تفسير الجزء 9 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء التاسع
9
سورة الأعراف (88-206)
سورة الأنفال (1-40)

﴿فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَٰغِرِينَ﴾ [الأعراف:119]


فغُلِبَ فِرعَونُ وقومُهُ في ذلكَ الحَشدِ الكبيرِ وهُزِموا، وانصرَفوا عن مَوقعِهمْ أذِلَّةً مَقهورين.

﴿وَأُلۡقِيَ السَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ﴾ [الأعراف:120]


أمّا السَّحَرةُ فقدْ بَهرَهمُ الحقُّ، ولمْ يَتمالَكوا إلاّ أنْ خرُّوا للهِ ساجِدين، وكانوا منْ سُرعةِ ما سَجدوا كأنَّ أحداً دَفعَهمْ وألقاهُمْ للسُّجود!

﴿قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأعراف:121]


وقالوا: آمنّا بربِّ العَالمين، مالكِهمْ وسيِّدِهمْ والمتصرِّفِ في أمرِهم.

﴿رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ﴾ [الأعراف:122]


ربِّ موسَى وهارون، وليسَ هوَ فرعونَ مُدَّعي الربوبيَّة، فما هو إلاّ عَبد.

﴿قَالَ فِرۡعَوۡنُ ءَامَنتُم بِهِۦ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكۡرٞ مَّكَرۡتُمُوهُ فِي الۡمَدِينَةِ لِتُخۡرِجُواْ مِنۡهَآ أَهۡلَهَاۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ﴾ [الأعراف:123]


فقالَ لهمْ فِرعَون، وقدْ عَلِمَ أنْ لا مَجالَ لبقاءِ مُلكهِ بالحِوارِ والعَقلِ والمحاجَجة: أآمنتُمْ بربِّ موسَى وهارونَ قبلَ أنْ أسمحَ لكمْ بذلك؟! إنَّ هذا الصنيعَ الذي قمتُمْ به، ما هوَ إلاّ مُؤامرةٌ وحِيلةٌ كانتْ عنْ سابقِ تَشاورٍ بَينكمْ وبينَ موسَى في المدينةِ قبلَ أنْ تأتوا إلى هذا الميدان، لتُخرِجوا منها القِبْط، وتبقَى لكمْ ولبَني إسرائيل، فسوفَ ترونَ عاقبةَ ما أفعلُ بكم.

﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفٖ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [الأعراف:124]


سأقطَعُ منْ كلِّ واحدٍ منكمْ يدَهُ اليُمنَى ورِجْلَهُ اليُسرَى، ثمَّ أصلُبُكمْ على جُذوعِ النَّخلِ جميعاً(46)، لتَموتوا جُوعاً وعَطشاً، عُقوبةً لإيمانِكم.

(46) قالَ الراغبُ في مفرداته: الصُّلب: الذي هو تعليقُ الإنسانِ للقتل، قيل: هو شدُّ صُلبهِ على خشب، وقيل: إنما هو مِن صَلْبِ الودَك. وقد قالَ قبلَهُ: الصَّلبُ والاصطِلاب: استخراجُ الودَكِ (أي الشحمِ) من العظم.

﴿قَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ [الأعراف:125]


قالَ السَّحرةُ - وقدْ آمَنوا -: نحنُ عائدونَ إلى رَحمةِ اللهِ وثَوابِه، ومَصيرُكَ ومَصيرُنا إلى اللهِ يومَ القيامَة، فيَحكمُ بينَنا، ولا نُبالي بوعيدِك، وعذابُهُ أشدُّ مِنْ عذابِك.

﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلَّآ أَنۡ ءَامَنَّا بِـَٔايَٰتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتۡنَاۚ رَبَّنَآ أَفۡرِغۡ عَلَيۡنَا صَبۡرٗا وَتَوَفَّنَا مُسۡلِمِينَ﴾ [الأعراف:126]


وما تُنكِرُ منّا سِوَى إيمانِنا بآياتِ ربِّنا ومُعجِزاتهِ لمّا أتَتنا. اللهمَّ صبِّرْنا على التمسُّكِ بدينِكَ والثَّباتِ عليه، وتوفَّنا على الإسلام، مُتَّبعينَ نبيَّكَ موسَى عليهِ السَّلام.

