطِيتُمْ مثلَ هذا المالِ الدنيءِ لمَا أخَذتُموه، إلاّ إذا تَغاضيتُمْ عنهُ وتَسامحتُمْ فيه، فلا تَجعلوا للهِ ما تَكرهون.

واعلَموا أنَّ اللهَ غنيٌّ عنْ إنفاقِكم، وإنَّما يأمرُكمْ بذلكَ لمنفَعتِكم، وهوَ مَستَحِقٌّ للحَمدِ على نِعَمهِ العَظيمةِ عليكم.

وكانَ البعضُ يَقْصِدُ الرَّديءَ منْ مالهِ فيُعطيهِ زكاةً أو صَدقة، فنـزلتِ الآيةُ للنهي عنْ ذلك.

﴿الشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ الۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِالۡفَحۡشَآءِۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغۡفِرَةٗ مِّنۡهُ وَفَضۡلٗاۗ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة:268]


إنَّما يُسَوِّلُ لكمُ الشيطانُ لتُخرِجوا السيِّئَ منْ أموالِكمْ تخويفاً منَ الفَقر، حتَّى تُمسِكوا ما بأيديكمْ ولا تُنفقوا شَيئاً في مَرضاةِ الله، وهوَ معَ ذلكَ يأمرُكمْ بالمعاصي وارتكابِ المُحَرَّمات، ويُغرِيكمْ على البُخلِ ومنعِ الصَّدقات. واللهُ يَعِدُكمْ في مقابلِ الإنفاقِ غُفراناً وتَكفيراً عنْ سيِّئاتِكم، وخَيراً وبَركة، وهوَ سبحانَهُ ذو قُدرةٍ واسعةٍ وفَضلٍ عَميم، يَعلمُ إنفاقَكمْ ولا يُضِيعُ أجرَكم.

﴿يُؤۡتِي الۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ الۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ الۡأَلۡبَٰبِ﴾ [البقرة:269]


واللهُ يُؤتي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادهِ ممَّن أرادَ بهمْ خيراً: العقلَ السويَّ والعلمَ النافع، والفِقهَ في الدِّين، والإصابةَ في القولِ والفِعل، والقصدَ والاعتدال، والبصيرةَ المُستنيرة، فيُدرِكُ الأشياءَ على حقيقتِها، ويَفهمُ الأمورَ على واقعِها كما يَنبغي، فيَهتدي ويُصيب.

والذي يؤتَى هذا كلَّهُ في خَيرٍ عَظيم، وهِبَةٍ جَليلة، فإنَّهُ أُخرِجَ مِنْ ظُلُماتِ الجَهلِ فكانَ في نورِ الهُدى، ومنَ الانحرافِ إلى الاستقامةِ والرزانةِ والسَّداد.

ولا يَعرِفُ قَدْرَ هذا العَطاءِ الجليلِ والنِّعمةِ الكبيرةِ إلا أولو الأحلامِ والنُّهى، الذينَ يَعرِفونَ النافعَ فيَعملونَ به، ويَعرِفونَ الضارَّ فيَتجنَّبونَه.

﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ فَإِنَّ اللَّهَ يَعۡلَمُهُۥۗ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ﴾ [البقرة:270]


واعلمُوا أنَّكمْ ما أَعطيتُمْ مِنْ أموال، في حَقٍّ أو باطِل، مِنْ قليلٍ أو كثير، في سرٍّ أو عَلن، وما نذرتُمْ مِنْ نذور، في طاعةٍ أو مَعصِية، فإنَّ اللهَ عالِمٌ بها، لا يَخفَى عليهِ شَيءٌ مِنْ نيّاتِكم وحركاتِكم، ولسوفَ يُجازِي المُحسِنَ منكمْ خيرَ الجزاء، ويُعاقبُ المُسيءَ سيِّءَ الجزاء. وإنَّ مَنْ ظلمَ نفسَهُ، فمنعَ الصَّدقات، ولم يَفِ بالنذور، أو أنفقَ الخبيثَ، أو راءَى ومَنَّ وآذَى، فلنْ تجدَ لهمْ أعواناً يَنصُرونَهمْ مِنْ بأسِ اللهِ وعقابِه، أو يُنقِذونَهمْ مِنْ عذابِ اللهِ ونِقمتِه.

