﴿الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ الۡكِتَٰبِ وَقُرۡءَانٖ مُّبِينٖ﴾ [الحجر:1]
الحروفُ المُقَطَّعَةُ لم يَرِدْ في تَفسيرِها حَديثٌ ثابِتٌ صَحيح، واللهُ أعلَمُ بمَعناها.
تِلكَ الآياتُ العَظيمَةُ آياتُ الكِتابِ الكاملِ الجَليل، وقُرآنٍ عَظيمِ الشَّأنِ، واضِحٍ بيِّن، فيهِ أمرُ اللهِ وهَديُه، وحُكمُهُ وعَدلُه.
﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ﴾ [الحجر:2]
رُبَّ شَيءٍ يَودُّ الذينَ كفَروا لو تَحقَّقَ وثَبَت، وهوَ أنْ يَكونوا مُسلِمين، سَواءٌ عندَ المَوتِ وقدْ تقَطَّعَتْ بهمْ أسْبابُ الحياة، أو يومَ القِيامةِ وقدْ عايَنوا العَذاب، والمؤمِنونَ في جَنّاتِ النَّعيم، فكُلَّما رَأوا حالاً منْ أحْوالِ العَذاب، ورأوا حَالاً منْ أحْوالِ المسلِمين، وَدُّوا لو كانوا مُسلِمين.
ويتأكَّدُ قَولُهمْ هذا عندَما يُخرِجُ اللهُ المُسلِمينَ العَاصِينَ منَ النَّار، وكانَ الكافِرونَ يَقولونَ لهم: ما أغنَى عنكمْ إسلامُكمْ وقدْ صِرتُمْ معَنا! فعندَما يُخرَجونَ يَقولُ الكافِرون: يا لَيتَنا كُنَّا مُسلِمينَ فنخرُجَ كما خرَجوا. وهوَ مُختصَرُ حَديثٍ رواهُ وصحَّحَهُ الحاكم.
﴿ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ الۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ﴾ [الحجر:3]
دَعْ هؤلاءِ الكافِرينَ يأكُلوا مِنْ أطعِمةِ الدُّنيا وملاذِّها ما شَاؤوا، ولْيَتمتَّعوا بجَمالِها وشَهواتِها، ولْيَشغَلْهمُ الأمانيُّ وطلَبُ السَّعادةِ وطُولِ العمُر، والتطلُّعُ إلى الصَّفَقاتِ والأرباح، دَعهمْ في دَوَّامَةِ الغُرورِ والمطَامِع، حَتَّى يأتيَهمُ الموتُ وهمْ على ذلك، وسَوفَ يَعلمونَ يَومَ الحِسابِ سُوءَ صَنيعِهم، وفسادَ عَقيدَتِهم، وعاقِبةَ أمرِهم.
﴿وَمَآ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٞ مَّعۡلُومٞ﴾ [الحجر:4]
وما أوقَعْنا العَذابَ بأهلِ قَريَةٍ أو مَدينةٍ منَ المدُنِ إلاّ بعدَ إنْذارِهم، وانتِهاءِ المدَّةِ التي ضُرِبَتْ لهم، لا يُنسَى أجَلُهمْ ولا يُغْفَلُ عنه، بلْ هوَ مَعلومٌ مُقدَّرٌ عندَ اللهِ في اللَّوحِ المَحفوظ.
﴿مَّا تَسۡبِقُ مِنۡ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ﴾ [الحجر:5]
ولنْ يُقَدَّمَ أجَلُ هَلاكِ أُمَّةٍ عنْ مَوعدِهِ ولنْ يؤَخَّرَ عنه، بلْ يأتيهمْ في المكانِ المُقدَّر، وفي الوَقتِ المُحدَّد.
﴿وَقَالُواْ يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيۡهِ الذِّكۡرُ إِنَّكَ لَمَجۡنُونٞ﴾ [الحجر:6]
وقالَ مُشرِكو مكَّةَ لرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أيُّها المُدَّعي نزولَ القُرآنِ عَليه، إنَّكَ مَجنونٌ بادِّعائكَ ما يُوحَى إليك.
