﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ الۡحِسَابِ﴾ [الرعد :21]
ومِنْ صِفاتِ المؤمِنينَ الإحسانُ إلى أهليهِمْ وإخوانِهمْ وطِيبُ مُعاشَرتِهم، فيَصِلونَ أرحامَهمْ ولا يَقطَعونَها، ويُحسِنونَ إلى أهلِ الحاجَة، ويَتكافَلونَ معَ إخوانِهمُ المسلِمينَ في أنْواعِ البِرِّ والمَعروف، ويَخافونَ وعيدَ اللهِ بحَقّ، فلا يَقرَبونَ ما نهَى عنهُ وزجَر، ويَخافونَ عُسْرَ الحِسابِ يومَ المـَعاد، ويَعرِفونَ مآلَ المُخالِفِ والمُرتَاب.
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ وَيَدۡرَءُونَ بِالۡحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى الدَّارِ﴾ [الرعد :22]
وهمُ الذينَ قَوِيَتْ عَزائمُهم، فصبَروا على التَّكاليفِ التي أُمِروا بها، وصبَروا عمّا نُهوا عنه، كما صبَروا على الجِهادِ والدَّعوة، وعلى البَلاء، وفي السرَّاءِ والضرَّاء، وهذَّبوا شَهواتِهمُ النفسيَّةَ والبدنيَّةَ بتَوجيهاتِ الدِّينِ الحَنيف، ولم يَنتَقِموا لأنفسِهمْ عنْ هوًى وعَصَبيَّة، بلْ صَبَّروا أنفُسَهمْ وتأدَّبوا بأدَبِ الإسْلام، طَلبًا لرِضاءِ الله، وطَمَعًا في جَزيلِ ثوابِه.
وأقاموا الصَّلاة، فواظَبوا عليها وأدَّوها بأرْكانِها وشُروطِها وفي مَواقيتِها.
وأدَّوا زَكاةَ أمولِهم، وأنفَقوا ممّا وهبَهمُ اللهُ مِنْ مالٍ للمُحتاجينَ فقضَوا حوائجَهم، وأسهَموا في أعمالِ الخَيرِ فتصَدَّقوا سِرًّا وجَهرًا، لا يَمنعُهمْ مِنْ ذلكَ شَيء.
ويُجازُونَ الإسَاءةَ بالإحسَان، ويَدفَعونَ الشرَّ ما استَطاعُوا، ويَدرَؤونَ الأذَى والقَبيحَ مِنَ القَولِ والفِعلِ بخُلُقٍ جَميل، وكَلمَةٍ طيِّبة، وعَفو.
فأولئكَ المُتَّصِفونَ بتِلكَ الصِّفاتِ الجَليلَة، لهمُ العاقِبَةُ الحسَنة، والمَرجِعُ الطيِّبُ في الآخِرَة.
﴿جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّـٰتِهِمۡۖ وَالۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَدۡخُلُونَ عَلَيۡهِم مِّن كُلِّ بَابٖ﴾ [الرعد :23]
لهمْ جَنَاتٌ مُخَصَّصَةٌ للإقامةِ والاستِقرارِ الدَّائم، يَهنَؤونَ فيها ويَسعَدون، يُجْمَعُ فيها بينَهمْ وبينَ الصَّالِحينَ مِنْ أهليهِم: آبائهم، وأمَّهاتِهم، وأزواجِهم، وأبنائهم، وأحفادِهم، لتَقِرَّ أعينُهم، ويَزدادَ فرَحُهم، والمَلائكةُ يَدخُلونَ عَليهمْ مِنْ أبوابِ قُصورِهم، يُهَنِّئونَهمْ بدُخولِ الجنَّة.
﴿سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى الدَّارِ﴾ [الرعد :24]
ويَقولونَ لهمْ وهُمْ يَطوفونَ بهمْ في لِقاءٍ حافِلٍ وتَكريمٍ جَميل: "سلامٌ عَليكم"، بِشارَةً لهمْ بدَوامِ السَّلامَةِ والأمَان، في دارِ السَّلام، بجِوارِ الصِّدِّيقينَ والأنبياءِ والرسُلِ الكِرام، جَزاءَ صبرِهمْ على طَاعةِ ربَّهم، فنِعمَتِ العاقِبةُ الحسَنةُ الجِنانُ العالية، والإقامَةُ الدائمةُ فيها.
﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ اللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي الۡأَرۡضِ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمُ اللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ الدَّارِ﴾ [الرعد :25]
أمّا الأشقياء، الذينَ يَنقُضونَ عَهدَ اللهِ بعدَما عَرَفوه، بما أكَّدَهُ عَليهمْ رُسلُهم، أو عرَفوهُ بالأدِلَّةِ والحُجَجِ المُقنِعَة، ولكنْ قابَلوها بالإعْراضِ والاستِكبار، ويَقطَعونَ ما أمرَ اللهُ بهِ أنْ يوصَل، ممّا بينَهمْ وبينَ ربِّهمْ بالإيمان، وبينَهمْ وبينَ أهليهمْ بصِلَةِ الأرْحام، وبينَهمْ وبينَ مُجتَمعِهمْ بالنُّصحِ والتَّعاونِ على الخَيرِ والإصْلاح، ويُفسِدونَ في الأرضِ بالكُفر، والظُّلم، ومُعاداةِ الدِّينِ الحقّ، وإثارةِ الفِتَنِ والحُروب، ونَشرِ الرَّذيلَةِ والخَلاعَة، وتَضليلِ النَّاسِ بهدَفِ مَصالِحَ شَخصيَّة، فأولئكَ مَذمُومُونَ مُبعَدونَ مِنْ رَحمَةِ الله، ولهمْ سُوءُ العاقِبةِ والمآل، ومأواهُمْ جَهنَّمُ وبئسَ القَرار.
﴿اللَّهُ يَبۡسُطُ الرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ وَفَرِحُواْ بِالۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا وَمَا الۡحَيَوٰةُ الدُّنۡيَا فِي الۡأٓخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٞ﴾ [الرعد :26]
اللهُ سُبحانَهُ يوَسِّعُ الرِّزقَ على مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ في الحَياةِ الدُّنيا، ويُضَيِّقُ على مَنْ يَشاءٌ منهم، وفَرِحَ المُشرِكونَ بالحَياةِ الدُّنيا ومَتاعِها، وأشِروا وبَطِروا، وبَسْطُ الرزْقِ ليسَ تَكريمًا لهم، بلِ هوَ استِدراجٌ وإمْهَال، ثمَّ مُحاسَبةٌ وعِقاب، وما الحياةُ الدُّنيا بالنسبةِ إلى نَعيمِ الآخِرَةِ ودوامِها، إلاّ مُتعَةٌ قَليلَةٌ سَريعةُ النَّفاد، ولو أنَّهمْ طَلبوا الآخِرَةَ لمَا مُنِعوا المالَ والرِّزق.
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ﴾ [الرعد :27]
ويَقولُ الكافِرونَ المُتَعَنِّتونَ - مِنْ أهلِ مَكَّة - هلاّ أُنزِلَتْ على مُحمَّدٍ (صلى الله عليهِ وسلَّم) مُعجِزَةٌ خارِقَةٌ مِنْ رَبِّه؟ وهمْ يَسألونَ أكثرَ مِنْ مُعجِزَة، تَعجيزًا ومُكابرَةً لا استِعدادًا للإيمان، وفي سُورةِ الإسْراءِ نَماذِجُ مِنْ مطالبِهم، في قَولهِ تعالَى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً . أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}.
واللهُ قادِرٌ على ذلكَ لا يُعجِزُهُ شَيء، وهوَ سُبحانَهُ إذا أجابَ طلبَهمْ ثمَّ كفَروا أهلكَهم. وليسَتِ الهِدايَةُ والضَّلالةُ متَوَقِّفتَينِ على الآياتِ والمُعجِزات، فلهما دَواعٍ في النُّفوس، وأسبابٌ تؤدِّي إليهِما. وهؤلاءِ المُكابِرونَ مُكَذِّبونَ مُستَهزِئون، واللهُ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ممَّنْ يَستأهِلونَ الضَّلال، كهؤلاءِ الكُفّارِ المُعانِدين، ويَهدي إليهِ مَنْ تَقبَّلَ الحقَّ وأنابَ إلى الربِّ مِنَ المؤمِنين، فهمْ أهلٌ للهِدايةِ والإيمان، لأنَّهمْ يتَّبِعونَ الحقَّ ولا يُكابِرون، ويَرجِعونَ إلى اللهِ وبهِ يَستَعينون.
﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ اللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ اللَّهِ تَطۡمَئِنُّ الۡقُلُوبُ﴾ [الرعد :28]
همُ الذينَ ثبتَ الإيمانُ في قُلوبِهم، فتَطِيبُ وتَسكُنُ بذِكرِ اللهِ وكَلامِهِ المُعجِز، وتَرضَى بهِ إلهاً رحيمًا ومولًى كريمًا، ألا بذِكرِ اللهِ وحدَهُ تَطمَئنُّ القُلوب، وتَرتاحُ النُّفوسُ المؤمِنة، دونَ غَيرِهِ مِنَ الأمُورِ الدُّنيَويَّة.
﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَـَٔابٖ﴾ [الرعد :29]
همُ الذينَ آمَنوا باللهِ حَقَّ الإيمان، وأتْبَعوا إيمانَهمْ بالعمَلِ الصَّالحِ الذي يُرضِي الرَّحمن، فبُشرَى لهم، أصابُوا خَيرًا، ومَآلاً حسَنًا، ومُقامًا هَنيئاً.
﴿كَذَٰلِكَ أَرۡسَلۡنَٰكَ فِيٓ أُمَّةٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَآ أُمَمٞ لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ الَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِالرَّحۡمَٰنِۚ قُلۡ هُوَ رَبِّي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ مَتَابِ﴾ [الرعد :30]
وكما أرسَلنا رُسُلاً قَبلَكَ أيُّها النبيّ، كذلِكَ أرسَلناكَ في هذهِ الأمَّةِ - وقدْ مضَتْ مِنْ قَبلِها أُمَمٌ كثيرَة - لتَقرَأ عَليهمُ القُرآنَ العَظيم، وتُبلِّغَهمْ رسالَةَ الله، وهمْ يَكفُرونَ باللهِ ذي الرَّحمةِ الواسِعة، والنعمَةِ السَّابِغة، الذي أرسَلكَ إليهمْ ليُنقَذوا بكَ منَ النَّار، ولكنَّهمْ قابَلوا رَحمتَهُ ونِعمتَهُ بالكُفرِ والتَّكذيب.
قُلْ لهمْ أيُّها الرسُولُ الكريم: إنَّ رَبِّيَ الرَّحمن، لا إلهَ غَيرُه، ولا مُستَحِقَّ للعِبادةِ سِوَاه، ومَهما كفَرتُمْ بهِ وكذَّبتُمْ بآلائهِ فلا مَحِيْدَ عنْ هذهِ الحقيقَة، عَليهِ اعتَمدتُ، وإليهِ فوَّضتُ جَميعَ أمُوري، وإليهِ أرجِعُ وأُنيب.
﴿وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ الۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ الۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ الۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ الۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ اللَّهِۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخۡلِفُ الۡمِيعَادَ﴾ [الرعد :31]
ولو أنَّ كِتابًا زُعزِعَتْ وسُيِّرَتْ بهِ الجبالُ عنْ أماكنِها، أو شُقِّقَتْ بهِ الأرضُ فتَصَدَّعَت، أو كُلِّمَ بهِ الموتَى في قُبورِهمْ فأحياهُمْ بقِراءَتِه، لكانَ هذا القُرآنُ هوَ المُتَّصِفَ بذلكَ دونَ غَيرِه، لِما فيهِ منَ الإعجاز، وعَجائبِ آثارِ قُدرَةِ اللهِ وهَيبتِه. ولكنَّ اللهَ أرادَ لهُ أنْ يكونَ كتابَ هِدايَةٍ يُخاطِبُ الأحياءَ العُقَلاء.
وحَقًّا لقدْ صنعَ القُرآنُ أُمَّةً عَظيمة، ونَقلَ شُعوبًا مِنْ ظُلُماتِ الجَهلِ إلى نُورِ العِلمِ والإيمان، والعِزِّ والنَّصرِ والأمَان... ومازالَ كذلكَ لو جُعِلَ دُستورًا في الحياة.
ومَرجِعُ الأمورِ كُلِّها إلى اللهِ وحدَه، فهوَ الذي يَهدي مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِه ويُضِلُّ مَنْ يَشاء، ويَحكمُ بما يُريدُ في الكونِ كُلِّه، فهوَ المتصَرِّفُ فيه، ولا مُعَقِّبَ لحُكمِه.