﴿إِن تُبۡدُواْ الصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا الۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ [البقرة:271]


وإذا أظهرتمُ الصَّدقاتِ أمامَ الناسِ فهوَ أمرٌ مَرغوبٌ ولا حرجَ فيه، وخاصَّةً إذا ترتَّبَ على إظهارِها مصلحةٌ راجِحة، كأنْ يَكونَ أداءً للزكاة، فإنَّ إظهارَها فيهِ معنَى الطَّاعة، وانتشارُ هذا الأمرِ وظهورُهُ خَير، وإذا أخفَيتمْ صدقاتِكمْ فهوَ أفضل، لأنَّهُ أبعدُ عنِ الرياءِ وشوائبِ النَّفس، وأقربُ إلى الإخلاصِ وطلبِ مرضاةِ الله. ويَمحو اللهُ بها سيِّئاتِكم.

ولا يَخفَى على اللهِ شيءٌ ممّا تُقَدِّمونَهُ لأنفسِكم، وما تُسِرُّونَهُ وما تُعلنونَه، في نيّاتِكمْ وأفعالِكم.

﴿۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابۡتِغَآءَ وَجۡهِ اللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ﴾ [البقرة:272]


وكانَ الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهمْ يَكرَهونَ أنْ يَجعلوا شيئاً منَ النفَقةِ لأنسبائهمْ منَ المشرِكين؛ خشيةَ الإثم، وطَمعاً في إسلامِهم. فبيَّنتِ الآيةُ أنَّ الأمرَ أوسَع، فرُخِّصَ لهم. فالمشرِكونَ قدْ لا يَهتدونَ بهذا الأسلوبِ أو ذاك، لأنَّ الأمرَ يَختصُّ بالقُلوب، وهيَ بيدِ الله، يَهدي مَنْ يشاءُ منها، وهوَ أعلمُ بمنْ يَستحِقُّ الهُدَى والإيمانَ منها. فليُبذَلْ لهمُ الخَيرُ والعَون، ولْينالُوا منكمُ المسَاعَدة.

وما تُنفِقوا مِنْ مالٍ فإنَّ فائدتَهُ تعودُ عَليكم، وكأنَّكمْ بذلكَ أنفقتُمْ على أنفسِكم، ولا يَضرُّكمْ كفرُ مَنْ أنفقتُمْ عليهم، فلا تَمنَعوا الناسَ خيرَكم، فإنَّ ثوابَهُ مَحفوظٌ لكمْ عندَ الله، مادامَ إنفاقُكمْ ابتغاءَ مرضاتِه، وليسَ رياءً ولا هوَ عنْ هَوى.

ولنْ تُظلَموا، فاللهُ يُعطي جزاءَ الحسنةِ أضعافاً مُضاعَفة.

قالَ البغَويُّ في تفسيرِه: وهذا في صدقةِ التطوُّع، أباحَ اللهُ تعالى أنْ تُوضَعَ في أهلِ الإسلامِ وأهلِ الذمَّة، فأمّا الصَّدقةُ المفروضة، فلا يجوزُ وضعُها إلا في المسلِمين.

﴿لِلۡفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي الۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ الۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ النَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:273]


والمهاجِرونَ الذينَ تَركوا أموالَهمْ وأهليهِم، وسَكنوا المدينةَ المنوَّرةَ مُنقطِعينَ إلى اللهِ ورسولِه، يَبتغونَ نُصرةَ الإسلامِ والجهادَ في سبيلِ الله، ولا يَجدونَ ما يُغنيهم، ولا يَستطيعونَ سَفراً للتجارةِ والتكسُّب، فهمْ على أُهبَةٍ إذا نُوديَ للجِهاد.

ومعَ ما همْ فيهِ مِنْ فَقرٍ وحاجة، يَظنُّ مَنْ لا يَعرِفُ حقيقةَ حالِهمْ أنَّهمْ أغنياءُ مَكفيُّونَ في المعَاش، مِنْ تَعفُّفِهمْ في لباسِهمْ وحالِهمْ ومَقالِهم، فيَتجمَّلونَ ظاهراً حتَّى لا يُعرَفوا ولا تَظهرَ حاجتُهم، لكنَّ اللبيبَ ذا البصيرةِ يُدركُ ما وراءَ هذهِ الحال، ويَعرِفُ أنَّ هذا العَفافَ يُخفي فَقراً واستِكانَة.