﴿وَقَالَ الۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوۡمَهُۥ لِيُفۡسِدُواْ فِي الۡأَرۡضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَنَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡ وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَٰهِرُونَ﴾ [الأعراف:127]


وقالَ مستَشارو فِرعَونَ وقادتُه له، وقدْ كَثُرَ أتباعُ موسَى مِنْ بَني إسْرائيل: أتَترُكُ موسَى وقومَهُ ليُفسِدوا في أرضِ مِصر، وهمْ يَدْعونَ رعيَّتَكَ إلى عِبادةِ اللهِ والخروجِ عليك، وتكونُ النَّتيجةُ أنْ يَترُككَ موسَى ويَترُكَ مَعبوداتِك؟ ذُكِرَ أنَّهُ كانَ قدْ صنعَ أصناماً وأمرَ الناسَ بعبادتِها تقرُّباً إليه. وقِيلَ غيرُ ذلك.

أجابَ فِرعَونُ أصحابَهُ بقوله: لنْ نترُكَهمْ هكذا، بلْ سنَفعلُ بهمْ كما كانَ يُفْعَلُ بهمْ سابقاً، سنَقتلُ كلِّ ذَكَرٍ منهم يُولَد، ونُبقي على إناثهم، قَهْراً وإذلالاً لهم، وسنَغلِبُهمْ بهذا، فيَقلُّونَ شَيئاً فشَيئاً، ولنْ يَقدِروا على الفَسادِ بعدَ ذلك، وهمْ جميعاً مَقهورونَ تحتَ أيدينا.

﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ اسۡتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصۡبِرُوٓاْۖ إِنَّ الۡأَرۡضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَالۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف:128]


قالَ موسَى لبَني إسْرائيلَ وهوَ يَعِظُهمْ ويقوِّي مِنْ عَزائمِهم: اطلُبوا العَونَ والقوَّةَ والتوفيقَ منَ اللهِ ربِّكم، واصبِروا على ما تُوعَدونَ بهِ وتُهَدَّدون، فإنَّ الأرضَ مُلْكٌ لله، ومِصْرُ مِنْ أرضِه، فهيَ ليسَتْ لفِرعَون، بلْ مِنْ مُلكِ الله، وهوَ يُعطيها مَنْ يشاءُ مِنْ عبادِه، والنصرُ منْ عندِ الله، والعاقبةُ المحمودةُ لعبادِ اللهِ المؤمِنينَ الخائفينَ من عُقوبته، وليستْ للظَّالمين.

﴿قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِيَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِي الۡأَرۡضِ فَيَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ﴾ [الأعراف:129]


قالَ بنو إسْرائيلَ لنبيِّهمْ موسَى عليهِ السلام: كنّا نُظْلَمُ ونُعذَّبُ قبلَ أنْ تُبْعَثَ رَسولاً، وها نحنُ نُعَذَّب ونُضطَهَدُ بعدَ إرسالِك.

فقالَ لهم: عسَى ربُّكمْ أنْ يَقضيَ على عدوِّكمُ الذي أرعَبكمْ وتوعَّدكم، ويَجعلَكمْ خُلفاءَ في أرضِ مِصرَ مِنْ بعدِهم، فيرَى ما الذي تَفعلونَهُ بعدَ النَّصر، تُطيعُونَ فتَشكُرون، أمْ تَعصُونَ فتَكفُرون؟

﴿وَلَقَدۡ أَخَذۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ بِالسِّنِينَ وَنَقۡصٖ مِّنَ الثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف:130]


وقدْ ابتَلينا قومَ فِرعونَ بالقَحطِ والجوعِ، ونقَصنا مِنْ مَحصولِ زِراعاتِهمْ وثَمراتِ أشجارِهم، بالآفاتِ وقلَّةِ الإنتاج؛ ليتذكَّروا بذلكَ ويتَّعِظوا ويتضرَّعوا إلى الله، ويَترُكوا ما همْ عليهِ منْ شِرك.

﴿فَإِذَا جَآءَتۡهُمُ الۡحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَٰذِهِۦۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓۗ أَلَآ إِنَّمَا طَـٰٓئِرُهُمۡ عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الأعراف:131]


فإذا كانتْ سنةَ خِصْبٍ ورَخاء، وصارُوا في سَعةٍ وعَافية، قالوا: هذا مِنْ حقِّنا، أصَبناهُ بتَعبِنا، ولم يَروْهُ تَفضُّلاً منَ الله، وإذا كانتْ سَنةَ قَحطٍ وبلاءٍ تشاءَموا وقالوا: أصابَنا هذا النَّقصُ والبلاءُ بسبَبِ ما جاءَ بهِ موسَى وما يَدعو إليهِ هوَ وقومُه.

