تفسير الجزء 3 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء الثالث
3
سورة البقرة (253 – 286)
سورة آل عمران (1 – 91)

﴿لَّا يَتَّخِذِ الۡمُؤۡمِنُونَ الۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ الۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى اللَّهِ الۡمَصِيرُ﴾ [آل عمران:28]


لا يَحِلُّ لأحَدٍ منَ المسلِمينَ أنْ يُواليَ كافراً ويُحِبَّهُ منْ دونِ المؤمنين، فمنْ فعلَ ذلكَ فقدْ مالَ قلبهُ إلى الكافرِ وفضَّلَهُ على المؤمِن، وهوَ بهذا العملِ ليسَ منَ اللهِ في شَيء، فهوَ مُنقَطِعُ الصِّلَةِ به، بَعيدٌ عنه، بَريءٌ منه. إلاّ مَنْ خافَ منهمْ فاتَّقَى شرَّهم، في بُلدانٍ وأوقاتٍ معيَّنة، بظاهرِ لسانهِ لا بقلبه، فإذا زالَ الخوف، زالتِ التقيَّة.

وإنَّ اللهَ يُحَذِّركمْ نِقمتَهُ وغَضَبه، فإنَّ العذابَ سيَنالُ مَن والَى أعداءَهُ وعادَى أولياءَه، وإنَّ مصيرَكمْ جميعاً إلى الله، ولسوفَ يُجازي كلاًّ بما عَمل.

﴿قُلۡ إِن تُخۡفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمۡ أَوۡ تُبۡدُوهُ يَعۡلَمۡهُ اللَّهُۗ وَيَعۡلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [آل عمران:29]


وقلْ: إنَّكمْ إنْ أخفَيتُمْ ما في قلوبِكمْ مِنْ مَودَّةِ الكافِرين، أو أبدَيتُمْ موالاتَكمْ لهمْ قَولاً وفِعلاً، فإنَّ اللهَ عالِمٌ بالسَّرائرِ والظواهِر، لا يَخفَى عليهِ شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماء، وهوَ قادِرٌ على عُقوبتِكمْ إنْ لم تَنتهوا عمّا نَهاكمْ عنه، وقادِرٌ على كلِّ شَيء. فاتَّقوا الله، ولا تَرتَكبوا ما مَنعكمْ منه.

﴿يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوٓءٖ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَهُۥٓ أَمَدَۢا بَعِيدٗاۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَاللَّهُ رَءُوفُۢ بِالۡعِبَادِ﴾ [آل عمران:30]


وفي يومِ الحِسابِ يَرَى كلُّ عبدٍ أعمالَهُ أمامَهُ مِنْ خَيرٍ وشَرّ، لم يَنْقُصْ منها شَيء، فيُسَرُّ ويَفرَحُ بالخَير، ويَندَمُ ويَتحسَّرُ على ما اقترفَ مِنْ شَرّ، ويَوَدُّ لو أنَّ بينَهُ وبينَ يومِ القيامةِ يَوماً بعيداً لا يَصِلُ إليه.

وإنَّ اللهَ يُخَوِّفُكمْ حِسابَهُ وعِقابَه، وهوَ كذلكَ رَؤوفٌ بكمْ واسِعُ الرَّحمة. ورَحمتُهُ لا تَمنعُ عِقابَ ما حذَّركمْ منه، وتَحذيرُهُ لا يَعني رفعَ الرحمةِ عنكم، لكنَّ كليهِما مُتَحَقِّقان. فاحذَروا، ولا تيأسوا، واعمَلوا الخيرَ وأبشِروا.

﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ اللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [آل عمران:31]


وقلْ: إذا كنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ حقّاً فاتَّبعوني واسلُكوا طَريقي، وأطيعوا ما آمرُكمْ به، فإذا فَعلتُمْ ذلكَ فقدْ حَصلَ لكمْ جزاءُ طلبِكم، وهوَ محبَّةُ اللهِ لكمْ ورِضاهُ عَنكم، ومَغفِرَتُهُ لذنوبِكم، فإنَّهُ كثيرُ المغفِرَة، واسعُ المرحَمة.