﴿لَّوۡمَا تَأۡتِينَا بِالۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـٰدِقِينَ﴾ [الحجر:7]
فهلاّ أتَيتَنا بالمَلائكةِ يَشهدونَ بصِحَّةِ ما جِئتَ به، إذا كنتَ منَ الصَّادقينَ في دَعواك؟
﴿مَا نُنَزِّلُ الۡمَلَـٰٓئِكَةَ إِلَّا بِالۡحَقِّ وَمَا كَانُوٓاْ إِذٗا مُّنظَرِينَ﴾ [الحجر:8]
ما نُنَزِّلُ المَلائكةَ إلاّ لأمرٍ فيهِ فائدَةٌ وحِكمة، والمَلائكةُ لا يُرَون، ولو أنزلَهمُ اللهُ على صُورةِ البشَرِ لقالَ المشرِكون: هؤلاءِ ليسُوا ملائكة! ولو لم يؤمِنوا بهمْ لأهلَكهُمُ اللهُ ولم يُمهِلْهُم، وقدْ عَلِمَ اللهُ مِنْ حَالِ هؤلاءِ الكافِرينَ أنَّهمْ لنْ يُؤمِنوا بهم، فكانَ في إمهالِهمْ خَيرٌ لهم. وقدْ آمَنوا منْ بَعد.
﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا الذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾ [الحجر:9]
نحنُ نزَّلنا هذا القُرآنَ مِنْ عندِنا، سواءٌ آمَنوا بهِ أمْ أنكَروه، ونحنُ حافِظوهُ منَ التَّغييرِ والتَّبديل، والزِّيادَةِ والنُّقصَان، فلا يَندَثِرُ ولا يَلتَبِسُ بالباطِل.
ولم يَتكفَّلِ اللهُ بحِفظِ كِتابٍ سَماويٍّ سِواه، وقدْ دَخلَ التَّحريفُ والتَّبديلُ حَديثَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والتاريخَ الإسلاميّ، وأنواعَ العُلوم، ولم يَدخلِ القُرآنَ منهُ شَيء.
﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِي شِيَعِ الۡأَوَّلِينَ﴾ [الحجر:10]
وقدْ أرسَلنا رسُلاً مِنْ قَبلِكَ أيُّها النبيُّ إلى فِرَقِ وطوائفِ الأمَمِ الماضِيَة.
﴿وَمَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [الحجر:11]
وما كانَ اللهُ يُرسِلُ إليهمْ رسُولاً منْ عِندِهِ إلاّ كانوا يُكذِّبونَهُ ويَسخَرونَ منه.
﴿كَذَٰلِكَ نَسۡلُكُهُۥ فِي قُلُوبِ الۡمُجۡرِمِينَ﴾ [الحجر:12]
ونُدْخِلُ مِثلَ هذا التَّكذيبِ والاستِهزاءِ في قُلوبِ المجرِمينَ المعانِدينَ للحَقّ.
﴿لَا يُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَقَدۡ خَلَتۡ سُنَّةُ الۡأَوَّلِينَ﴾ [الحجر:13]
فهؤلاءِ الكافِرونَ غَيرُ مؤمِنينَ بالقُرآن، وقدْ عَلِموا ما حَلَّ بالأُممِ الماضِيَةِ مِنَ الهَلاكِ والدَّمارِ نَتيجةَ تَكذيبِهمْ أنبياءَهم.
﴿وَلَوۡ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَابٗا مِّنَ السَّمَآءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعۡرُجُونَ﴾ [الحجر:14]
ولو فتَحنا على هؤلاءِ الكافِرينَ المُكابِرينَ بابًا ظاهِرًا منَ السَّماء، وجعَلوا يَصعَدونَ فيهِ ويَرونَ فيهِ منَ العَجائب،
﴿لَقَالُوٓاْ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمٞ مَّسۡحُورُونَ﴾ [الحجر:15]
لمَا صدَّقوا ذلك، وقالوا لشِدَّةِ كُفرِهمْ وقَساوَةِ قُلوبِهم: لقدْ أُغلِقَتْ عُيونُنا ومُنِعَتْ مِنَ الرُّؤية، والذي ظهَرَ لنا خَيالٌ لا حَقيقَة، وعُقولُنا تُخبِرُنا أنَّ الحقِيقَةَ بعَكسِ ذلك! بلْ أصابَنا سِحرُ ساحِرٍ فيما جَرَى لنا!
