تفسير سورة الأعراف

  1. سور القرآن الكريم
  2. الأعراف
7

﴿الٓمٓصٓ﴾ [الأعراف:1]


حُروفٌ مُقَطَّعةٌ لم يَرِدْ في مدلولِها حديثٌ ثابتٌ صَحيح، وعلمُها عندَ الله.

﴿كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيۡكَ فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ مِّنۡهُ لِتُنذِرَ بِهِۦ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأعراف:2]


هوَ القُرآنُ الذي أنزلَهُ اللهُ عليكَ مِنْ عندِه، فلا يَكنْ عندكَ شَكٌّ في ذلك، أو لا يَكُنْ في صدرِكَ ضِيقٌ مِنْ تبليغهِ، ولا حرجٌ في الإنذارِ بهِ مَخافةَ أنْ يُكذِّبوك، ولِيَكونَ تذكيراً للمؤمِنين، يَنتفِعونَ به، ويَهتدونَ بهديه.

﴿اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف:3]


أيُّها الناس، اتَّبِعوا والتَزِموا ما أنزلَهُ اللهُ إليكمْ في القُرآن، ولا تُقبِلوا على غَيرِه، ممَّنْ يَبتَغونَ إضلالَكُمْ بأهوائهم، ويُلقونَ إليكُمْ أباطيلَهم؛ لتَنحَرِفوا عنْ جادَّةِ الحقّ، وأنتُمْ قليلاً ما تَعمَلونَ بهذا، فتَتركونَ الحقَّ وتَتوجَّهونَ إلى غيرِه!

﴿وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف:4]


وكثيرةٌ هي المدنُ والقُرَى التي دمَّرناها على أهلِها، لمخالفتِهمْ رسُلَنا وتكذيبِهمْ إيّاهم، وإصرارِهمْ على أباطيلِهم، فمنهمْ مَنْ حقَّ عليهمُ العذابُ فنزلَ بهمْ ليلاً وهمْ ساكِنون، ومنهمْ مَنْ نزلَ بهمُ العذابُ في وَقتِ القَيلولةِ وهمْ مُستَريحون. وكِلا الوَقتينِ وقتُ غَفلةٍ ورَاحة.

﴿فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ﴾ [الأعراف:5]


وكانَ مقالُهمْ عندما نزلَ بهمُ العذابُ وقدْ اعتَرفوا بذَنبِهم، وهمْ يَطمعونَ بذلكَ الخلاصَ منَ العَذاب: لقدْ كنّا مسيئينَ إلى أنفُسِنا، مخالِفينَ لأمرِ ربِّنا، ونحنُ مستَحِقُّونَ العقُوبة.

﴿فَلَنَسۡـَٔلَنَّ الَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ الۡمُرۡسَلِينَ﴾ [الأعراف:6]


وسَوفَ نسألُ الأممَ يومَ القيامةِ عمّا أجابوا رُسُلَهم، وسوفَ نَسألُ المرسَلينَ عنْ تبليغِ رسالتِهم، وما الذي أجابتْهُ أقوامُهم.

﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيۡهِم بِعِلۡمٖۖ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ [الأعراف:7]


ونُخبِرُ كلَّ الناسِ عنْ عِلم، ونبيِّنُ لهمْ ما قالوهُ وما عَمِلوه، منْ خَيرٍ وشَرّ، قليلاً كانَ أو كثيراً، فاللهُ محيطٌ بأحوالِهم، لا يَغيبُ شَيءٌ منها عنْ علمِه.

﴿وَالۡوَزۡنُ يَوۡمَئِذٍ الۡحَقُّۚ فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡمُفۡلِحُونَ﴾ [الأعراف:8]


ووزنُ الأعمَال، والتَّمييزُ بين الصالحِ منها والفاسدِ يومَ الحساب، حقٌّ ثابتٌ عَدْل، فمنْ رَجَحَتْ كِفَّةُ مَوازينهِ بالحسَنات، فقدْ فَازوا بالنَّجاةِ والثواب.

