تفسير سورة آل عمران

  1. سور القرآن الكريم
  2. آل عمران
3

﴿الٓمٓ﴾ [آل عمران:1]


حروفٌ مقطَّعة، لم يردْ في تفسيرِها حديثٌ ثابتٌ صحيح، فاللهُ أعلمُ بمرادِها.

﴿اللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الۡحَيُّ الۡقَيُّومُ﴾ [آل عمران:2]


هوَ اللهُ الواحِدُ الأحَد، ذو الحياةِ الحقيقيَّةِ الدَّائمة، فلا بدايةَ لها ولا نهاية، فهو دائمُ الوجود، قائمٌ بتدبيرِ الكونِ كلِّه، لا حركةَ لهُ ولا حياةَ لمنْ فيهِ بدونِه.

﴿نَزَّلَ عَلَيۡكَ الۡكِتَٰبَ بِالۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ التَّوۡرَىٰةَ وَالۡإِنجِيلَ﴾ [آل عمران:3]


أنزلَ اللهُ عليكَ القُرآنَ بالحقِّ(17) أيُّها النبيُّ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، يُصَدِّقُ الكتبَ السماويَّةَ السابقَة، بما أخبرَتْ بهِ وبشَّرت، منْ ذلكَ إرسالُكَ نبيًّا خاتماً، وأنزلَ التوراةَ على موسَى، والإنجيلَ على عيسَى، عليهما الصلاةُ والسَّلام.

(17) بالحق: بالعدلِ في أحكامه، أو بالصدقِ في أخباره، التي من جملتها خبرُ التوحيدِ وما يليه، أو في وعدهِ ووعيده. (روح البيان).

﴿مِن قَبۡلُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الۡفُرۡقَانَۗ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۗ وَاللَّهُ عَزِيزٞ ذُو انتِقَامٍ﴾ [آل عمران:4]


أنزلَهما قبلَ القُرآن، ليَهتديَ بهما الناسُ في زمانِهما، وأنزلَ القُرآنَ ليكونَ فُرقاناً بينَ الحقِّ والباطل، وبياناً لِما كانَ في الكتبِ السابقَةِ مِنْ حقّ، وتَنبيهاً لِما فيها مِنْ باطلٍ بعدَ تحريفِها، بما في القُرآنِ منْ آياتٍ بيِّنات، ودلائلَ واضحات.

والذينَ جحَدوا بآياتِ اللهِ وأنكرُوها، أو انحرَفوا عنها فزوَّروها وأوَّلوها على غيرِ وجهِها الحقّ، لهمْ عذابٌ مؤلمٌ قاسٍ يومَ القيامة. واللهُ عزيزٌ لا يُغالَب، يَفعلُ ما يَشاء، ويَحكمُ كما يُريد، يَنتقِمُ ممَّنْ كذَّبَ بآياتِه، وخالفَ أنبياءَه.

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخۡفَىٰ عَلَيۡهِ شَيۡءٞ فِي الۡأَرۡضِ وَلَا فِي السَّمَآءِ﴾ [آل عمران:5]


ولا يَخفَى على اللهِ شَيءٌ مِنَ الأشياء، في السَّماواتِ والأرض، مهما دقَّتْ وصَغُرت، وعِلمهُ بالماضي والحاضرِ والمستَقبلِ شامِلٌ مُطلَق.

﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي الۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [آل عمران:6]


هوَ الذي يَخلقُكمْ في أرحامِ أمَّهاتِكم كما يَشاء، مِنْ ذكرٍ وأنثَى، وحَسَنٍ وقَبيح، وتامٍّ وناقِص، ومِيْزةِ كلِّ واحدٍ وخصائصِه، بمشِيئتهِ وإرادتهِ النافِذَة. فهوَ وحدَهُ الخالقُ المُصَوِّر، لا يُشارِكُهُ في أمرهِ أحد، فهوَ وحدَهُ المستحِقُّ للعبادة، لهُ العزَّةُ والحِكمة، والأمرُ والتَّدبير.