وللسَّماءِ أبواب، وقدْ أثبتَتِ الأبحاثُ الفلَكيَّةُ أنَّ السَّماءَ ليسَتْ فرَاغًا، بلْ هيَ مَليئةٌ بغازاتٍ مُنوَّعة، وبعضِ الموادِّ الصُّلبة، وإشعَاعات، فهوَ بِناءٌ مُحكَمٌ مَليءٌ بالمادَّةِ والطاقَة، ولا يُمكِنُ اختِراقُهُ إلاّ عنْ طَريقِ أبوابٍ تُفتَحُ فيه. وكذلكَ الغِلافُ الجَويّ، مَليءٌ بالأبواب، والمَرْكَباتُ الفَضائيَّةُ عَليها أنْ تَسلُكَ مَسارًا مُحَدَّدًا حتَّى تَخرُجَ منْ مَظانِّ الجاذبيَّةِ الأرضيَّةِ إلى الفَضاءِ الخارجيّ، وإلاّ احترقَت. وإذا عادَتْ فعَليها أنْ تَدخُلَ مِنْ فتَحاتٍ وطُرقٍ مُعيَّنَةٍ داخِلَ الطبقةِ الخارجيَّةِ للغِلافِ الجَويّ، وإلاّ بَقيَتْ فيه، أو احتَرقَت!
﴿وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِي السَّمَآءِ بُرُوجٗا وَزَيَّنَّـٰهَا لِلنَّـٰظِرِينَ﴾ [الحجر:16]
ولقدْ أوجَدنا في السَّماءِ بُروجًا، وهيَ النُّجومُ والكواكِب، أو مَنازِلُها الاثنا عشَرَ التي تتَنقَّلُ فيها. وجَعلنا فيها جَمالاً وزِينةً لمَنْ يَنظرُ إليها، معَ اتِّساعٍ وإتْقان. فالنُّجومُ تتَلألأُ وتَخبو، والقمَرُ يُطِلُّ بَدرًا وهِلالاً، ومَنظَرُ الشُّروقِ والغُروبِ للشَّمسِ لا يُمَلّ...
﴿وَحَفِظۡنَٰهَا مِن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٍ﴾ [الحجر:17]
وحَفِظنا السَّماءَ وما فيها منَ الشَّياطينِ المَلعونَة، المطرودَةِ مِنْ رَحمَةِ الله، حتَّى لا يَنالَها شَيءٌ مِنْ شَرِّها،
﴿إِلَّا مَنِ اسۡتَرَقَ السَّمۡعَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ مُّبِينٞ﴾ [الحجر:18]
إلاّ الشَّياطينَ المُتمَرِّدَةَ التي تتَجاوزُ حَدَّها الأرضِيّ، وتُريدُ أنْ تتَصاعدَ لتتَنصَّتَ إلى المَلائكةِ في السَّماء، فمنِ استرقَ السَّمعَ منها قَذفناهُ بشِهابٍ سَاطِعٍ فأحرَقَه.
﴿وَالۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ﴾ [الحجر:19]
وهذهِ الأرضُ بسَطناها ووَسَّعناها لتَكونَ مُلائمَةً لانتِفاعِ الإنسَانِ منها، وألقَينا فيها جِبالاً ثَوابِت، لئلاّ تَميلَ وتتَحرَّكَ بأهلِها، وأنبَتنا فيها زرُوعًا، وأشجارًا كثيرة، مَعلومَةً ومُقدَّرَةً بمِقْدارٍ مُعَيَّن.
﴿وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَٰزِقِينَ﴾ [الحجر:20]
وجعَلنا في الأرْضِ صُنوفًا منَ المَطاعمِ والمشَاربِ وغَيرِها، وأسبابًا للتكسُّب، وأبوابًا للعمَلِ تَلِجونَها، ودوابَّ وآلاتٍ تَستَخدِمونَها، لتَكونَ عَونًا لكمْ في ابتِغاءِ الرِّزق، وجعَلنا فيها أصنافًا منَ الأحياءِ لا تَرزُقونَها، بلِ اللهُ رازِقُها وسِواها، ومَنفِعتُها لكم.