وإذا بدا لبَعضِهمْ أنْ يَطلبوا شيئاً فلا يُلِحّونَ في المسألة، ولا يُكلِّفونَ الناسَ ما لا يَحتاجونَ إليه. إنَّهمْ فقراءُ كِرامٌ بَرَرة، ذَوو حَياءٍ وتَجُلُّدٍ وصَبر، ودِيْنٍ قَويمٍ وخُلق، فلا تنسَوا هؤلاءِ أيُّها المؤمِنون، وإذا أعطَيتُموهمْ شيئاً فليكنْ ذلكَ في سرٍّ وتَلطُّف، لا يَخدِشُ إباءَهم ولا يَجرَحُ كرامتَهم.

وإنَّ ما تُنفقونَهُ مِنْ مالٍ عَليهمْ لا يَخفَى على اللهِ منهُ شَيء، ولا يَضيعُ عندَهُ الخَير، ولسوفَ يَجزي عليهِ أوفرَ الجزاءِ وأوفاه.

﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُم بِالَّيۡلِ وَالنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ [البقرة:274]


الذينَ يَفعلونَ الخيراتِ ويَتصدَّقونَ مِنْ أموالِهمْ في سَبيلِ اللهِ في كلِّ أوقاتِهمْ وأحوالِهم، لَيلاً ونَهاراً، سِرّاً وعَلانية، حتَّى مَنْ أنفقَ على والدَيهِ وعِيالهِ وخَدَمهِ الفقراءِ وأقربائهِ... فلهمْ عندَ اللهِ الثوابُ العظيم، ولا خَوفٌ عليهمْ يومَ الحسابِ عندما يَخافُ البُخلاءُ الأشِحَّاء، ولا يَحزنونَ إذا تأسَّف المُفرِطونَ المُسرِفون.

﴿الَّذِينَ يَأۡكُلُونَ الرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيۡطَٰنُ مِنَ الۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا الۡبَيۡعُ مِثۡلُ الرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَانتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى اللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ النَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [البقرة:275]


إنَّ الذينَ يأكلونَ الرِّبا ويَتعامَلونَ به، يَكونُ مَصيرُهمْ عندما يَقومونَ مِنْ قُبورِهمْ للحَشرِ والحساب، كحالِ المصروعِ عندما يَقوم، فيؤذيهِ الشيطانُ ويَصرَعُه، فتَكونُ حركتهُ هِستيريةً عشوائيةً وكأنَّهُ مَجنونٌ يُخنَق، ممّا بهِ مِنْ جُنونٍ وفَزَع!

ويَرَى صاحبُ "الظلال" أنَّ هذهِ الصورةُ واقِعةٌ بذاتِها في حياةِ البشريةِ الضَّالةِ في هذا العصر، التي صارتْ تتخبَّطُ كالممَسوسِ في عَقابيلِ النظامِ الرِّبوي، وأنَّ هذا العالمَ هو عالَمُ القلقِ والاضطرابِ والخوفِ والأمراضِ العصبيَّةِ والنفسيَّة، باعترافِ عُقلاءِ أهلهِ ومُفكِّرِيهِ وعُلمائهِ ودَارسيه، وعالَمُ الحروبِ والتهديدِ الدائمِ بالحروبِ المبيدةِ، وحربِ الأعصابِ والاضطراباتِ التي لا تَنقطعُ هُنا وهُناك، وأنَّها حياةُ شقاءٍ وبؤسٍ ونَكد! ومِنْ هذا البلاءِ الذي تعيشُ فيهِ البشريَّةُ بلاءُ الرِّبا، بلاءُ الاقتصادِ الذي يَنمو نُمُوًّا مائلاً جانِحاً إلى حُفنةٍ منَ المموِّلين المُرابِين، الذين لا يَهدِفونَ إلى سدِّ مصالحِ البشريَّةِ وحاجاتِهم، بلْ إلى ما يُحَقِّقُ لهمُ الأرباح، ولو أفسَدوا حياةَ الملايين، وزرعوا الشكَّ والقلقَ والخوفَ في حياةِ البشريَّةِ جميعاً...اهـ.