﴿وَمَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَظۡلِمُونَ﴾ [الأعراف:9]


ومنْ رَجَحَتْ كِفَّةُ موازينهِ بالسيِّئات، فهمُ الذينَ خَسِروا أنفسَهم، نادمينَ مُتحَسِّرينَ على ما فاتَهمْ منَ الثَّوابِ والنَّعيم، وعلى ما لَحِقِهمْ منَ العَذابِ الأليم، وهذا لأنَّهمْ كانوا يَجحَدونَ بحُجَجِنا وأَدلَّتِنا، ويُكذِّبونَ رسُلَنا.

﴿وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰكُمۡ فِي الۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ﴾ [الأعراف:10]


وقدْ جعلنا لكمُ الأرضَ مكاناً وقراراً، وجعلنا لكمْ فيها ما بهِ تَعيشونَ، مِنْ مكاسِبَ ومَطاعِمَ ومَشارِبَ وتِجارات، وكلُّ ما في الأرضِ هو مِنْ نِعمةِ اللهِ عليكم، ومعَ ذلكَ فأنتُمْ قَليلو الشُّكرِ له.

﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ اسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ السَّـٰجِدِينَ﴾ [الأعراف:11]


وقدْ خلَقنا أصلَكمْ آدمَ مِنْ تُراب، ثمَّ صوَّرناهُ بَشَراً، ثمَّ نفَخنا فيهِ مِنْ روحِنا، ثمَّ قُلنا للملائكة: اسجُدوا لآدمَ سَجدةَ تَكريم، وهيَ تَعظيمٌ لشأنِ اللهِ تعالَى وجلالِه، فسجَدوا كلُّهم وأطاعوا، إلاّ إبليسَ عصَى وأبَى أنْ يَسجُد.

﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ﴾ [الأعراف:12]


قالَ اللهُ تعالى لإبليسَ ما تَفسيره: ما الذي منعكَ أنْ تَسجُدَ لآدمَ كما أمرتُك؟

قال: أنا أفضلُ وأحسَنُ مِنْ آدم، فقدْ خلقتَني مِنْ نار، وخلقتَهُ مِنْ طين، والنارُ أشرفُ مِنَ الطِّين، فلماذا أسجدُ له؟.

وكانَ قياسهُ فاسِداً، وعِصيانهُ ظاهراً، فالفَضلُ لمنْ جعلَ اللهُ لهُ الفَضل، والشَّريفُ مَنْ شرَّفَهُ الله، وقدْ شرَّفَ اللهُ آدمَ فنفخَ فيهِ مِنْ روحه، وأمرَ ملائكتَهُ أنْ يَسجُدوا لهُ تَشرِيفاً له، والطِّينُ أفضلُ منَ النَّار، ففيهِ الرَّزانة، والحِلمُ والصَّبر، وهوَ محلُّ النَّباتِ والنموّ، والزيادةِ والإصلاح، والنارُ مِنْ شأنِها الإحراقُ والطَّيش، والجُرأةُ والسُّرعة؛ ولهذا كانَ الشَّيطانُ طائشاً خائناً، شَقيّاً عاصِياً لخالقِه، ولذلكَ استَحقَّ ما يأتي.

﴿قَالَ فَاهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ الصَّـٰغِرِينَ﴾ [الأعراف:13]


قالَ اللهُ تعالَى لإبليسَ اللَّعينِ ما مَعناه: اخرُجْ منَ الجنَّة، فلا يَصِحُّ لكَ أنْ تبقَى فيها وقدِ استَكبرتَ عنْ أمري بالسُّجودِ لآدم، فاخرُجْ منها ذَليلاً حَقيراً مُهاناً.

﴿قَالَ أَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ﴾ [الأعراف:14]


قالَ إبليسُ لرَبِّه: أمهِلني ولا تُمِتني في الحياةِ الدُّنيا حتَّى يومِ البَعث.

﴿قَالَ إِنَّكَ مِنَ الۡمُنظَرِينَ﴾ [الأعراف:15]


قالَ اللهُ تعالى ما مَعناه: قدْ أمهلتُك وأخَّرتُكَ إلى ذلكَ اليوم، لحكمةٍ أمتَحِنُ بكَ عبادي.