﴿هُوَ الَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ الۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ابۡتِغَآءَ الۡفِتۡنَةِ وَابۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا اللَّهُۗ وَالرَّـٰسِخُونَ فِي الۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ الۡأَلۡبَٰبِ﴾ [آل عمران:7]


هوَ الذي أنزلَ عليكَ هذا القُرآنَ العَظيم، فيهِ آياتٌ مُحْكَماتٌ واضِحاتٌ يَعرِفُ مَعناها الناس، لا اشتباهَ في مَعناها ودَلالتِها، وفي بعضهِ الآخَرِ آياتٌ مُتشابِهاتٌ غيرُ واضِحات، فمنْ كانَ في قَلبهِ شَكٌّ وانحرافٌ وضَلال، فإنَّهمْ يَتركونَ الأصولَ الواضِحةَ المـُحكَمةَ الدقيقَة، ويَجرُونَ وراءَ ما تَشابهَ مِنَ الآيات، وقَصدُهمْ مِنْ ذلك إحداثُ بَلبَلةٍ، وإثارةُ خِلاف، وإيهامُ أتباعِهمْ بأنَّهمْ على حقّ، وذلكَ بإنزالِ جُزءٍ ممّا تَدلُّ عليهِ هذهِ الآياتُ على معنىً أعمَّ، وتكبيرهِ بما يُناسبُ ضلالَهم وعقيدتَهم الفاسِدة. والحالُ أنَّ تأويلَ الآياتِ المتشابهاتِ وتفسيرَها الحقيقيَّ مخصوصٌ باللهِ تعالى.

والذينَ وفَّقهمُ اللهُ مِنْ عبادهِ الراسخينَ في العلم، المـُتثبِّتينَ المـُتمكِّنين، يَقولون: آمنّا بالمتشابِهِ أنَّهُ هوَ والمـُحكَمُ مِنْ عندِ ربِّنا، لا مُخالفةَ بينهما، كلُّ واحدٍ منهما يُصَدِّقُ الآخَرَ ويَشهَدُ له، وأنَّ معناهُ الحقَّ هوَ على مرادِهِ تعالى.

ويجوزُ أنْ يكونَ في القُرآنِ تأويلٌ استأثرَ اللهُ بعلمهِ ولم يُطْلِعْ عليهِ أحداً مِنْ خلقه، كما استأثرَ بعلمِ الساعةِ وغيرِها. والخَلْقُ مُتَعبِّدونَ في المتشابِهِ بالإيمانِ به، وفي المُحكَمِ بالإيمانِ بهِ والعمَل. أفادَهُ البغَويّ.

وما يَذكرُ هذا حقَّ التذكُّر، ولا يتَّعِظُ بما في القُرآن، ولا يَفهَمُ ويَتدبَّرُ معانيَ الآياتِ على وجهِها، إلاّ الألبّاءُ والأسوياءُ مِنْ ذَوي العقولِ الراجحةِ المستَقيمَة، الذينَ لا يَزيغُونَ ولا يتَّبعونَ الأهواء.

﴿رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ الۡوَهَّابُ﴾ [آل عمران:8]


ويَقولُ هؤلاءِ الراسخونَ في العلم، ويقولُ مَعهمْ كلُّ مؤمن: اللهمَّ إنّا نسألُكَ ألاّ تُميلَ قلوبَنا عنِ الحقِّ والهُدَى بعدَ أنْ أقمتَها عليه، ولا تَجعَلْنا مثلَ الذينَ في قُلوبِهمْ زَيغٌ فيتَّبعونَ ما تشابهَ منَ القُرآنِ ويذَرونَ مُحْكَمه، وأعطِنا مِنْ عندِكَ رحمةً واسِعةً تثبِّتُ بها قُلوبَنا على الهُدَى والصراطِ المستَقيم، فأنتَ الواهبُ المُنعِم، الهادي إلى الهُدَى والإيمان.

﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخۡلِفُ الۡمِيعَادَ﴾ [آل عمران:9]


ويَقولونَ في دُعائهم أيضاً: اللهمَّ إنَّكَ تَجمَعُ الناسَ في يَومٍ لا شكَّ فيه، هوَ يومُ الحسابِ ويومُ الجزاء، لتَفصِلَ بينهمْ وتَجزيَ كلاًّ بما عَمِل، ووعدُك الحقّ، فلا تُزِغْ قلوبَنا، وارحَمْنا.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيۡـٔٗاۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمۡ وَقُودُ النَّارِ﴾ [آل عمران:10]


إنَّ الكافِرينَ لنْ تُفيدَهمْ أموالُهمُ التي جَمَعوها وكَنَـزوها في الدُّنيا لتَفُكَّ رِقابَهمْ مِنَ النارِ يومَ القيامة، ولا يَقْدِرُ أولادُهم على الانتِصارِ لهمْ في ذلكَ اليومَ وإنقاذِهمْ منْ عذابِ اللهِ كما كانوا يَنصرونَهمْ في الحياةِ الدنيا، بلْ إنَّ عاقبتَهمْ أنْ يكونوا حطبَ النارِ وحَصَبها التي تُسْعَرُ بهم.

﴿كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَالَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۗ وَاللَّهُ شَدِيدُ الۡعِقَابِ﴾ [آل عمران:11]


وهذا كصَنيعِ آلِ فرعونَ ومَنْ قَبلَهم منَ الأممِ الكافرةِ، منَ الكفرِ والتكذيبِ بما جاءَ بهِ أنبياءُ الله، عندما حارَبوهمْ واستهزَؤوا بهمْ ونَبذوا ما جاؤوا بهِ وراءَ ظهورِهم، فأهلَكناهُم حينَ كذَّبوا بآياتِنا، واللهُ شديدٌ في عقابهِ لهؤلاءِ الكافِرينَ وأمثالِهم.

﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ الۡمِهَادُ﴾ [آل عمران:12]


قلْ أيُّها النبيُّ لليهودِ والمشرِكين: ستُهزَمونَ وتَخْسَرونَ في قتالِكمْ ضدَّ المسلِمين، كما كانَ الأمرُ في غَزوةِ بَدر.

وفي حديثٍ حسنٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لليهود: "يا معشرَ يهود، أسلِموا قبلَ أنْ يُصيبَكمْ مثلَ ما أصابَ قريشاً". لكنَّهمْ أبَوا وتحدَّوا، فأنزلَ اللهُ في ذلكَ الآية.

وصدقَ اللهُ وعدَه، بقتلِ بني قريظة، وإجلاءِ بني النَّضير، وفتحِ خيبر، وضربِ الجِزيةِ على مَنْ عَداهُم.

وسوفَ تُقادُونَ جميعاً إلى جهنَّم، ويا لهُ منْ موئلٍ سيِّءٍ فظيعٍ مُمَهَّدٍ لهمْ خاصَّة!

﴿قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ الۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ الۡعَيۡنِۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي الۡأَبۡصَٰرِ﴾ [آل عمران:13]


أيُّها الكافِرونَ مِنْ مُشركينَ ويَهود، الذينَ اغترُّوا بعَدَدِهمْ وعُدَدِهم، قدْ بَدا لكمْ كيفَ أظهرَ اللهُ دينَه، ونَصَر نبيَّه، في غزوةِ بَدر، عندَما التقتْ طائفتانِ في المعركة، طائفةٌ مُسلِمةٌ تُقاتِلُ تحتَ رايةِ لا إلهَ إلاّ الله، وطائفةٌ كافرةٌ تُقاتِلُ في سَبيلِ الطاغوت.

ومعَ أنَّ عددَ الكفّارِ كانَ ثلاثةَ أضعافِ عددِ المسلمين، إلاّ أنَّهمْ كانوا يَرونَهمْ -في رأي العينِ- ضِعفَيهمْ عندَ التِحامِ القِتال، وكانوا أوَّلاً يَرونَهمْ أقلَّ مِنْ ذلك. كما بدَوا للمسلمينَ أقلَّ ممّا همْ عليه، وقدْ عَرفوا منْ قَبلُ أنَّهمْ أكثرُ منهم؛ ليَتَّجهَ المسلمونَ إلى ربِّهمْ ويَطلُبوا منهُ النصر، فما النصرُ إلاّ منْ عندِه.

قال ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: نظَرنا إلى المشركينَ فرأيناهمْ يَضْعُفونَ علينا، ثمَّ نَظرنا إليهمْ فما رأيناهُمْ يَزيدونَ علينا رَجُلاً واحِداً!

وقالَ في موضعٍ آخر: لقدْ قُلِّلوا في أعينِنا حتَّى قلتُ لرجلٍ إلى جانبي: تَراهمْ سَبعين؟ وكانوا نحوَ الألف.