وإنَّ سببَ ما يَنـزِلُ بهؤلاءِ المُرابينَ عندما يُبعثونَ مِنْ قبورِهم، هوَ استِحلالُهمُ الرِّبا وقَولِهمْ إنَّ البيعَ مثلُ الربا، وقالوا: لماذا أُحِلَّ هذا وحُرِّمَ ذاك؟ فهو اعتراضٌ على أحكامِ اللهِ وشرعِه. وشُبهتُهمْ الواهيةُ في هذا أنَّ كِلَيهما يَجُرّانِ ربحاً! معَ أنَّ العملياتِ الرِّبويَّةَ مُحَدَّدٌ ربحُها وفائدتُها في كلِّ حالة، وتَعودُ إلى مَجموعَةٍ منَ المموِّلين المُرابِين، والبيعُ والتجارةُ يُخضَعُ فيه للربحِ والخَسارة، في مهاراتٍ شخصية، وظروفٍ جارية، وحركةٍ وعَمل، وتوزيعٍ متنوِّعٍ في الأموالِ والأرباح. فالرِّبا يُفْسِدُ الحياةَ البشريَّة، والبيعُ والتجارةُ تنشِّطُ الحياةَ الاقتصاديةِ وسوقَ العمل. ولهذا وغيرهِ منَ الاعتباراتِ التي يَعرِفُها الاقتصاديونَ والتجّار، أحلَّ اللهُ البيع، وحرَّمَ الرِّبا تَحريماً قاطِعاً.

فمَنْ بلَغَهُ نهيٌ وزَجرٌ عنْ تعاطي الرِّبا حالَ وصولِ حُكمِ الشرعِ إليه، فلهُ ما سبقَ منْ مالهِ الذي وصلَهُ عنْ طَريقِ الرِّبا قبلَ التحريم، فلا يُسترَدُّ منه، وأمرُهُ إلى الله، فيَرجو عفوَهُ ورحمتَه، فهوَ من العفوِ عمّا سلفَ إنْ شاءَ الله.

ومَنْ عادَ إلى التعاملِ بالرِّبا بعدَ بلوغهِ نهيَ اللهِ عنه، فقدِ استَحقَّ العقوبةَ والنارَ المُحْرِقةَ الدَّائمة. فلا يَغُرَّنَّ أحداً طولُ وقتٍ عاشَه، فإنَّ الموتَ يأتي فجأة، ولا يُبْعِدَنَّ مِنْ حِسابهِ تهديدَ اللهِ ووعيدَه، فإنَّهُ حَقٌ وصِدق، وهوَ واقعٌ بمنْ خالفَ أمرَه.

وقدْ جاءَ التحريمُ لآكلِ الرِّبا لأنَّهُ الغالِب، والمقصودُ هوَ ومَنْ في حكمه، وفي صحيحِ مسلمٍ قولُ جابرٍ رضيَ اللهُ عنه: "لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلمَ آكِلَ الرِّبا، ومُوْكِلَهُ، وكاتِبَهُ، وشاهِدَيْه، وقال: همْ سَواء".

﴿يَمۡحَقُ اللَّهُ الرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي الصَّدَقَٰتِۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة:276]


إنَّ اللهَ يُذهِبُ البَركةَ منَ الأموالِ الرِّبويَّة، فلا يُنتَفَعُ بها، وستَكونُ حسرةً على صاحبِها وعقاباً لهُ في اليومِ الآخِر. وما استوَى خَبيثٌ وطيِّب، ولو كانَ هذا الخبيثُ أبيضَ برّاقاً، فإنَّ اللهَ يَركُمُهُ ويَجعَلُهُ في جهنَّم. وهوَ لا يعودُ على المجتمعِ الرِّبويِّ إلا بالشقاءِ والنَّكد، على الرغمِ ممّا يُرَى في ظاهرهِ منْ غِنىً ومَوارد، فإنَّهُ يَفيضُ بالقلقِ النفسيِّ والخوفِ والاضطِراب، وليسَ فيه أمانٌ واطمئنانٌ وسَعادةٌ حقيقيَّة، حيثُ لا بَركةَ ولا تَكافلَ قائمٌ على الحقِّ والتقوَى.

