تفسير سورة الحجر

  1. سور القرآن الكريم
  2. الحجر
15

﴿وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعۡلُومٖ﴾ [الحجر:21]


وليسَ شَيءٌ مِنَ الأشْياء، ولا صِنفٌ مِنَ الأصْناف، إلاّ عِندَنا خَزائنُه، مَصادرُهُ ومَنابِعُه، وما نُنَزِّلُ منهُ إلاّ بمِقدارٍ مُعَيَّن، بحسَبِ ما تَقتَضيهِ حِكمتُنا، وتَستَدعيهِ مَشيئتُنا.

﴿وَأَرۡسَلۡنَا الرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ فَأَنزَلۡنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءٗ فَأَسۡقَيۡنَٰكُمُوهُ وَمَآ أَنتُمۡ لَهُۥ بِخَٰزِنِينَ﴾ [الحجر:22]


وسَخَّرنا الرِّياحَ لتَكونَ مُلقِحَة. وقدْ ثبتَ لدَى العُلماءِ أنَّ الغُيومَ لا تُمطِرُ بنَفسِها، ولو كانتْ شَديدَةَ الرُّطوبة، فإذا توَفَّرَ لها ذَرَّاتٌ مِلحيَّةٌ أو ثَلجيَّةٌ بالِغَةُ الصِّغَر، والتَقَتْ بالكُتلَةِ الهوائيَّةِ الرَّطْبَة (الغَيم)، حصلَ التكاثُف، ثمَّ هطلَ منها المطَر. والرياحُ هيَ التي تَجلُبُ هذهِ الذَّرَّات، فتَكونُ هيَ المُلْقِحَة، وهي التي تُشَكِّلُ السَّحابةَ الرَّعديَّة، في تَفصيل... وكُلُّ ذلكَ بأمرِ اللهِ وتَقديرِه.

فيُلقِحُ الريحُ السَّحابَ ليَدُرَّ المطَر، فأنزَلنا بسببِهِ الماء، فأسقَيناكُمْ منهُ ماءً عَذبًا، تَشرَبونَ منه، ونَسقي بهِ زُروعَكمْ ودوابَّكم. والمطَرُ في خزائنِنا لا في خَزائنِكم، وهيَ بأيْدينا لا بأيْديكم. أو أنَّ مَعناه: ما أنتُمْ بقَادرينَ على حِفظِ هذا الكَمِّ منَ المياهِ التي يُنزِلُها اللهُ لكم، فيَحفَظُها لكمْ في العُيونِ والآبارِ والأنهار، لتأخُذوا منها عندَ الحاجَة.

﴿وَإِنَّا لَنَحۡنُ نُحۡيِۦ وَنُمِيتُ وَنَحۡنُ الۡوَٰرِثُونَ﴾ [الحجر:23]


وإنَّا لَنَخلُقُ الشيءَ منَ العدَم، ونَنفُخُ الرُّوحَ في الأشياءِ المَيْتَةِ فتَحيا بإذنِنا، ونحنُ نُميتُ الحيَّ فلا نُبقي فيهِ أثَرًا للحَياة. ونحنُ الباقونَ بعدَ فَناءِ الخَلق، المالِكونَ للمُلْك، الحاكِمونَ والمتصَرِّفونَ في الكَونِ وحدَنا، الوارِثونَ للخَلْقِ جَميعًا.

﴿وَلَقَدۡ عَلِمۡنَا الۡمُسۡتَقۡدِمِينَ مِنكُمۡ وَلَقَدۡ عَلِمۡنَا الۡمُسۡتَـٔۡخِرِينَ﴾ [الحجر:24]


وقدْ عَلِمنا مَنْ ماتَ مِنكمْ مِنْ لَدُنْ آدَم، ومَنْ هوَ حَيٌّ لم يَمُت، ومَنْ سَيأتي بَعدَكمْ إلى يَومِ القيامَة.

﴿وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحۡشُرُهُمۡۚ إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيمٞ﴾ [الحجر:25]


وإنَّ ربَّكَ وحدَهُ - أيُّها النبيُّ - سيَحشرُهمْ جَميعًا للمُحاسَبةِ والجَزاء، وهوَ حَكيم، يضَعُ الأمورَ في مَواضِعِها، فيُقدِّرُ وقتَ الحَياة، ووَقتَ المَمات، ووَقتَ الجَزاء. عَليمٌ، أحاطَ عِلمُهُ بكلِّ شَيء، فلا يَغيبُ عَنهُ الحَقيرُ والجَليل، ممّا عَمِلَهُ الخَلقُ كلُّهم.

﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا الۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ﴾ [الحجر:26]


وقدْ خَلقنَا أصلَ الإنسانِ (آدمَ) منْ طِينٍ يابِس، إذا نقَرتَهُ سَمعتَ لهُ صَلصَلة، مُتَّخَذٌ مِنْ طِينٍ مُنتِن.

﴿وَالۡجَآنَّ خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر:27]


وخَلقنا الجِنَّ قبلَ الإنس، منْ نَارٍ شَديدَةِ الحرارَة.

﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ﴾ [الحجر:28]


وقالَ اللهُ تعالَى لملائكتِهِ قبلَ أنْ يَخلُقَ آدم: سأخلقُ إنسَانًا منْ تُراب، منْ طِينٍ مُنتِن.

﴿فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ﴾ [الحجر:29]


فإذا أتمَمتُ خَلقَه، وجعلتُ فيهِ الروحَ(65)، وصارَ بشَراً سَويَّا، فاسجُدوا له، سُجودَ تَحيَّةٍ وتَكريم، لا سُجودَ عِبادَة.