ولو أرادَ اللهُ أنْ يَهديَ النَّاسَ جَميعًا لهَداهُمْ فكانوا كالملائكةِ الذينَ جُبِلوا على الطَّاعة، ولكنَّهُ سُبحانَهُ خَلقَ في الإنسَانِ عَقلاً وإرادَة، ووَهبَهُ الاختِيارَ بعدَ أنْ أعطاهُ المَقدِرَةَ على التَّمييزِ بينَ الخَيرِ والشرّ. فهلْ ما يزالُ المؤمِنونَ يَطمَعونَ بإيمانِ النَّاسِ كُلِّهم؟ فَلْيَترُكوهمْ لأمرِ اللهِ إذاً، فهوَ أعلمُ بالكافِرينَ وبقُلوبِهمُ المَريضَة، وأعمالِهمُ الخَبيثة، فليسَ هناكَ أبلَغُ ولا أعظمُ منَ القُرآنِ الذي بينَ أيديهم، فهوَ حُجَّةُ اللهِ بينَ خَلْقِه، فمَنْ تركَهُ ولم يَهتَدِ بهِ فأنَّى لهُ الهِداية؟
ولاتَزالُ المصائبُ والدَّواهي وأنواعُ البَلاءِ تَنزِلُ بالكافِرين، منَ القَتلِ والأسْرِ والسَّلبِ والقَحْط، لتَماديهِمْ في الكُفرِ واستِكبارِهمْ عنِ اتِّباعِ الدِّينِ الحقّ، عسَى أنْ يَتنَبَّهوا بذلكَ ويَرتَدِعوا. أو تَنزِلُ المصائبُ بمَنْ حولَهمْ فتُرَوِّعُهمْ وتُزَلزِلُ قُلوبَهم، ليَتَّعِظوا ويَعتَبِروا، حتَّى يأتيَ وعدُ اللهِ الذي أمهَلَهمْ إلى حينِه، فيَموتوا، أو يَقومُوا للحِساب. واللهُ لا يُخلِفُ وَعدًا، بلْ هوَ أوفَى مَنْ وفَّى بوَعَدٍ وعَهد، وهوَ آتيهِمْ لا رَيبَ فيه، فليَختاروا ما شَاؤوا، فإنَّهمْ مُحاسَبونَ على اختِيارِهم، وعلى أعمالِهم.
﴿وَلَقَدِ اسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبۡلِكَ فَأَمۡلَيۡتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [الرعد :32]
وقدِ استَهزَأَ أقوامٌ سابِقَونَ برسُلِهمْ وكذَّبوا برِسالاتِهم، فلستَ وحدَكَ المُكَذَّبَ بذلك، وقدْ أمهَلتُهمْ مُدَّةً منَ الزَّمان، لئلاّ تَبقَى لهمْ حُجَّةٌ عندَ اللهِ يومَ القيامَةِ ويَقولوا: هلاّ أعطَيتَنا فُرصَةً أطولَ لنفَكِّرَ ونُقارِن؟ ثمَّ أخَذتُهمْ بالعُقوبة، فكيفَ كانتْ عُقوبَتي لهم؟ كانتْ شَديدَةً مُؤلِمَة {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [سورة هود: 102] فليَحذَرِ المشرِكونَ منْ قَومِك، وليَعتَبِروا.
﴿أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي الۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ الۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ﴾ [الرعد :33]
أفمَنْ كانَ رَقيبًا على كُلِّ نَفس، ومُهَيمِنًا عَليها في كُلِّ حَال، عالِمًا بما فعَلتْ مِنْ خَيرٍ وشَرّ، في السِّرِّ والعَلَن، وهوَ اللهُ سُبحانَه، كمَنْ ليسَ بهذهِ الصِّفَة، مِنَ الأصْنامِ التي يَعبدُها المشرِكون، وهيَ لا تُحَرِّكُ ساكِنًا، ولا تَنفَعُ نَفسَها ولا عابدِيها، ومعَ ذلكَ فهمْ يَعبدُونَها ويُحِبُّونَها ويُقَدِّمونَ لها الذَّبائحَ والنُّذور؟!
قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: سَمُّوا أصنامَكمْ بما شِئتُم، مِنْ آلهَةٍ أو غَيرِها، فإنَّها ليسَتْ في حقيقَتِها سِوَى أحجارٍ لا تَضُرُّ ولا تَنفَعُ أحدًا، أمْ أنَّكمْ أيُّها المشرِكونَ تُريدونَ أنْ تُخبِروا اللهَ بوجُودِ شُركاءَ لهُ في الأرضِ وهوَ لا يَعلم؟ أمْ أنَّكمْ تُسَمُّونَهمْ شُركاءَ في ألفاظٍ ظاهِرةٍ جَوفاءَ لا مَعنَى لها حَقيقَة؟
بلْ سوَّلَتْ لهمْ نُفوسُهمْ تَزيينَ هذا الشِّرك، وحبَّبَتْ إليهمْ تَمويهَ هذهِ الأباطيلِ حتَّى ظَنُّوها حَقيقَة، فوصَلوا إلى دَرجَةِ عِبادَتِها، والدِّفاعِ عَنها، وامتَنعوا عنِ اتِّباعِ الطَّريقِ الحقّ، لتَمادِيهمْ في الضَّلال، وإغواءِ الشَّيطانِ لهم، حتَّى خُتِمَ على قُلوبِهم، فلا يَرونَ شَيئاً إلاّ الكُفر؟! ومَنْ أضَلَّهَ اللهُ لنُفورِهِ مِنَ الحقّ، فلا هاديَ لهُ إليه، ولا قائدَ لهُ إلى النُّور.