لكنَّ ما قُسِمَ لهمْ منْ نصيبٍ وقُدِّر لهمْ مِنْ رِزقٍ، وما يُصيبُهمْ مِنْ خَيرٍ وشَرٍّ كلُّهُ مِنْ عندِ الله، ولكنَّ أكثرَهمْ لا يَعلَمونَ ذلك، ولذلكَ يَقولونَ ما يَقولون.

﴿وَقَالُواْ مَهۡمَا تَأۡتِنَا بِهِۦ مِنۡ ءَايَةٖ لِّتَسۡحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحۡنُ لَكَ بِمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأعراف:132]


وقالَ قومُ فِرعَونَ لموسَى في عِنادٍ وإصرارٍ على الباطِل: إنَّكَ مَهما جئتَنا بهِ منْ مُعجِزةٍ لتُشبِّهَ بها عَلينا، أو تَرُدَّنا بها عنْ دينِنا وتَصرِفنا عمّا نحنُ فيه، فلنْ نَقبلَها منك، ولنْ نُؤمنَ بكَ وبرسالتِك.

﴿فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمُ الطُّوفَانَ وَالۡجَرَادَ وَالۡقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ فَاسۡتَكۡبَرُواْ وَكَانُواْ قَوۡمٗا مُّجۡرِمِينَ﴾ [الأعراف:133]


فكانَ جزاءَ كفرِهمْ وإصرارِهمْ على الباطِل، أنْ عاقبناهُمْ بإرسالِ الطُّوفانِ عَليهم، فملأ بيوتَهم، وأتلفَ زرُوعَهم، وأغرَقَ أراضيَهم... ثمَّ أرسَلنا عليهمُ الجرادَ فأتلفَ ما بقيَ مِنْ زُروعِهم، وأكلَ ثمارَهمْ ونباتَهم، ثمَّ القملَ - وكفى بهِ عذاباً -، والضفَادِع، التي ملأتْ بيوتَهمْ وأوعيتَهمْ وأطعِمتَهم، ثمَّ الدمَ ليجريَ في مياهِهم، فصارُوا يَشرَبونَ الدم، ولا يَطبخون! ... وكلُّها آياتٌ وأدلَّةٌ وعِبَرٌ إلهيةٌ بيِّنةٌ، كافيةٌ للرَّدعِ عنِ الكُفر، والاستِسلامِ لله، والإيمانِ برسالتِه، ولكنَّهمْ معَ كلِّ هذا استَكبَروا عنِ الإيمانِ بها، فكانوا كافِرينَ مُجرِمين.

﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيۡهِمُ الرِّجۡزُ قَالُواْ يَٰمُوسَى ادۡعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَۖ لَئِن كَشَفۡتَ عَنَّا الرِّجۡزَ لَنُؤۡمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرۡسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ﴾ [الأعراف:134]


ولمَّا نزلَ بهمُ العَذاب، واستقرَّ فيهم، وكادوا أنْ يَهلِكوا، قالوا: يا موسَى ادعُ لنا اللهَ بعهدهِ عندكَ - وهوَ النبوَّة - أنْ يَكشِفَ عنّا العَذابَ الذي ابتَلانا به، فإذا أزالَ ما بنا، أقسَمنا لكَ بأنَّنا سَنؤمنُ بما جئتَنا به، وسنُرسِلُ معكَ بَني إسرائيل، كما طَلبت.

﴿فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُمُ الرِّجۡزَ إِلَىٰٓ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ إِذَا هُمۡ يَنكُثُونَ﴾ [الأعراف:135]


فلمّا أنجَيناهمْ مِنَ العَذابِ إلى وقتٍ محدَّدٍ - وهوَ وقتُ الغرَقِ - إذا همْ يَتمرَّدونَ ويَنقُضونَ العَهد، فلم يُؤمنوا!

﴿فَانتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَٰهُمۡ فِي الۡيَمِّ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ﴾ [الأعراف:136]


فأرَدنا الانتِقامَ منهم، فأغرَقناهمْ في البَحر، بسببِ تكذيبِهمْ بآياتِ اللهِ العَظيمة، وعدمِ اكتراثِهمْ بها، وغَفلتِهمْ عنها.