﴿قُلۡ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [آل عمران:32]


قُل: أطيعوا اللهَ فيما يأمرُكمْ به، واتَّبِعوا الرسولَ محمَّداً صلى الله عليه وسلم في جميعِ ما يُبَلِّغكمْ مِنْ أمرٍ ونَهي، لتَفوزوا برِضَى اللهِ وعفوِه، فإذا أبَوا ورَضُوا بالكفرِ والضَّلال، فإنَّ اللهَ يَبْغُضُهمْ ويَسْخَطُ عليهم، ويُعِدُّ لهمْ ما يَستَحِقُّونَهُ مِنْ عِقاب.

﴿۞إِنَّ اللَّهَ اصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى الۡعَٰلَمِينَ﴾ [آل عمران:33]


لقدِ اختارَ الله لحَمْلِ رسالةِ الإسلامِ وتبليغِ دعوتهِ آدَم، ونُوحاً، وآلَ إبراهيم، وآلَ عِمْران، مِنْ بينِ سائرِ الناس.

فآدمُ خَلَقَهُ بيدهِ وأسجدَ لهُ ملائكتَه، ونوحٌ جعلَهُ أوَّلَ رسولٍ إلى أهلِ الأرض، وآلُ إبراهيمَ منهمْ صاحبُ المِلَّةِ الحنيفيَّةِ خليلُ اللهِ إبراهيمُ نفسُه، ومُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذُرِّيته، وهوَ أفضَلُ الخلقِ وأكرمُهمْ على الله، وخاتمُ أنبيائه، وآلُ عِمران، وعِمرانُ والدُ مريمَ أمِّ عيسى، نبيِّ اللهِ الكريم.

﴿ذُرِّيَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضٖۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران:34]


وهؤلاءِ ذُرِّيةٌ مُبارَكةٌ بَعضُها مِنْ بعضٍ في الدِّينِ والتَّناصُر، يَجمَعُهمْ وحدةُ العَقيدة، وتَبليغُ الرسَالة، والدعوةُ إلى الحقّ.

وهوَ يَسمَعُ مِنْ عبادهِ ما يدعونَ بهِ ويُسِرُّونَ ويُظهِرون، عليمٌ بهمْ وبأعمالِهم، فيَختارُ مَنْ يشاءُ منهمْ لحَمْلِ رسالتِه.

﴿إِذۡ قَالَتِ امۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الۡعَلِيمُ﴾ [آل عمران:35]


واذكرْ ما قالَتْهُ أمُّ مريمَ زَوجَةُ عِمرانَ بعدَ أنَ حَمَلَتْ، قالت: اللهمَّ إنِّي نَذَرتُ(20) أنْ أجعلَ حَمْلِي خالِصاً لعبادتِك، مُتَفَرِّغاً لخدمةِ الكنيسةِ في بيتِ المقدس، فتَقبَّلْ منِّي ذلك، فأنتَ الكريمُ المُجيب، تَسمعُ دُعائي وتَضُرُّعي إليك، وتَعلمُ صِدْقَ نيَّتِي في ذلك.

(20) قالَ الإمامُ الطبري في معنى النذر، في الآيةِ (270) من سورةِ البقرة: ما أوجبَهُ المرءُ على نفسه، تبرُّراً في طاعةِ الله وتقرُّباً به إليه، من صدقةٍ أو عملِ خير.

﴿فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ الذَّكَرُ كَالۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيۡطَٰنِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران:36]


فلمّا وَضَعتْ حَمْلَها قالت: اللهمَّ إنِّي وَضعتُها أنثَى، واللهُ عالمٌ بما رُزِقَتْ به، قالت: وليسَ الذكرُ كالأنثَى، في العِبادةِ والقوَّة، والصبرِ على المشاقّ، وخاصَّةً في خدمةِ الكنيسة، التي نَذَرتْ أنْ تُقَدِّمَ حَمْلَها لها. وكانَ الصبيانُ همُ الذينَ يَنهضونَ لمثلِ هذا وليسَ الإناث. قالت: وسمَّيتُها مَرْيم، وقدْ عَوَّذْتُها وذرِّيتَها بكَ منَ شرِّ الشيطانِ المـُبْعَدِ من رحمتِك، وأودعتُها حمايتَكَ ورعايتَك.

﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا الۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ اللَّهِۖ إِنَّ اللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران:37]


فتقبَّلَ اللهُ نَذْرَها جزاءَ إخلاصِها، وربَّى مريمَ تربيةً حسَنةً منذُ نَشأتِها، ويسَّرَ لها أسبابَ القَبول، وجعلَ نبيَّ اللهِ زَكريّا كافِلاً لها وأميناً عَليها، وكانَ المسؤولَ الأوَّلَ في مركزِ العبادةِ ببيتِ المَقدِس، فتعلَّمَتْ منهُ عِلماً جَمًّا وعَملاً صَالحاً، فنشأتْ مُبارَكةً مُهَيَّأةً لأمرٍ جَلَل.

وكانَ زَكريّا كلَّما دَخَلَ عليها في مَكانِ عِبادتِها وجدَ عندَها طَعاماً وفاكِهة، فيَعْجَبُ لذلكَ وهوَ نبيُّ الله، ويقولُ لها: مِنْ أينَ لكِ هذا الرزقُ يا مَريم؟ فتقولُ في تَواضُعٍ وخُشوعٍ وإيمان: هوَ منْ عندِ الله، وهوَ سُبحانَهُ يُعطي مَنْ يَشاءُ بغيرِ حِساب، فهو كريمٌ واسِعُ الفَضل، جميلُ العَطاء.

﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ﴾ [آل عمران:38]


وعندَما رَأى زَكريّا عليهِ السَّلامُ فيها هذا الصلاحَ والولاية، والتعبُّدَ والقُنوت، والإخلاصَ في الخدمةِ، تحرَّكَ في قَلبِهِ حبُّ الذرِّيةِ الصَّالحَة، لتَكونَ امتداداً لهُ ولعملِه، وكانَ شيخاً كبيراً قدْ وهنَ منهُ العَظم، وزوجُهُ كبيرةٌ عاقِرٌ لا تُنجِب، ومعَ ذلكَ لم يَيأس، فاللهُ قادرٌ على كلِّ شَيء. فدعا في استِكانةٍ وخُشوع، وقال بصوتٍ ضَعيف: اللهمَّ إني أسألُكَ أنْ تَرزُقَني ولداً صالحاً تَقَرُّ بهِ عَيني، وأنتَ تَسمَعُ مُناجاتي بينَ يديك، وتَضُرُّعي إليك، ورَغبتِي في الذريَّةِ الطيِّبة.

﴿فَنَادَتۡهُ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي الۡمِحۡرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [آل عمران:39]


فاستجابَ اللهُ دعاءَه، ونادتْهُ الملائكةُ وهوَ يُصَلِّي في مجلسِ مناجاتهِ وصلاتِه: إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بولدٍ مِنْ صُلبِكَ اسمهُ يَحْيَى، يُصَدِّقُ بنبوَّةِ عيسى بنِ مَريم، الذي وُجِدَ بكلمةِ الله: كُنْ. (فكانَ أوَّلَ مُصَدِّقٍ بهِ) ويَكونُ سيِّداً ورَئيساً جَليلاً في العلمِ والعِبادة، قدْ حبسَ نفسَهُ عنِ الشهواتِ فلا يأتي النساء، ونبيّاً كريماً يُوحَى إليه، منَ المشهورينَ بالصَّلاح.

﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ الۡكِبَرُ وَامۡرَأَتِي عَاقِرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ [آل عمران:40]


قالَ زكريّا عليهِ السَّلامُ في تبتُّلٍ ومُناجاةٍ وتَشُوُّق: يا رَبّ، وكيفَ يَصِيرُ لي وَلدٌ وقدْ أدركني كِبَرُ السنِّ وامرأتي عاقرٌ لا تُنجِب؟

قالَ ذلكَ اعتِداداً بنعمةِ الله، وتعظيماً لقدرتهِ وتَعجُّباً منها، لا استِبعاداً.