﴿لَّهُمۡ عَذَابٞ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَاۖ وَلَعَذَابُ الۡأٓخِرَةِ أَشَقُّۖ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٖ﴾ [الرعد :34]
للكافِرينَ عَذابٌ مؤلِمٌ في الحَياةِ الدُّنيا، عندما يَنتَصِرُ عَليهمُ المسلِمونَ فيَقتُلونَهمْ ويأسِرونَهم، ويَغنَمونَ أموالَهم، ولهمْ في الآخِرَةِ عذابٌ أشَدُّ وأبقَى، عندَما يَدخُلونَ جَهنَّمَ فتُسْعَرُ بهمُ النَّار، وليسَ هناكَ مانِعٌ وحاجِزٌ يَقيهمُ العَذاب، ولا يَشفَعُ لهمْ عِندَهُ أحَد.
﴿۞مَّثَلُ الۡجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الۡمُتَّقُونَۖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُۖ أُكُلُهَا دَآئِمٞ وَظِلُّهَاۚ تِلۡكَ عُقۡبَى الَّذِينَ اتَّقَواْۚ وَّعُقۡبَى الۡكَٰفِرِينَ النَّارُ﴾ [الرعد :35]
أمّا المؤمِنونَ المُتَّقون، فقدْ وُعِدوا مِنَ اللهِ بجنَّةٍ تَجرِي الأنهارُ مِنْ تحتِ قُصورِهمْ وغُرَفِهمُ الجَميلَةِ العَالية، في مَناظِرَ وأوصافٍ لم يُرَ مِثلُها شَكلاً وجَمالاً في الدُّنيا، تَسرُّ العَين، وتُبهِجُ النَّفس، معَ فواكِهَ وأطعِمةٍ وأشرِبةٍ لذيذَةٍ لا نفادَ لها، وظِلالٍ مَمدودَةٍ لا تَنقَطِع، كثيرةِ البَساتينِ وأنواعِ الأشْجارِ والثِّمار، وتلكَ هيَ نهايَةُ المؤمِنينَ الذينَ صبَروا على دينِهم وطاعَةِ ربِّهم. والكافِرونَ مَآلُهمُ النار، وبئسَ المَصير.
﴿وَالَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ الۡكِتَٰبَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَۖ وَمِنَ الۡأَحۡزَابِ مَن يُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ قُلۡ إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ اللَّهَ وَلَآ أُشۡرِكَ بِهِۦٓۚ إِلَيۡهِ أَدۡعُواْ وَإِلَيۡهِ مَـَٔابِ﴾ [الرعد :36]
ومُؤمِنو أهلِ الكتابِ منَ اليَهودِ والنَّصارَى يُسَرُّونَ بالوَحي المُنْزَلِ إليكَ منَ الله، لِما يَرَونَ منَ المُطابقَةِ بينَ القُرآنِ وما بَشَّرَتْ بهِ التوراةُ والإنجيل، مِنْ أنَّهُ الكتابُ الحقّ. وأنكرَتْ طَوائفُ منهمْ بعضَ القُرآن، ومِنْ ذلكَ التَّشريعاتُ الجَديدَةُ التي لم تَكنْ عِندَهم. وكذلكَ المشرِكونَ المُتَحَزِّبونَ على رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالعَداوة، كانوا يُنكِرونَ منهُ ما يُخالِفُ تَقاليدَهمْ وما وَرِثوهُ عنْ آبائهم.
قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: إنَّما بُعِثتُ بالوَحدانيَّة، فأُمِرتُ بعِبادةِ اللهِ وحدَه، وعَدَمِ الإشراكِ به، كما أُرسِلَ بهِ الأنبياءُ السَّابِقون، لا كما أنتُمْ عَليه. وإلى نَهجِ التوحيدِ أدعو النَّاسَ كافَّة، وإلى اللهِ وحدَهُ مَرجِعي ومَصيري للجَزاء.