فاتَّجهَ المجاهدونَ إلى ربِّهمْ يطلبونَ منهُ العونَ والتأييد، وأحسَنوا توكُّلَهمْ عليه، ودبَّ الخوفُ والرُّعبُ في قُلوبِ المشرِكين، وأيَّدَ اللهُ الفئةَ المسلِمةَ فانتَصرت.

وفي ذلكَ عِبرةٌ لمنْ أرادَ أنْ يَعتَبر، فإنَّ اللهَ قادرٌ على نَصرِهمْ مرَّةً أخرى. فآمِنوا، ولا تَخْسِروا الدُّنيا والآخِرَة.

﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالۡبَنِينَ وَالۡقَنَٰطِيرِ الۡمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالۡفِضَّةِ وَالۡخَيۡلِ الۡمُسَوَّمَةِ وَالۡأَنۡعَٰمِ وَالۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَاۖ وَاللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ الۡمَـَٔابِ﴾ [آل عمران:14]


زُيِّنَ في نُفوسِ الناسِ مُشتهَياتٌ مُستحَبَّةٌ مُستَلذَّة، منَ النساءِ اللواتي لا صبرَ للرجالِ بدونِهن. والرغبةُ فيهنَّ للشهوةِ والعِفَّة، والسكَنِ والرحمة، والودِّ والولَد.

ومنَ البَنين، حيثُ التفاخرُ والنسلُ والزينَة.

والمالِ الكثير، منَ الذَّهبِ والفِضَّة، الذي قدْ يكونُ تَكديسهُ للخُيَلاءِ والتكبُّرِ والسيطَرة، وقدْ يكونُ تَخزينهُ وتَنميتهُ ليُنْفَقَ في وجوهِ الخيرِ والطاعَة.

والخيولِ المحجَّلةِ الحِسان، التي قدْ تُقتنَى للقِتال، أو للهوايةِ والرياضة، فهيَ زينةٌ مُشتَهاةٌ على كلِّ حال.

والأنعام، منْ إبِلٍ وبقَرٍ وغَنَم.

والأراضي الزراعيةِ والحدائقِ والحقُول، التي تُزَوِّدُ الإنسانَ بالقُوتِ والطعَام، وتَدُرُّ عليهِ المالَ الوَفير.

وهذهِ الشهواتُ كلُّها منْ مَتاعِ الدنيا ولذائذِها المحبَّبة، وهيَ منْ زَهرتِها الذابِلة، وزينتِها الزائلة، فهيَ إلى فَناءٍ قريباً، وإلى حِسابٍ مُستَقبَلاً.

والذي عندَ اللهِ منَ اللذَّةِ والنَّعيمِ المُقيم، وأكبرُ مِنْ ذلكَ رضوانُ الله، هوَ خيرٌ مِنْ ذلكَ كلِّه.

﴿۞قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٖ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ لِلَّذِينَ اتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ اللَّهِۗ وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِالۡعِبَادِ﴾ [آل عمران:15]


فهلْ عَلمتُمْ ما هوَ خيرٌ مِنْ هذهِ الشهواتِ الفانِية، ولو كانتْ ممّا يُعجِبُ الإنسانَ ويَتمسَّكُ بها؟

إنَّهُ مِنْ نَصيبِ عبادِ اللهِ المتَّقين، الذينَ آمنوا باللهِ وقامُوا بالأعمَالِ الصَّالحة، فهؤلاءِ لهمْ عندَ ربِّهم جِنانٌ جَميلة، واسعةٌ رائعة، تَجري مِنْ تحتِها جداولُ المياهِ والأنهارُ العَذبة، ومنها ما يَجري بالعسلِ واللبنِ وأنواعِ الأشْرِبة، وفيها ما لم يَرَهُ الإنسانُ وما لم يَسمعْ به، معَ حياةٍ دائمةٍ هَنيئة، لا نَغْصَ فيها ولا انقِطاع.

ولهمْ فيها أزواجٌ مُطَهَّراتٌ مِنَ الأذَى الذي يَعتري نساءَ الدنيا، وحُورٌ عِيْنٌ جَميلاتٌ مُحَبَّباتٌ إلى النُّفوس، وفوقَ كلِّ ذلكَ رضوانُ الله، فلا سَخَطَ عليهمْ بعدَهُ أبداً.