﴿وَأَوۡرَثۡنَا الۡقَوۡمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَٰرِقَ الۡأَرۡضِ وَمَغَٰرِبَهَا الَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۖ وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ الۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ بِمَا صَبَرُواْۖ وَدَمَّرۡنَا مَا كَانَ يَصۡنَعُ فِرۡعَوۡنُ وَقَوۡمُهُۥ وَمَا كَانُواْ يَعۡرِشُونَ﴾ [الأعراف:137]


وأورَثنا بَني إسرائيلَ الذينَ كانوا يُستعبَدونَ ويُقهَرونَ مِنْ قِبَلِ فِرعَونَ وقومِه، ويُذبَحُ أبناؤهمْ ويُسامونَ سُوءَ العذاب، أورثناهمُ الأرضَ بجَميعِ جهاتِها ونواحيها - ولعلَّ المقصودَ ما كانَ تحتَ مُلكِ أعدائهمْ منها، مصرُ والشامُ ونواحيها، فملَّكهمْ اللهُ إيَّاها ومكَّنهمْ منها - التي بارَكنا فيها بالخِصبِ وسَعَةِ الرِّزقِ وكَثرةِ النَّفع، وتَحقَّقَ ما وعدَ اللهُ بهِ بني إسْرائيلَ منَ النَّصرِ على الأعداءِ والتَّمكينِ في الأرض، بما صَبروا على دينِهمْ وكابَدوا الشَّدائدَ والعَذابَ مِنْ فِرعَونَ وقومِه.

ودمَّرنا ما كانَ يَصنعهُ فِرعَونُ وقومُهُ منَ القُصورِ والعمائرِ والمزارعِ في أرضِ مِصر، وما كانوا يُقيمونَ منْ هَيئاتِ مِظَلاّتٍ وسُقوفٍ في البسَاتين.

﴿وَجَٰوَزۡنَا بِبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ الۡبَحۡرَ فَأَتَوۡاْ عَلَىٰ قَوۡمٖ يَعۡكُفُونَ عَلَىٰٓ أَصۡنَامٖ لَّهُمۡۚ قَالُواْ يَٰمُوسَى اجۡعَل لَّنَآ إِلَٰهٗا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةٞۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمٞ تَجۡهَلُونَ﴾ [الأعراف:138]


وعبَرَ النبيُّ موسَى ببعضِ بني إسرائيلَ البَحر، فمَرُّوا بقومٍ يُلازِمونَ أصناماً ويَعبدونَها مِنْ دونِ الله، فقالوا لموسَى عليهِ السَّلامُ في جَهلٍ وغَفلة: يا موسَى، اجعلْ لنا تِمثالاً نَعبُده، يَعني نُعَظِّمهُ ونَتَقرَّبُ بتَعظيمهِ إلى الله! كما يَفعلُ هؤلاء.

فقالَ لهمْ موسى: إنَّكمْ قومٌ تَجهلونَ عَظَمةَ اللهِ وربوبيَّتَهُ وتَوحيدَه.

﴿إِنَّ هَـٰٓؤُلَآءِ مُتَبَّرٞ مَّا هُمۡ فِيهِ وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الأعراف:139]


إنَّ هؤلاءِ العاكِفينَ على هذهِ الأصنامِ هالِكٌ ما هُمْ فيه، وباطِلٌ زَائلٌ عملُهم، وإنْ قَصدوا بذلكَ التقرُّبَ إلى الله، فلا يَنفعُهمْ عَملُهمْ هذا أصْلاً.

﴿قَالَ أَغَيۡرَ اللَّهِ أَبۡغِيكُمۡ إِلَٰهٗا وَهُوَ فَضَّلَكُمۡ عَلَى الۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأعراف:140]


قالَ لهمْ موسَى عليهِ السَّلام: هلْ أطلبُ لكمْ مَعبوداً يَستَحِقُّ العبادةَ غيرَ اللهِ وهوَ الربُّ المعْبود، وقدْ فضَّلَكمْ على العالَمينَ في زمانِكم، فهلْ الذي تَطلبونَهُ الآنَ يوافِقُ مكانتَكمُ المفضَّلةَ ويناسِبُ سؤالَكم؟!

﴿وَإِذۡ أَنجَيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ الۡعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ﴾ [الأعراف:141]


وتذكَّروا كيفَ نجّاكمُ اللهُ منْ آلِ فِرعونَ بإهلاكِهم، وكانوا يُذيقونَكمْ أسوَأَ العَذابِ وأشَدَّه، فيَقتُلونَ مواليدَكمُ الذُّكور، ويُبقُونَ على بناتِكمْ للسُّخرةِ والخِدمة، وفي ذلكَ بلاءٌ لكمْ واختِبارٌ كبيرٌ منْ ربِّكم.