﴿وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ حُكۡمًا عَرَبِيّٗاۚ وَلَئِنِ اتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا وَاقٖ﴾ [الرعد :37]
وكما أنزَلنا كتُبًا على أنبياءَ سابِقين، كذلكَ أنزَلنا عليكَ القُرآنَ المُحْكَمَ أيُّها النبيّ، يَحكمُ بالحَقِّ والعَدل، بلِسانٍ عربيٍّ فصيحٍ واضِح.
وإذا اتَّبعتَ أهواءَ الكافِرينَ الزائغَة، وأضاليلَهمُ الزائفَة، بعدَما جاءَكَ العِلمُ اليَقين، والحقُّ المُبِينُ مِنَ الله، فلنْ يَكونَ لكَ ناصِرٌ منَ اللهِ ولا حافِظٌ منهُ يَقِيكَ مَصارِعَ السُّوء.
وحاشَا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم منَ الانحِراف، ولكنَّهُ قَطْعٌ لأطْماعِ الكافِرينَ منَ التنازُلِ لهمْ عنْ شَيءٍ يَخصُّ الحقَّ والتَّوحيد، وتَحذيرٌ للمؤمِنينَ ممّا حُذِّرَ منهُ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِ رَبِّه، ووَعيدٌ لأهلِ العِلمِ منِ اتِّباعِ أهلِ الضَّلالة.
﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَذُرِّيَّةٗۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ اللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَابٞ﴾ [الرعد :38]
وقدْ أرسَلنا قَبلكَ رسُلاً منَ البشَرِ أيضًا، وكانوا مِثلكَ لهمْ أزواجٌ وأوْلاد، فلمَاذا الاعتِراضُ على بَشَرِيَّتِك؟ لماذا يُريدونَ رسُولاً منَ الملائكةِ وقدْ كانتِ الرسُلُ مِنْ قَبلُ كلُّهمْ منَ البَشَر، ولم يبعَثِ اللهُ مَلَكًا واحِدًا بالرِّسَالة؟
أمّا مُعجِزاتُهم، فلم تَكنْ بأمرِهمْ ولا منْ صُنعِهم، إنَّما يأتي بها اللهُ متَى شَاء، وُفقَ ما تَقتَضيهِ حِكمَتُهُ ومَشيئَتُه.
والكتُبُ المُنْزَلَةُ مِنْ عندِ اللهِ تَختَلِفُ أحكامُها، لأنَّها شُرِعتْ حسَبَ أحْوالِ الناسِ وأزمانِهم، وقدْ نزَلتْ في أوقاتٍ مُتفاوِتة، ولكُلِّ وقتٍ كتابٌ يُناسِبُه، وما يُناسِبُ النَّاسَ في هذا الزَّمانِ إلى أنْ يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عَليها هوَ القُرآنُ وحدَه.
﴿يَمۡحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ الۡكِتَٰبِ﴾ [الرعد :39]
واللهُ سُبحانَهُ يَنسَخُ ما يَشاءُ منَ الأحكامِ لِما تَقتَضيهِ الحِكمةُ مِنْ أحْوالِ النَّاسِ وتَطوُّرِ أمُورِهمْ وانتِقالِهمْ منْ حالٍ إلى حال، ويُبقي ما هوَ نافِعٌ لهمْ على حالِه. وعندَهُ أصلُ الكتاب - وهوَ اللَّوحُ المَحفوظُ - الذي كتَبَ فيهِ مقاديرَ الأشياءِ كُلِّها، لا يُبَدَّلُ ولا يُغيَّرُ ممَّا هوَ فيهِ شَيء. وهوَ سُبحانَهُ الحَكيمُ العَليم، يَقضي ويُقَدِّرُ ما يَشاء، لا اعتِراضَ على حُكمِهِ ولا على مَشيئَتِه.
﴿وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ الَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ الۡبَلَٰغُ وَعَلَيۡنَا الۡحِسَابُ﴾ [الرعد :40]
وإمّا أنْ نُريَكَ - أيُّها الرسُولُ - بعضَ ما وعَدناهُمْ بهِ منَ العَذابِ والخِزي، أو أنْ نتَوفَّاكَ قبلَ أنْ يُصِيبَهمْ ذلك. وإنَّما أنتَ رسُولٌ مُبَلِّغ، تُعلِمُهمْ رسالةَ اللهِ وتُنذِرُهمْ عذابَه، أمَّا حِسابُهمْ وجَزاؤهمْ فعندَ الله.