واللهُ بصيرٌ بأعمالِ عبادهِ ونيّاتِهم وتوجُّهاتِهم في الدنيا، خبيرٌ بميولِهم ونوازِعِهم. وهوَ يُعطي كلاًّ بحسبِ ما عَمِلَ واجتهدَ وأخلَص.

﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَاغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:16]


وعبادُ اللهِ المؤمنونَ المتَّقونَ همُ الذينَ يَدعونَ ربَّهم ويَقولون: اللهمَّ إنَّنا آمنّا بكَ وبكتابِكَ وبرسولِك، فاغفِرْ لنا ذُنوبَنا، وتَجاوزْ عنْ سيِّئاتِنا، فإنَّهُ لا يَغفِرُها إلاّ أنت، ولا إلهَ لنا غيرُك، واصرِفْ عنّا عذابَ النار.

﴿الصَّـٰبِرِينَ وَالصَّـٰدِقِينَ وَالۡقَٰنِتِينَ وَالۡمُنفِقِينَ وَالۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِالۡأَسۡحَارِ﴾ [آل عمران:17]


وهمْ أيضاً عبادُ اللهِ الصَّابِرون، الذينَ يَثبُتونَ على التكاليفِ الشرعيَّة، فيُطيعونَ اللهَ فيما أمرَهم، ويَتركونَ المحرَّمات. ويَستَسلمونَ لحُكمِ اللهِ ويَرْضَوْنَ به، وإنَّ ذلكَ مِنْ عزمِ الأمور.

والصادقون، الذينَ لا يَرضَوْنَ عنِ الحقِّ بديلاً، ويَعتزُّونَ به، ويُقاتِلونَ في سَبيلِه.

والقانتون، الذينَ يَقومونَ بواجبِ العبوديةِ لربِّهم، ولا يَركعونَ إلاّ له، ولا يَسجُدونَ لغَيرِه.

والمُنفقون، الذينَ لا يَبخلونَ بما أنعمَ اللهُ عليهم، ويَتفقَّدونَ المساكينَ واليَتامَى وأهلَ الحاجة، فيُعطونَهم ممّا أعطاهمُ الله.

والمستَغفِرون، في وقتِ السَّحرِ وقدْ نامَ الناس، فيَلتَجِؤونَ إلى اللهِ ويَطلبونَ منهُ العفوَ والغُفران.

وجزاءُ هؤلاءِ جميعاً خيرٌ مِنْ كلِّ ما زُيِّنَ للناسِ منَ الشهواتِ المُستَلذّاتِ في الدُّنيا، ورِضوانُ اللهِ عليهمْ أكبرُ مِنْ ذلكَ كلِّه، فهوَ أجَلُّ مِنْ كلِّ شهوة، وخيرٌ منْ كلِّ مَتاع، وأعظمُ مِنْ كلِّ أُمنيَّةٍ تُتَمنَّى.

﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ الۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِالۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [آل عمران:18]


شَهِدَ الله، وكفَى بهِ شهيداً، أنَّهُ الإلهُ الواحِدُ الأحَد، إلهُ الخلقِ كلِّهم، فالكلُّ لهُ عَبيد، وهوَ عنهمْ غنيّ، وشَهِدَتْ ملائكتهُ بوحدانيَّتِه، وكذا العُلماءُ الراسِخون، في تَصديقٍ وطَاعةٍ واتِّباع.

وهيَ شهادةٌ أيضاً بقيامِ اللهِ تعالَى بالعدلِ في تَدبيرِ الكونِ وحياةِ الناس، فلا يَظلِمُ أحداً، سُبحانَهُ وتَعالَى، لا إلهَ غيره، ولا رَبَّ سِوَاه، ولا أعدلَ منه، وهوَ ذو العِزَّةِ والعظَمة، الحكيمُ في كلِّ ما يَفعَلُ ويَشْرَعُ ويُقَدِّر.

﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا اخۡتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ الۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الۡحِسَابِ﴾ [آل عمران:19]


الدِّينُ عندَ اللهِ الإسلام، وهو ما أُرسِلَ بهِ جميعُ الأنبياء، وهوَ الذي يَجِبُ أنْ يُتَّبعَ عندَ إرسالِ أيِّ رَسول، حتَّى خُتِمَ بهمْ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فلا يُقبَلُ مِنْ أحدٍ دِينٌ بعدَ بِعثَتهِ صلى الله عليه وسلم سِوَى دِينِ الإسلام. والدِّينُ عندَ اللهِ هوَ الاستسلامُ لدينِه، واتِّباعُ حُكمه، وطاعتُهُ كما أمَر.

وما اختلفَ أهلُ الكتابِ وما تَنازعوا إلا بعدَ أنْ جاءَهمُ العلمُ وقامَتْ عليهمُ الحُجَّةُ ووَضَحَ أمامَهمُ الطَّريق، بإرسالِ الرسلِ إليهم، وإنزالِ الكُتبِ عَليهم، فترَكوا الأدلَّةَ الواضِحة وتَخَلَّوا عنِ العَقيدةِ الصَّحيحَةِ والشريعةِ المُحْكَمة، ولازَموا جانبَ الخِلافِ والجِدال، والمُخاصمةِ واللَّجاجَة، اعتداءً وظُلماً، وحَسداً وتَباغُضاً، وعِناداً واستِكباراً، حتَّى صَارَ بعضُهمْ يُخالِفُ بعضاً قصداً ونِكايةً ولو لم يَعرِفوا حقيقةَ الأمر!

وإنَّ مَنْ جحَدَ شَيئاً مِنْ آياتِ الله(18)، وأنكرَ وحدانيتَه، ونبذَ دينَهُ الحقّ، فسوفَ يُحاسِبُهُ اللهُ على تَكذيبهِ هذا، ويُعاقبهُ على مخالفةِ كتابِه، وهوَ سريعُ الحِساب(19)، وشديدُ العِقاب، وخاصَّةً لمنْ كفرَ بعدَ معرفةِ الحقّ.


(18) بما أنزلَ اللهُ في كتابه... (ابن كثير). (19) أي: يأتي حسابهُ عن قريب، أو سريعٌ في محاسبةِ جميعِ الخلائق؛ لأنه يحاسبُهم في أقلَّ من لمحة، بحيثُ يَظنُّ كلُّ أحدٍ منهم أنه - أي اللهُ - يحاسِبُ نفسَهُ فقط. (روح البيان).

﴿فَإِنۡ حَآجُّوكَ فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ وَالۡأُمِّيِّـۧنَ ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ فَإِنۡ أَسۡلَمُواْ فَقَدِ اهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ الۡبَلَٰغُۗ وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِالۡعِبَادِ﴾ [آل عمران:20]


فإذا خاصَمكَ المشرِكونَ وأهلُ الكتَاب، وجادَلوكَ في عقيدةِ الإسلامِ التوحيديَّةِ الصافية، فقلْ لهم: لقدِ استَسلَمتُ لطاعةِ ربِّي، وخَضعتُ لأمرِه، واتَّبعتُ وحيَه، وأخلَصتُ عِبادَتي لهُ وحدَهُ لا شَريكَ له، ومنِ اتَّبعَني منَ الناسِ كانَ مُسلِماً وقالَ كما قلتُ.

وقلْ لأهلِ الكتابِ والمشرِكينَ في دعوتِهمْ إلى دِينِ التوحيد: أأسلمتُمْ وأقررتُمْ بتوحيدِ الله، والإيمانِ بألوهيَّتهِ للخلقِ أجمعين، وتحاكمتُمْ إلى كتابِه؟

فإذا أسلَموا واتَّبَعوكَ فقدِ اهتَدَوا إلى الدِّينِ الصَّحيح، وإذا أبَوا وعانَدوا وآثَروا الشِّرْكَ والكفرَ على دِينِ الإسلام، فما عليكَ أكثرُ ممّا بلَّغتَ وبيَّنتَ لهمُ الدِّينَ الحقّ، ولا تَقْدِرُ على سَوْقِ قلوبِ الناسِ إلى الإسلام، إنَّما مرجِعُهمْ وحِسابُهمْ على الله، وهوَ عالمٌ بأمرِ عبادِه، بصيرٌ بمَنْ يَستَحِقُّ الهِدايةَ ممَّنْ يَستَحِقُّ الضلالَة.