﴿۞وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ اخۡلُفۡنِي فِي قَوۡمِي وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِيلَ الۡمُفۡسِدِينَ﴾ [الأعراف:142]


وقدْ وعَدْنا موسَى أنْ نُكَلِّمَه، وأنْ نُنْزِلَ عليهِ كتابَ هدايةٍ وتَشريعٍ لبَني إسرائيل، فأمرناهُ بصيامِ ثلاثينَ يوماً، وأنْ يَزيدَ عليها عَشرةَ أيَّام، فاكتَملَ وقتُ وعدِ اللهِ لهُ أربعينَ ليلة.

فقالَ لأخيهِ هارونَ – النبيِّ - وهوَ يتهيَّأ للذَّهابِ إلى الجبلِ للمناجاة: كُنْ خَليفَتي في بَني إسْرائيلَ أثناءَ غيابي، وكُنْ مُرشِداً لهمْ إلى الطَّاعةِ والامتِثال، بالرِّفقِ والحِلمِ والإحسانِ ونبذِ الاختِلاف، ولا تُطِعْ سَبيلَ مَنْ سَلكَ الفسَادَ وعَصَى الله، ولا توافقْهُ على هَواه، بل اثبُتْ على ما فيهِ رضا الله، والتَزمِ الصِّراطَ المستَقيم.

﴿وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ انظُرۡ إِلَى الۡجَبَلِ فَإِنِ اسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأعراف:143]


ولمّا جاءَ موسَى في الوَقتِ المحدَّدِ له، وكلَّمَهُ ربُّه، قالَ عليهِ السَّلام: ربِّي أرِني أنظُرْ إليك، قالَ اللهُ تعالَى: لا قُدرةَ لكَ على رُؤيتي في الحياةِ الدُّنيا، ولكنِ انظُرْ إلى جبلِ (طُورِ) سَيناءَ الذي هوَ أقوَى منك، فإذا ثبتَ في مكانهِ ولم يُفتِّتْهُ التجلِّي فسوفَ تَراني. فلمَّا تجلَّى اللهُ سُبحانَهُ للجبلِ جَعلَهُ مَدكوكاً مُتفتِّتاً مُستوياً بالأرضِ، وسقطَ موسَى مَغشيًّا عليهِ مِنْ هَولِ ما رَأى، فلمّا أفاقَ مِنْ غَشيتهِ، قالَ تَعظيماً لأمرِ الله: سُبحانَكَ ما أعظَمك، إنِّي تُبتُ إليكَ مِنْ أنْ أسألكَ مِنْ غَيرِ إذن، أو أنْ أسألَكَ الرؤية، وأنا أوَّلُ المؤمِنينَ منْ بَني إسْرائيل.

﴿قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّي اصۡطَفَيۡتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي فَخُذۡ مَآ ءَاتَيۡتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّـٰكِرِينَ﴾ [الأعراف:144]


قالَ اللهُ تعالَى: يا موسَى، إنِّي اخترتُكَ على النَّاسِ الموجودينَ في زمانِك، بأنْ أنزلتُ عليكَ أسفارَ التَّوراة، وبتَكليمي إيّاك، فخُذْ ما أعطيتُكَ مِنْ شَرفِ الاصطفاءِ والتَّفضيل، واشكرْ للهِ جليلَ نِعمَتهِ عَليك.

﴿وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِي الۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡعِظَةٗ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ فَخُذۡهَا بِقُوَّةٖ وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ سَأُوْرِيكُمۡ دَارَ الۡفَٰسِقِينَ﴾ [الأعراف:145]


وكتَبنا لهُ في ألواحِ التَّوراةِ مِن كُلِّ ما أُمِروا به ونُهوا عنه، مَواعِظَ وأحكاماً مُفَصَّلة، مُبيِّنةً للحلالِ والحرام، والحُدودِ والأحكام، منْ أمرٍ ونَهي، ومِن كلِّ ما تَحتاجُ إليهِ الأمَّةُ في دينِها، فخُذها بجِدٍّ وعَزمٍ على الطَّاعة، وأمُرْ بَني إسرائيلَ أنْ يأخُذوا أحسنَ ما فيها، وهوَ ما أوجبَهُ اللهُ عليهمْ فيها وهَداهُمْ إليه، ممّا فيهِ خيرُهمْ ونجاتُهم.