فقالَ اللهُ له: هذا أمرُ الله، فلا يُعْجِزُهُ شَيءٌ ولا يَتعاظَمُهُ أمر، ويَفعلُ ما يشاءُ منَ الأمورِ الخارقةِ والصنائعِ البَديعة.

﴿قَالَ رَبِّ اجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزٗاۗ وَاذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا وَسَبِّحۡ بِالۡعَشِيِّ وَالۡإِبۡكَٰرِ﴾ [آل عمران:41]


فقالَ زَكريّا: أطلبُ منكَ يا ربِّي أنْ تَجعلَ لي عَلامةً أستَدِلُّ بها على وقوعِ الحَمْلِ لأتلقّاهُ بالحمدِ والشكر.

فقالَ اللهُ له: عَلامةُ ذلكَ أنْ لا تَستَطيعَ النُّطْقَ إلا إشارةً لمدَّةِ ثلاثةِ أيّام، معَ أنَّكَ سَويٌّ صَحيح. واذكرِ اللهَ كثيراً، واشكرْهُ على هذهِ النِّعمَة، ونزِّهْهُ كثيراً، في الصَّباحِ والمساء.

﴿وَإِذۡ قَالَتِ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَاصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [آل عمران:42]


وقالتِ الملائكةُ لمريمَ عليها السَّلام: إنَّ اللهَ اختارَكِ لكثرةِ عبادتِكِ وشَرَفِك، وجعلَكِ طاهرةً عَفيفَةً كَريمة، وفضَّلكِ على نِساءِ العالَم.

﴿يَٰمَرۡيَمُ اقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَاسۡجُدِي وَارۡكَعِي مَعَ الرَّـٰكِعِينَ﴾ [آل عمران:43]


فأكثِري العِبادةَ لربِّكِ يا مَريم، ودَاومِي على طاعتِهِ والخُشوعِ والخُضوعِ له، واسجُدي لهُ ونزِّهيه، واركعِي لهُ معَ الراكعين، تمهيداً لأمرٍ عَظيم.

﴿ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ الۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ﴾ [آل عمران:44]


وهذا الذي نَقُصُّ عليكَ أيُّها النبيُّ مِنْ خَبَرِ زكريّا ويَحيى ومَريم، هوَ مِنْ عِلمِ الغَيبِ الذي نُوحيهِ إليك، فما كنتَ تَعلمُ هذا مِنْ قبل، وما كنتَ لدَى القائمينَ على الكنيسةِ لتَعرِفَ ما الذي جرَى بينهمْ مِنْ كلامٍ وخُصومةٍ واقتراعٍ فيمنْ يَكفُلُ مَريمَ بعدَ أنْ وَفَتْ أمُّها بنَذْرِها ووضَعَتْها هناك، وذلكَ لرَغبتِهم في الأجر، حتَّى قدَّرَ اللهُ أنْ يُكَفِّلَها زكريّا عليهِ السَّلام، كبيرُهمْ وسيِّدُهم.

﴿إِذۡ قَالَتِ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ اسۡمُهُ الۡمَسِيحُ عِيسَى ابۡنُ مَرۡيَمَ وَجِيهٗا فِي الدُّنۡيَا وَالۡأٓخِرَةِ وَمِنَ الۡمُقَرَّبِينَ﴾ [آل عمران:45]


