﴿وَءَاتَيۡنَٰهُمۡ ءَايَٰتِنَا فَكَانُواْ عَنۡهَا مُعۡرِضِينَ﴾ [الحجر:81]
وأيَّدنا رَسولَنا صالِحاً بالمُعجِزات، فآتَيناهمُ الناقَة، وقدْ جاءَتْ منْ عندِ اللهِ ولم يَملِكها أحَد. وطلبَ منهمْ رسُولُهمْ ألاّ يُؤذُوها، ولكنَّهمْ عَتَوا وتَجبَّروا وعقَروها.
﴿وَكَانُواْ يَنۡحِتُونَ مِنَ الۡجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ﴾ [الحجر:82]
وكانوا غِلاظًا جُفاةً أشِدَّاء، يَنحِتونَ بيوتَهمْ منَ الجِبال، منْ غَيرِ حَاجةٍ إليها تُذكَر، بلْ أشَرًا وعبَثًا، ويَعيشونَ آمِنين.
وآثارُهمْ مازالتْ مَوجودَة، وتُعرَفُ بمَدائنِ صَالح، في بِلادِ الحرَمين.
﴿فَأَخَذَتۡهُمُ الصَّيۡحَةُ مُصۡبِحِينَ﴾ [الحجر:83]
فلمّا عصَوا رَسولَهم، أهلكَهمُ اللهُ بصَيحَةٍ قويَّةٍ مُفزِعَةٍ في الصَّباح، حيثُ السُّكونُ والهُدوء.
﴿فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾ [الحجر:84]
فلمْ يُغْنِ عَنهمْ ما كانوا فيهِ مِنْ أمْنٍ وبُيوتٍ حَصينَة، ولمْ يَدفَعْ بَلاءَ اللهِ عَنهمْ أموالُهمْ وزُروعُهمْ وخَزائنُهم...
﴿وَمَا خَلَقۡنَا السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِالۡحَقِّۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞۖ فَاصۡفَحِ الصَّفۡحَ الۡجَمِيلَ﴾ [الحجر:85]
وما خَلقنا السَّماواتِ والأرضَ عَبَثًا وجُزافًا، بلْ بالحقِّ والعَدل، وما فيهما منْ مَخلوقاتٍ شَتَّى ونِظامٍ دَقيق، وتَدبيرُها بحكمةٍ - فلا يَعتَريهما ضَعفُ وخَلَلٌ وفَوضَى - يُنبِئُ عنْ قوَّةٍ وعظَمةٍ وإبدَاع.
والسَّاعَةُ قادِمَةٌ لا مَحالة، وهيَ منَ الحقِّ الذي يُقيمُهُ اللهُ تعالَى، حتَّى لا تَبقَى مَظلَمَةٌ لأحَدٍ على أحَد، وحتَّى لا يَفوتَ أحَدًا أجرٌ وثَوابٌ عَمِلَهُ في الدُّنيا، فليسَ منَ الحقِّ أنْ يَموتَ الظَّالِمُ ولمْ يُعاقَب، ولم يأخذِ المظلومُ منهُ حقَّه، وليسَ منَ العَدلِ أنْ يَموتَ المظلومُ بمَظلمَتِهِ ولم يَنتَصِرْ لهُ أحَد. واللهُ هوَ الحَقُّ والعَدْلُ الذي يُعطي الحُقوقَ لأصحابِها يومَ الحِسابِ والجَزاء.
فاعفُ عنِ النَّاسِ أيُّها الرسُول، واصفَحْ عمَّنْ آذاكَ منَ المشرِكين، واحلُمْ عَليهمْ بإحسانٍ منكَ وإكرام.
قالوا: وهذا كانَ قبلَ تَشريعِ القِتال.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الۡخَلَّـٰقُ الۡعَلِيمُ﴾ [الحجر:86]
إنَّ ربَّكَ خَلاّقٌ لا يُعجِزُهُ شَيء، وسيَأتي بيَومِ الحِسابِ بقُدْرَتِه. وهوَ عَليمٌ بأحوالِ النَّاسِ وأعمالِهم، قدْ أحصاها عَليهم، وكُلٌّ يُحاسَبُ ويُجازَى، ويأخذُ حقَّهُ الكامِل، بحُكمِ اللهِ وعَدلِه.
﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ سَبۡعٗا مِّنَ الۡمَثَانِي وَالۡقُرۡءَانَ الۡعَظِيمَ﴾ [الحجر:87]
وقدْ أنزَلنا عَليكَ السَّبعَ المَثَاني، وهيَ سورَةُ الفاتِحة، كما صَحَّ عندَ البُخاريّ، فهيَ سَبعُ آيات، وهيَ تُثَنَّى في الصَّلاة، أو يُثْنَى فيها على اللهِ عزَّ وجَلَّ. وكذلكَ أنزَلنا عَليكَ سائرَ القُرآن.
وقدْ خُصَّتِ الفاتِحةُ بالذِّكرِ لفَضلِها، وعِظَمِ نَفعِها وأجرِها، وهيَ تُسمَّى كذلكَ "أمَّ القُرآن"، لأنَّها أصلُ القُرآن.
﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَاخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الحجر:88]
واستَغْنِ بهذا القُرآنِ العَظيمِ - أيُّها النبيُّ - عنْ أعْراضِ الدُّنيا الزَّائلَه، ولا تُتابِعْ فِكرَكَ ولا تُدِمْ نَظَرَكَ إلى هذا الذي متَّعْنا بهِ أصنافاً منَ المشرِكينَ وأهلِ الكِتابِ مِنَ الأغنياء، منَ المالِ والولَدِ والنِّسوة، فإنَّما هوَ ابتلاءٌ وامتِحانٌ لهم، ولذَّةٌ مؤقَّتةٌ تَزول. ولا تغتَمَّ لعَدَمِ إيمانِهم، ولا تَحزَنْ لِما يَنتَظِرُهمْ منْ عَذاب، فقدْ كذَّبوكَ ورفَضوا الإيمانَ برِسالتِك، فهمْ أهلٌ لِما يُصيبُهم مِنْ عُقوبة.
وأَلِنْ جانِبَكَ لإخوانِكَ المؤمنين، وتَواضَعْ لهمْ وارفُقْ بهم، فهمُ الذينَ يَستَحِقُّونَ منكَ البِرَّ والاهتِمام، لا هؤلاءِ المستَكبِرونَ المُعانِدون.
﴿وَقُلۡ إِنِّيٓ أَنَا النَّذِيرُ الۡمُبِينُ﴾ [الحجر:89]
وقُلْ للنَّاسِ أيُّها النبيّ: إنَّي أُرسِلتُ إليكمْ لأُنذِرَكمْ وأُخَوِّفَكمْ منْ عَذابٍ إنْ أنتُمْ رفَضتُمْ دَعوةَ الله، وإنذَاري لكمْ حَقٌّ لا يُنكَر، ووَاضِحٌ بَيِّنٌ لا يَخفَى.
﴿كَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَى الۡمُقۡتَسِمِينَ﴾ [الحجر:90]
وقدْ آتَيناكَ القُرآنَ العَظيم، كما أنزَلنا على أهلِ الكِتابِ كتُبًا سَماويَّة، المُتحالِفينَ على مُخالفَةِ الأنبِياءِ وتَكذيبِهم.
﴿الَّذِينَ جَعَلُواْ الۡقُرۡءَانَ عِضِينَ﴾ [الحجر:91]
الذينَ جعَلوا القُرآنَ مَتَفرِّقًا مُجَزَّءًا، فآمَنوا ببَعضِه، وكفَروا ببَعضِهِ الآخَر، وكانَ عَليهمْ أنْ يَتقَبَّلوه، لأنَهُ مِثلُ التَّوراةِ والإنجِيلِ منْ عندِ الله.
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾ [الحجر:92]
فوَرَبٍّكَ أيُّها النبيُّ سنَسألُهمْ كُلَّهم، هؤلاءِ المُتحالِفينَ وغَيرَهمْ مِنْ مِلَّةِ الكُفر.
﴿عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [الحجر:93]
ونُحاسِبُهمْ على ما عَمِلوهُ في الدُّنيا: ماذا عَبَدوا، وماذا أجَابوا المُرسَلين؟
﴿فَاصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ الۡمُشۡرِكِينَ﴾ [الحجر:94]
فاجهَرْ بما أُمِرتَ بهِ منْ إظهارِ هذا الدِّينِ وتَبليغِه، وأَمْضِه، ولا تأبَهْ بما يَقولُ المشرِكون، ولا تُبالِ بمكائدِهم.
﴿إِنَّا كَفَيۡنَٰكَ الۡمُسۡتَهۡزِءِينَ﴾ [الحجر:95]
ولا تَخَفْ أحَدًا مِنْ المستَهزِئينَ بك، السَّاخِرينَ منكَ ومنَ القُرآن، فقدْ كفَيناكَ إيّاهُم، وحَفِظناكَ منهم، فلا يَقدِرونَ على أذيَّتِك. وكانوا مَجموعَةً منْ أشقياءِ مكَّةَ وأشرارِها.
﴿الَّذِينَ يَجۡعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۚ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ﴾ [الحجر:96]
الذينَ يَعبُدونَ معَ اللهِ أصنامًا ويدَّعونَ أنَّها آلهَة، فسَوفَ يَعلَمونَ مَصيرَهم، والعَذابَ الذي كانَ مُدَّخَرًا لهم.
﴿وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدۡرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ [الحجر:97]
ونحنُ نعلَمُ أيُّها الرَّسُولُ أنَّكَ تتَحسَّرُ وتَغتَمُّ منْ كلماتِ الشِّركِ والاستِهزاءِ التي يَتلفَّظَ بها المشرِكون.
﴿فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّـٰجِدِينَ﴾ [الحجر:98]
فالجَأ إلى اللهِ عندَما يَضيقُ صَدرُكَ بذلك، بتضَرُّعٍ وخُشوع، واحمَدْهُ واثْنِ عَليهِ بما هوَ أهلُه، ونَزِّهْهُ عَمّا يَقولُ فيهِ المشرِكونَ منْ شِركٍ ونَقْصٍ وعَيب.
﴿وَاعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ الۡيَقِينُ﴾ [الحجر:99]
ودُمْ على عِبادَةِ ربِّكَ وطاعَتِه، حتَّى يأتيَكَ الموتُ المُتيَقَّنُ منه.