وستَرونَ عاقبةَ مَنْ خالفَ أمري وخرجَ عنْ طاعَتي كيفَ يَكونُ مَصرَعُه، فاحترِزوا ولا تتَّبعوا طُرقَ أهلِ الفِسقِ الخارِجينَ عنِ الطَّاعة.

﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ الۡحَقِّ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ الرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ الۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ﴾ [الأعراف:146]


سأُبعِدُ عنْ دَلائل ِ عَظمتي وأحكامِ شَريعتي الذينَ يَتكبَّرونَ على عبادِي ويُحاربونَ أوليائي بغيرِ الحَق؛ عقوبةً لهمْ على عِنادِهمْ واستِكبارِهم، فلا يَنتَفِعونَ بآياتي الجليلة، التي يَستأهِلُها المؤمِنونَ المصَدِّقونَ وحدَهم.

فإذا شاهدَ المتكبِّرونَ المُعجِزاتِ والدَّلائلَ على أيدي رُسلي لم يؤمِنوا بها، وإذا رأوا طَريقَ النَّجاة، والهُدَى والسدَاد، لم يَسلُكوها.

وإذا رَأوا طَريقَ الهَلاكِ والضَّلالِ اختارُوها لأنفسِهمْ ولم يَتركوها، لموافقتِها أهواءَهمْ وشَهواتِهم، وهذا لأنَّهمْ كذَّبوا بأدلَّتِنا الواضِحَةِ الصَّادقة، وحُجَجِنا البيِّنةِ الكاشِفة، المؤدِّيةِ إلى الحقِّ واليَقين، وقدْ كانوا ساهينَ عنِ التفكيرِ فيها والاتِّعاظِ بها.

﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَلِقَآءِ الۡأٓخِرَةِ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡۚ هَلۡ يُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الأعراف:147]


والمكذِّبونَ بآياتِنا، المصِرُّونَ على الكُفرِ بها وبلقاءِ الدَّارِ الآخِرة، حيثُ موعِدُ الثوابِ والعِقاب، بَطَلَتْ أعمالُهمُ التي كانوا يَرجونَ الانتفاعَ بها، وهمْ لا يُجْزَونَ ولا يُحاسَبونَ إلاّ على ما كانوا عليهِ منَ الكُفرِ والمعاصي، التي استمرُّوا عليها.

﴿وَاتَّخَذَ قَوۡمُ مُوسَىٰ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِنۡ حُلِيِّهِمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٌۚ أَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّهُۥ لَا يُكَلِّمُهُمۡ وَلَا يَهۡدِيهِمۡ سَبِيلًاۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَٰلِمِينَ﴾ [الأعراف:148]


وبعدَ أنْ ذهبَ موسَى إلى مُناجاةِ ربِّهِ في الجَبل، صنعَ لهمْ رَجُلٌ منَ السَّامِرَةِ في غيابهِ مِنْ حُليٍّ وزِينةٍ صورةَ عِجْلٍ مُجَسَّداً، يَعني تِمثالاً على شَكلِه، وجَعلَهُ على هَيئةٍ بحيث يُخرِجُ صوتاً كصَوتِ البقَر، وقالَ لهم: هذا هوَ إلهكُم! فالتفَّ عليهِ القومُ وصَاروا يَعبدونَه!!

ألا يرَى هؤلاءِ الجهَلةُ الضالُّونَ أنَّ هذا التمثالَ لا يَقدِرُ على الكلام، ولا أنْ يُرشِدَهمْ إلى خَير!! لقدِ اتَّخذوا ما صَنعوهُ بأيديهمْ إلهاً يَعبدونَه، فكانوا كافِرين، وعلى مُنكَرٍ عَظيم.

﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِيٓ أَيۡدِيهِمۡ وَرَأَوۡاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمۡ يَرۡحَمۡنَا رَبُّنَا وَيَغۡفِرۡ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الۡخَٰسِرِينَ﴾ [الأعراف:149]


ولمّا نَدِموا على ما فَعلوا أشدَّ الندم، وعَلِموا أنَّهمْ كانوا على ضَلالٍ مُبينٍ في عِبادةِ العِجلَ، تابوا وأنابوا، وأدرَكوا أنَّهمْ قدِ اقتَرفوا إثماً كبيراً وعَملاً شَنيعاً، وقالوا: إذا لم يُدرِكنا ربُّنا برحمتهِ وعَفوِه، ويَتجاوَزْ عنْ خَطئنا ويتُبْ علينا، لنكونَنَّ منَ الهالِكين.