وهذا هوَ الأمرُ الجَلَلُ الذي فاتَحتْ بهِ ملائكةُ اللهِ مريمَ عليها السلام، فقالوا لها: إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بولدٍ تَلِدِينَهُ بأمرٍ منَ اللهِ وكلمةٍ منه، هيَ "كُنْ"، فيَكون. اسمهُ المسيحُ عيسَى بنُ مَريم، نسبةً إلى أمِّهِ الصِّدِّيقة، فلا أبَ له. وسيكونُ ذا وَجاهةٍ وَمكانةٍ عندَ اللهِ في الدُّنيا والآخِرَة، فيَجعلُهُ نبيّاً عَظيماً منْ أولي العَزمِ منَ الرُّسُل، ويُنَـزِّلُ عليهِ كتاباً جليلاً هوَ الإنجيل، وكذا سيَكونُ في الآخِرَةِ ذا مَنـزلةٍ عندَ ربِّه، فيَشفَعُ عندَهُ لمَنْ يَأذنُ لهُ به، ويَقبَلُ منه، وسيَكونُ مُقَرَّباً عندَ اللهِ معَ سائرِ إخوانهِ النبيِّينَ عليهمُ الصلاةُ والسَّلام.

﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا وَمِنَ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [آل عمران:46]


ويَتكلَّمُ معَ الناسِ وهوَ طِفلٌ صَغيرٌ في المَهد، في مُعجزةٍ منَ اللهِ له، ويَدعوهمْ إلى عبادةِ اللهِ وحدَه، كما يفعلُ ذلكَ وهوَ كهلٌ كبير، بما يُوحي إليهِ ربُّه، ويَكونُ منَ الصَّالحينَ المقبُولينَ عندَ الله.

﴿قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ﴾ [آل عمران:47]


قالتِ العَفيفَةُ الطاهرةُ مَريم: يا ربّ، وكيفَ يكونُ لي وَلدٌ ولم يَقْرَبْني رَجُل؟

فقالتْ لها الملائكةُ عنِ اللهِ تعالَى: هكذا أمْرُ الله، لا يُعْجِزُهُ شَيء، فهوَ يَخلقُ ما يَشاءُ كيفَما شَاء، وفي أيِّ وقتٍ شَاء، وإذا أرادَ شَيئاً فإنَّما يُخْلَقُ بقولهِ "كُنْ"، ولا يَتأخَّر.

وتتأكَّدُ مَريمُ مِنْ قُدرَةِ الله، وتَزولُ حَيرتُها، ويَطمَئنُّ قلبُها.

﴿وَيُعَلِّمُهُ الۡكِتَٰبَ وَالۡحِكۡمَةَ وَالتَّوۡرَىٰةَ وَالۡإِنجِيلَ﴾ [آل عمران:48]


ويعلِّمُ اللهُ المسيحَ عيسَى الكتابة، ويُؤتيهِ الحِكمة، فيُدرِكُ الصَّوابَ ويَتَّبِعُه، ويَضعُ الأمورَ في مواضعِها، فيكونُ منَ العقلاءِ الأسوياءِ الألبَّاء، كما يعلِّمُهُ التوراةَ التي أُنزِلَتْ على موسَى عليهِ السلام، والإنجيلَ الذي نـزَّلَهُ عليه، وكانَ يَحفَظُهما، والتوراةُ كانتْ أساسَ الدِّينِ الذي دعا إليه، والإنجيلُ تكملةٌ وإحياءٌ لها، مع مخالفةِ بعضِ الأحكامِ وتعديلٍ فيها، وهيَ قَليلة.

﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ الطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ اللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ الۡأَكۡمَهَ وَالۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ الۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ اللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [آل عمران:49]


ويَجعلُهُ رسولاً إلى بَني إسرائيل، ويقولُ لهمْ مُبَيِّناً ما أيَّدَهُ اللهُ بهِ مِنَ المعجِزاتِ الباهِرات: إنِّي قدْ أتَيتُ لكم بعَلامةٍ ودَليلٍ منْ ربِّكمْ لتَعلَموا أنِّي رَسولهُ إليكم، فأصوِّرُ لكمْ منَ الطينِ شكلَ طَير، ثمَّ أنفُخُ فيهِ فيَطيرُ في السَّماء، كما تَرونَهُ عِياناً، بإذنِ اللهِ وقُدرتِه.

وأَشفِي الأعمَى فيُصبِحُ مُبصِراً.