﴿قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ الۡمُسۡتَقِيمَ﴾ [الأعراف:16]


قالَ إبليسُ لربِّه في عِنادٍ وتبجُّح: فبما أضللتَني وأهلكتَني لأُضِلَّنَّ ولأَهلِكَنَّ أولادَ آدمَ هذا الذي فضَّلتَهُ عليّ، ولأَجْلِسَنَّ في طريقِكَ المستَقيمِ التي رسمتَها لهمْ لتوصِلَهمْ بها إلى الجنَّة؛ ترصُّداً للإيقاعِ بهم.

﴿ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ﴾ [الأعراف:17]


ثمَّ لأُضِلنَّهم، فأشَكَّكَنَّهُمْ في الإيمانِ بيومِ الحِساب، ولأُرَغِّبنَّهمْ في دُنياهمْ بما فيها منْ شَهواتٍ ومزيِّنات، ولأشبِّهنَّ عليهمْ أمرَ دينِهمْ حتَّى يَكفُروا ويَفسُقوا، ولأَشَهِّينَّهمْ في المعاصي والمآثمِ ليقتَرِفوها، حتَّى لا تَجدَ أكثرَهمْ مؤمِنينَ بك، مُطيعينَ لك(42).

(42) كما ضُرِبَ المثلُ لهيئةِ الحرصِ على الإغواءِ بالقعودِ على الطريق، كذلك مُثِّلتْ هيئةُ التوسلِ إلى الإغواءِ بكلِّ وسيلةٍ بهيئةِ الباحثِ الحريصِ على أخذِ العدوّ، إذ يأتيهِ من كلِّ جهةٍ حتّى يصادفَ الجهةَ التي يتمكَّنُ فيها من أخذه، فهو يأتيهِ من بين يديه، ومِن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، حتّى تخورَ قوَّةُ مدافعته، فالكلامُ تمثيل، وليس للشيطانِ مسلكٌ للإنسانِ إلاّ من نفسهِ وعقله، بإلقاءِ الوسوسةِ في نفسه، وليستِ الجهاتُ الأربعُ المذكورةُ في الآيةِ بحقيقه، ولكنّها مجازٌ تمثيليٌّ بما هو متعارفٌ في محاولةِ الناسِ ومخاتلتهم.. (التحرير والتنوير).

﴿قَالَ اخۡرُجۡ مِنۡهَا مَذۡءُومٗا مَّدۡحُورٗاۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [الأعراف:18]


قالَ اللهُ تعالَى لإبليسَ اللَّعينِ تَفسيرًا: اخرُجْ منَ الجنَّةِ مَذموماً مُهاناً، مُبْعَداً مَطروداً، ومَنِ اتَّبعكَ مِنْ بني آدمَ يكونُ مصيرُهمْ مصيرَك، فلأملأنَّ جهنّمَ منكَ ومِنْ ذرِّيتِك، ومنْ كفّارِ ذرِّيةِ آدمَ أجمعين.

﴿وَيَـٰٓـَٔادَمُ اسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ الۡجَنَّةَ فَكُلَا مِنۡ حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [الأعراف:19]


يا آدمُ اسْكُنْ أنتَ وزوجتُكَ حوّاءُ الجنَّة، وكُلا مِنْ جميعِ ثمارِها الطيِّبة، ولكنْ لا تَطْعَما هذهِ الشَّجرة، وحدَّدَها لهما؛ فتَصيرا بذلكَ منَ الذينَ ظَلموا أنفسَهم، واستحقُّوا العَذاب.

﴿فَوَسۡوَسَ لَهُمَا الشَّيۡطَٰنُ لِيُبۡدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِيَ عَنۡهُمَا مِن سَوۡءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنۡ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيۡنِ أَوۡ تَكُونَا مِنَ الۡخَٰلِدِينَ﴾ [الأعراف:20]


فحسدَهما الشَّيطان، وألقَى في قلبَيهِما بوسوستهِ ومكرهِ عِصيانَ أمرِ ربِّهما، ليترتَّبَ على ذلكَ ظُهورُ ما غُطِّيَ مِنْ عوراتِهما، وقالَ لهما في خُبثٍ وحِقدٍ وكذِب: إنَّ اللهَ منعكما مِنْ أكلِ هذهِ الشجرةِ حتَّى لا تكونا مِنَ الملائكة، أو لئلاّ تَخلُدا في الجنَّة.