(65) {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}: وجعلتُ فيه الروحَ حتى جرى آثارهُ في تجاويفِ أعضائه، فحيي، وصارَ حسّاسًا متنفِّسًا. (روح البيان). قالَ النيسابوري: ولا خلافَ في أن الإضافةَ في {رُوحِي} للتشريفِ والتكريم، مثل: (ناقة الله)، و (بيت الله). قالَ القرطبي: والروحُ جسمٌ لطيف، أجرَى الله العادةَ بأن يخلقَ الحياةَ في البدنِ مع ذلك الجسم. وحقيقتهُ إضافةُ خَلقٍ إلى خالق، فالروحُ خلقٌ من خَلقه، أضافَهُ إلى نفسهِ تشريفاً وتكريماً. (فتح القدير). وإسنادُ النفخِ وإضافةُ الروحِ إلى ضميرِ اسمِ الجلالةِ تنويهٌ بهذا المخلوق. (التحرير والتنوير).

﴿فَسَجَدَ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ﴾ [الحجر:30]


وبعدَ أنْ نُفِخَ فيهِ الرًّوح، سَجَدَ لهُ الملائكةُ كلُّهم، ولم يتأخَّروا،

﴿إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰٓ أَن يَكُونَ مَعَ السَّـٰجِدِينَ﴾ [الحجر:31]


إلاّ إبليسَ، رفضَ أنْ يَكونَ معَ الملائكةِ السَّاجِدين. والملائكةُ لا تَعصي الله، ولذلكَ سَجدَتْ لهُ كما أمرَ الله، وهيَ مَخلوقَةٌ منْ نور، وإبليسُ مِنْ جِنسٍ آخَرَ غَيرِ الملائكة، فهوَ مَخلوقٌ منْ نار {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [سورة الأعراف: 12].

﴿قَالَ يَـٰٓإِبۡلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّـٰجِدِينَ﴾ [الحجر:32]


قالَ اللهُ له: يا إبليس، ما الذي مَنعَكَ أنْ تَسجُدَ لآدمَ كما سَجدَ لهُ جَميعُ الملائكة؟

﴿قَالَ لَمۡ أَكُن لِّأَسۡجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقۡتَهُۥ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ﴾ [الحجر:33]


قال: ما كنتُ لأسجُدَ لبشَرٍ خلقتَهُ مِنْ طِينٍ مُنتِن، وأنا أفضَلُ وأشرفُ منهُ عُنصُرًا (النَّار). قالَ ذلكَ حسَدًا وبُغضًا لآدَم، وعِنادًا واستِكبارً عنْ قَبولِ أمرِ الله.

﴿قَالَ فَاخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ﴾ [الحجر:34]


قالَ اللهُ له ما مَعناه: فاخرُجْ منَ الجنَّة، فإنَّكَ مَطرودٌ مِنْ كُلِّ خَيرٍ وكَرامة.

﴿وَإِنَّ عَلَيۡكَ اللَّعۡنَةَ إِلَىٰ يَوۡمِ الدِّينِ﴾ [الحجر:35]


وإنَكَ مُبعَدٌ مِنْ رَحمَةِ الله، وتَلحَقُكَ لَعنَتُهُ ولَعنَةُ المؤمنينَ إلى يَومِ القِيامَة؛ جَزاءَ عِصيانِك.

﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ﴾ [الحجر:36]


قالَ إبليس: ربِّي أمْهِلني ولا تُمِتني إلى اليَومِ الذي يُبعَثُ فيهِ آدَمُ وذُرِّيَتُهُ للحِسابِ والجَزاء.

وهذا منْ تمامِ حسَدِهِ وعَداوتِهِ للإنسَان، ليُغويَهم، فيُبعَدوا مِنْ رَحمَةِ الله، كما أبعَدَهُ اللهُ منْ رَحمَتِه، فيَكونُ أخذَ بثَأرِه.

﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الۡمُنظَرِينَ﴾ [الحجر:37]


قالَ اللهُ له تفسيرًا: قدْ أمهَلتُك، فأنتَ منْ جُملَةِ المُؤخَّرين،

﴿إِلَىٰ يَوۡمِ الۡوَقۡتِ الۡمَعۡلُومِ﴾ [الحجر:38]


إلى يَومِ النَّفخَةِ الأولَى، آخِرِ أيَامِ التَّكليف، وهوَ يَومٌ مَعلوم، لا يَبقَى فيهِ على وجهِ الأرضِ حَيّ.

﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمۡ فِي الۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [الحجر:39]


قالَ إبليس: رَبِّي، لأنَّكَ أضلَلتَني وطرَدتني منْ رحمَتِك - ولم يَذكُرْ عِصيانَه - فسَوفَ أُزَيِّنُ لبَني آدمَ القَبيحَ حتَّى يَغتَرُّوا بهِ ويَفعَلوه، وأُحَبِّبُ إليهمُ المعَاصي، وأُرَغِّبُهمْ فيها حتَّى يَعمَلوها، ولأُضِلَّنَّهمْ كُلَّهمْ بذلك،

﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ الۡمُخۡلَصِينَ﴾ [الحجر:40]


إلاّ عِبادَكَ الذينَ أخلَصُوا لكَ بالطَّاعَةِ والتوحِيد، واتَّقَوا حُرُماتِك، فلا أَقدِرُ على تَضليلِهم.