وأَشفِي المـُبتلَى بالبرَص، وهوَ بياضٌ يُصيبُ الجسدَ لمرَض.

وأُحيي الموتَى بإذنِ الله.

وقدْ أيّدَ اللهُ عيسَى بمعجزاتٍ تُناسِبُ عصرَه، فكانَ في وقتِ انتشارِ الطبِّ وأهلِه، فجاءَ بما يُعجِزُهمْ ويُبهِرُ عُقولَهم، لئلاّ يكونَ لأحدٍ حُجَّةٌ في عدمِ تصديقِه.

قال: وأخبرُكمْ بما تأكلونَهُ في وقتِكم. وما تُخبِّؤونَهُ في بيوتِكم لغَدِكم.

وكلُّ هذا حُجَّةٌ بالِغةٌ ودَليلٌ على إرسالي إليكم، إذا كنتُمْ مُؤمِنين.

وإنَّ الذي قدَّرَ كلَّ هذا على يدِ عَبدٍ له، لا يُعجِزُهُ أنْ يَخلُقَ واحداً مثلي من دونِ أب، فهوَ على ما يَشاءُ قَدير، فآمِنوا بما هوَ حقٌّ ولا تَتجاوَزوه.

﴿وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [آل عمران:50]


وأُرْسِلْتُ إليكمْ لأُصَدِّقَ ما في التوراةِ وأُحييَ ما بها مِنْ أحكام، ولأُحِلَّ لكمْ بعضَ ما حُرِّمَ عليكم، وجئتُكمْ بآياتٍ مُعجِزاتٍ تَشهدُ بصِحَّة إرسالي إليكم، فالتَزِموا طاعةَ اللهِ واجتَنِبوا مَعصيَتَه، وأطيعوني فيما آمرُكمْ بهِ وأنهاكمْ عنه.

﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمۡ فَاعۡبُدُوهُۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ﴾ [آل عمران:51]


واللهُ ربِّي وربُّكم، فكِلانا نَخضَعُ لهُ بالعُبوديَّة والطَّاعة، فاثبُتوا على عبادتهِ وطاعتِه، فإنَّهُ الطريقُ الصَّحيحُ الذي يُقيمُ عليهِ المؤمِنونَ المتَّقون.

﴿۞فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ الۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى اللَّهِۖ قَالَ الۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ [آل عمران:52]


فلمّا استَشعرَ نبيُّ اللهِ عيسَى منهمُ الإصرارَ على الكفرِ والمُضيَّ في الضَّلال، وأرَادوا قَتلَه، قالَ للنَّاس: مَنْ يتَّبِعُني في دِينِ اللهِ ويُناصِرُني في الدعوةِ إليه؟

فقالَ الحواريُّون، وكانوا صَفوةَ بني إسرائيل: نحنُ أعوانُ دِينِ اللهِ ورَسولِه، نُؤازِرُكَ ونَنصُرُك، فقدْ آمنَّا باللهِ ربًّا، وبكَ رسولاً، فاشهدْ على أنَّنا استَسلَمنا لأمرِ الله، وأخلَصنا لهُ الدِّين.

﴿رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلۡتَ وَاتَّبَعۡنَا الرَّسُولَ فَاكۡتُبۡنَا مَعَ الشَّـٰهِدِينَ﴾ [آل عمران:53]


اللهمَّ إنَّنا آمنّا بما أنزلتَ مِنْ كِتاب، واتَّبَعنا رسولَكَ عيسَى بنَ مريمَ فيما يأمرُ وفيما ينهَى، فاكتُبنا عندكَ منَ الشَّاهدينَ معَ أمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم شُهداءُ على النَّاس.

﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُۖ وَاللَّهُ خَيۡرُ الۡمَٰكِرِينَ﴾ [آل عمران:54]


وتحرَّكتِ الطَّائفةُ الكافِرةُ المُعَادِيَةُ لعيسَى عليهِ السلام لتَقتُلَهُ غِيْلَة، بعدَ اتِّهامهِ بالكذِبِ والشَّعوَذة، وقذفِ والدتهِ الطَّاهرةِ بالزِّنا، ووشَوا به إلى الملك...، ولكنَّ اللهَ أبطلَ حِيَلهمْ في الوصولِ إليه، واللهُ أقواهُم مَكراً، وأنفذُهم كَيْداً، وأحكَمُهمْ تَدبيراً، وأقدرُهمْ على الانتِقام.