أمّا المالُ الطيِّبُ والصَّدقات، فإنَّ اللهَ يُنْمِيها ويَزيدُها خيراً وبَركةً ووَفرة، ويَجعلُ في مجتَمعهِ المودَّةَ والاطمئنانَ وراحةَ البال، حيثُ التكافلُ والتعاونُ على الخَير.

واللهُ يَبغُضُ ذلكَ المرابيَ الكَفورَ القَلب، الذي يأثَمُ في قولهِ وفِعله، فلا يَرضَى بما قسمَ اللهُ لهُ منَ الحلال، ولا يَكتفي بما شَرعَ اللهُ لهُ منَ التكسُّبِ المُباح، بلْ يَسعَى إلى أكلِ أموالِ الناسِ بالباطِل، منَ الرِّبا وغَيرِه.

﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ [البقرة:277]


إنَّ الذينَ آمَنوا وأتْبَعُوا إيمانَهمْ بالأعمالِ الصالحة، فأطاعُوا ربَّهم، وشَكروا لهُ نِعَمَهُ عَليهم، ورَضُوا بما قَسَمَ لهمْ منَ الحلال، وأحسَنوا إلى خَلْقه، وداومُوا على صلواتِهم، وأعطَوا زكاةَ أموالِهمْ للفقراءِ والمُحتاجين، لهمْ جميعاً الجزاءُ العَظيمُ عندَ ربِّهم، ولا خوفٌ عليهمْ يومَ الحِساب، في مقابلِ التخبُّطِ والهَلعِ الذي يُصيبُ المُرابي، ولا همْ يَحزَنونَ على ما فاتَهمْ منَ الدُّنيا، فهمْ في مكانٍ أجلّ، ونَعيمٍ أعظم، وسعادةٍ لا تُوصفُ ولا تُقارَنُ بما في الدنيا.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [البقرة:278]


أيُّها المؤمنون، اخشَوا اللهَ ولا تُخالِفوا أمرَه، واترُكوا ما لكمْ على الناسِ منَ الرِّبا، إذا كنتُمْ مؤمنينَ باللهِ وبما شَرَعَ لكمْ منَ الحلالِ والحرام.

﴿فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ﴾ [البقرة:279]


فإذا لم تَنتهوا عنِ التعَاملِ بالرِّبا، فانتَظروا غَضَبَ الربّ، وتيقَّنوا حَرباً منَ اللهِ ورسولِه!

وهوَ تَرهيبٌ مُخيف، ووَعيدٌ شَديد، وغَضبٌ ماحِقٌ منْ جبّارِ السَّماواتِ والأرض، يُهَدِّدُ فيهِ الذينَ لا يَكفُّونَ عنِ التعاملِ بالرِّبا بالعِقابِ والقَتل.

وهوَ عقابٌ دُنيويٌّ وأُخْرَويّ. وقدْ سبقَ بيانُ الأُخْرِويّ، أمّا الدنيويّ، فإنَّ المُرابيَ يُستَتابُ منْ فِعلتهِ الشنعاءِ هذه، فإذا لم يَدَعْها عُوقب. وكذلكَ الجماعاتُ والفِئاتُ كالصيارفةِ وأصحابِ البنوك ومَنْ إليهم. وهيَ مسؤوليةٌ كُبرى يَتحمَّلُها الحاكمُ خاصَّة. وقدْ أمرَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم عندَ فتحِ مكَّةَ بوضعِ كلِّ رِبًا في الجاهلية. قالُ أهلُ المعاني: حربُ اللهِ النَّارُ، وحربُ رسولِ اللهِ السَّيفُ.

فإذا تُبتُمْ وعدتُمْ إلى الحقّ، وانتَهيتُم عنِ التعامُلِ بالربا، فإنَّ أصولَ أموالِكم تُعادُ إليكم، لا يَنْقُصُ منها شَيءٌ ولا يُزادُ عَليها شَيء.

﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖۚ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة:280]


فإذا كان المـَدينُ مُعسِراً لا يَستطيعُ أنْ يَفيَ دَيْنَه، فيُنْظَرُ حتَّى يَيْسَرَ ويَدفعَ إليكمْ رؤوسَ أموالِكم، لا كما يفعلُ المـُرابي الجَشِعُ بوضعِ المزيدِ منَ الرِّبا إذا لم يَدفع!

وإذا تصَدَّقتُمْ بها عليهِ وسامَحتُموهُ فإنَّهُ خَيرٌ لكمْ وأفضَل، هذا إذا عَلمتُمُ الثوابَ الكبيرَ الذي يَنتظرُكمْ منْ فَضلِ التيسيرِ على المُعسِر.

﴿وَاتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ [البقرة:281]


واخشَوا اللهَ حقَّ الخَشية، وانتَظِروا ذلكَ اليومَ الذي تُرجَعونَ فيهِ إليهِ وقدْ تركتمُ الدُّنيا وما فيها مِنْ أموال، وسوفَ يُحاسِبُكمْ على ما كسبتُمْ منْ طرقٍ حَلالٍ أو حَرام، ويُحَذِّرُكمْ منْ عُقوبتِه، كما يُرَغِّبُكمْ في مَثوبتِه، ولنْ يُظْلَمَ أحدٌ في ذلكَ اليومِ والمحاسِبُ هوَ الله.

ويومَئذٍ يَندَمُ المُرابي أيَّما نَدم، وكلٌّ يَرجو لو كانَ تَنازل، وأنفَق، وأحسَن... وهاهمُ الأحياءُ يَقرؤونَ ويَسمَعون، إنْ كانتْ لهمْ عُيونٌ يُبصِرونَ بها، وآذانٌ يَسمعونَ بها.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَاكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِالۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ الَّذِي عَلَيۡهِ الۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيۡهِ الۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِالۡعَدۡلِۚ وَاسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَامۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا الۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَاتَّقُواْ اللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾ [البقرة:282]


أيُّها المؤمنون، إذا تَعاملتُمْ فيما بَينكمْ بمعاملاتٍ مؤجَّلةٍ فاكتُبوها، فإنَّهُ أثبتُ وأحفَظ، كما يأتي.

وليَكنِ الكاتبُ بَينكمْ شَخصاً يَكتبُ بالقِسطِ والحقِّ على ما اتَّفقتُمْ عليه، مِنْ غَيرِ زيادةٍ ولا نُقصان.

ولا يَرفُضِ العارفُ بالكتابةِ أنْ يَكتبَ لهمْ إذا طُلبَ منهُ ذلك، فإنَّ عليهِ أنْ يَكتبَ وفاءً للعلمِ الذي علَّمَهُ الله.

وليَقُلِ المـَدينُ ما عليهِ منَ الدَّيْن ليُكْتَب، ولْيَخْشَ اللهَ في قوله، وليَصْدُقْ ما في ذمَّتهِ ولا يَنقُصْ منهُ شيئاً، وليَذكرْ شرطَهُ وأَجَلَه.

فإنْ كانَ المـَدينُ سَفيهاً لا يُحسِنُ تَدبيرَ أمورِه، أو ضَعيفاً: صَغيراً، أو مَجنوناً، أو لا يَستطيعُ أنْ يُمليَ هوَ ويُبيِّنَ مقدارَ ما عليهِ ومُلابساتِه، لِعَيبٍ خَلْقيٍّ أو جَهلٍ أو أيِّ سببٍ آخَر، فليَتحدَّثْ عنهُ وليُّ أمرهِ أو القيِّمُ عليه، بالحقِّ والعَدل.

وأشهِدوا على عَقدِكمْ هذا اثنينِ منَ الشهداءِ عَدْلَينِ يَحُوزانِ على رِضاكِما. فإذا لم يَكونا رَجُلينِ فليَكنْ رَجلاً وامرَأتين، حتَّى إذا نَسِيتْ إحداهُما ذكَّرتْها الأخرى، فإنَّ واجبَها الأُسريَّ واهتمامَها وانشغالَها بأعمالِها الخاصَّة، وبُعدَها عنْ أمورِ البيعِ والعقودِ يُنسِيها ذلك، فتُذَكِّرُها الأخرَى بملابساتِ الموضوعِ فتَذْكُر.