قالَ البغويّ: والمكرُ لدَى المخلوقين: الخُبْثُ والخَدِيعةُ والحِيلة، والمكرُ منَ الله: استدراجُ العبدِ وأخذُهُ بَغْتَةً مِنْ حيثُ لا يَعلم... وقال ما مَعناه: ومكرُ اللهِ تعالى بِهمْ في هذهِ الآيةِ هوَ إلقاؤهُ الشِّبْهَ على صاحبِهمُ الذي أرادَ قتلَ عيسَى عليهِ السلامُ حتَّى قُتِل!

﴿إِذۡ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوۡقَ الَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ الۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ﴾ [آل عمران:55]


وقدْ قالَ اللهُ لنبيِّهِ عيسى: سألقِي النومَ على عَينيكَ وأرفعُكَ إليّ، وأُخرِجُكَ منْ بينِ الكفرةِ الذينَ أرادوا قَتلَكَ وأُنجيكَ منهم، وسأجعلُ منَ الذينَ كانوا يتَّبعونَكَ فوقَ الذينَ كفَروا منَ اليهود؛ وسوفَ يَبقُونَ ظاهرينَ عليهمْ إلى يومِ القيامة، وعندما تَرجِعونَ إليَّ في يومِ البَعث، سأحكمُ بينكمْ فيما تختلفونَ فيهِ منْ أمورِ الدين، وأبيِّنُ لكمُ الحقَّ فيها، وأُظْهِرُ مَنْ أفسدَ منهمُ الدِّينَ وحرَّفَهُ وكفرَ به، ومَنْ حافظَ عليهِ واتَّبعَ أوامرَ أنبيائي وتعاليمَهمْ فآمنَ والتَزم.

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗا فِي الدُّنۡيَا وَالۡأٓخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ﴾ [آل عمران:56]


فأمَّا مَنْ كفرَ منهمْ فسَأعذِّبهمْ عذاباً أليماً مُوجِعاً جزاءَ كفرِهمْ وعِنادِهم، في الدُّنيا والآخِرة.

وكان هذا حالَ اليهودِ الذينَ كفروا بالمسيحِ عليهِ السلام، فجُوْزُوا بالقَتلِ والسَّبي والذُّلّ، وفي الآخِرةِ مصيرُهمُ النار.

ولنْ يَقْدِرَ أحدٌ على أنْ يَمنعَهمْ ويُخَلِّصَهمْ مِنْ عذابِ الدُّنيا والآخِرَة.

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمۡ أُجُورَهُمۡۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [آل عمران:57]


وأمّا مَنْ آمنَ باللهِ ورسلِه، وأتْبَعَ إيمانَهُ بالعَملِ الصالحِ كما يَفعَلُ المؤمنون، فسوفَ يُعطيهمُ اللهُ ثوابَ أعمالِهمْ كاملاً، في الدُّنيا بالنَّصرِ والظفَر، وفي الآخِرَةِ بالنَّعيمِ المُقيم. واللهُ يَبْغُضُ الكافِرينَ الذينَ يُؤثِرونَ الغَيَّ والضَّلالَ على الإيمانِ والهُدَى، ولنْ يَرحمَهم.

﴿ذَٰلِكَ نَتۡلُوهُ عَلَيۡكَ مِنَ الۡأٓيَٰتِ وَالذِّكۡرِ الۡحَكِيمِ﴾ [آل عمران:58]


وهذا الذي قَصَصناهُ عليكَ منْ شأنِ عيسَى عليهِ السلام، هوَ مِنْ وحي اللهِ إليك، ومِنْ كلامهِ المُحْكَمِ الذي لا يتطرَّقُ إليهِ الشكُّ والخَلل.