وإذا دُعيَ الأشهادُ إلى الشهادةِ فليَستَجيبوا.

ولا تَمَلُّوا منْ أنْ تَكتبوا مُعامَلاتِ الديونِ ومدَّةَ إيفائها، سواءٌ كانتْ قليلةً أمْ كثيرة، فالكتابةُ أعدَل، وأثبَتُ للشاهدِ إذا رَأى خطَّهُ أو توقيعَه، فإنَّهُ منَ المحتملِ أنَّهُ لو لم يَكتبْهُ لم يَذكره. وهوَ أبعدُ منْ شُبهةِ الكذبِ والادِّعاء، الذي يُفضِي إلى التنازعِ بينَ المتعاقِدَين.

وإذا كانَ البيعُ حاضراً في مجلسٍ واحد، فلا بأسَ منْ عدمِ الكتابة، لتيسيرِ العمليّاتِ التجاريَّةِ وعدمِ تَعقيدِها، معَ الإشهادِ على ذلك.

والأمرُ هنا للإرشادِ والنَّدْبِ لا الوجوب، عندَ جمهورِ العلماء.

وكذا الأمرُ بكتابةِ الدَّيْنِ -كما جاءَ في أوَّلِ الآية- أمرُ نَدْبٍ واستحبابٍ وليسَ بفَرض، عندَ أكثرِ الفقهاء، لأمورٍ وأدلَّةٍ أخرَى في الموضوع. لكنَّ الكتابةَ أفضلُ وأحسنُ وأوثق، كما مرَّ في الآيةِ الكريمة. وصاحبُ الدَّيْنِ يَحتاطُ لذلك، فإذا لم يَكتبْهُ وحَدَثَ ما لا يُحمَدُ فلا يَلومنَّ إلا نفسَه.

ولا يَضُرَّ الكاتبُ فيَكتبَ عقدَ الدَّينِ بخلافِ ما يُملَى عليه.

ولا يَضُرَّ الشاهدُ فيُدليَ في شهادتهِ بخلافِ ما رَأى أو سَمع، أو يَكتُمَها.

كما أنَّ الكاتبَ والشاهدَ لا يُجبَرانِ على الكتابةِ والشهادةِ إذا اعتَذرا، وإذا فَعلا فلا يَتعرَّضانِ للضَّررِ منْ قِبَلِ العاقدَينِ لأيِّ سببٍ منَ الأسبابِ الخلافيَّةِ بينَهما.

واخشَوا اللهَ في معاملاتِكم، واتَّبعوا أمرَهُ واستَقيموا عليه، فإنَّ اللهَ يعلِّمُكمْ أحكامَهُ المتضمِّنةَ مصالحَكم، واللهُ عالِمٌ بحقائقِ الأشياءِ ومصالِحها وعواقِبها، ولا يَخفَى عليهِ حالُكم.

﴿۞وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ الَّذِي اؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ الشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ﴾ [البقرة:283]


وإذا كنتُمْ مسافِرينَ ولم يِكنْ هناكَ كاتبٌ يَكتبُ لكمْ عَقْدَ دَيْنِكمْ وبَيعِكم، فليَكنْ بدلَهُ رهنٌ يَقْبِضُهُ المرتِهن، وهوَ صاحِبُ الحقّ.

فإذا أَمِنَ بعضُكمْ بَعضاً ووثَقَ به ولم يَرتَهنِ الدائنُ، فليؤدِّ المَدينُ دَيْنَهُ الذي أؤتُمِنَ عليه، وليَخْشَ اللهَ في ذلكَ فلا يَنْقُصْ ولا يَزِدْ.

ولا تَكتُموا الشَّهادةَ عندَ التقاضِي، فإنَّها أمانة، ومَنْ كتَمَها فقدَ فَجَرَ وباءَ بالإثم، وكِتمانُها كتَزويرِها، فلا فرقَ بين إخفائها أو قولِها على غيرِ حَقيقَتِها.

واللهُ عليمٌ بما تُكِنُّهُ القلوب، خبيرٌ بما تُخفيه، ويَجزِي كلاًّ بما يَستَحقّ، إنْ خَيراً، أو شَرًّا.