تفسير سورة الكهف

  1. سور القرآن الكريم
  2. الكهف
18

﴿وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ اللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ابۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا﴾ [الكهف:21]


وكما أنَمناهمْ وبعَثناهم، كذلكَ أطلَعنا عَليهمْ أهلَ ذلكَ الزَّمان، ليَعلَموا أنَّ وعدَ اللهِ ببَعثِ الخلائقِ للحِسابِ والجَزاءِ ثابِتٌ مُتَحَقِّق، وأنَّ يَومَ القِيامَةِ لا شَكَّ فيهِ أبَدًا. وكانَ النَّاسُ يَتخاصَمونَ إذْ ذاكَ ويَتجادَلونَ في أمرِ السَّاعَة، بينَ مُنكِرٍ ومُثبِت، فجَعلَ اللهُ ظُهورَ أصحابِ الكَهفِ آيَةً على قُدرَتِهِ على البَعث.

وقالوا بعدَ أنْ توَفَّاهمُ الله: ابنُوا على بابِ كَهفِهمْ بِناءً حتَّى لا يَدخُلَ عَليهمُ النَّاس. ورَبُّهمْ أعلَمُ بهمْ وبما يَتنازَعونَ فيه. قالَ الفَريقُ الأقوَى منهم، ولعلَّهمُ الحُكّام: لنَجعَلَنَّ فوقَهمْ مَسجِدًا.

﴿سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِالۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا﴾ [الكهف:22]


وسيَقولُ المُختَلِفونَ في عدَدِ أهلِ الكَهف: همْ ثلاثَةُ أشخَاص، ورابِعُهمْ كَلبُهم. ويَقولُ آخَرون: إنَّهمْ خَمسَةُ أشخَاص، وسادِسُهمْ كَلبُهم، إطلاقًا للكلامِ منْ غَيرِ علمٍ ولا تَثَبُّت. ويَقولُ غَيرُهم: همْ سَبعَةُ أشخَاص، وثامنُهمْ كلبُهم. وليسَ هذا رَجمًا بالغَيب، فهوَ الصَّحيح.

قُل: إنَّ ربِّي أعلَمُ بعَدَدِهم، فلا يَخفِى عَليهِ شَيء، ولا يَعلَمُ عدَدَهمْ مِنْ عبادِ اللهِ إلاّ القَليل. وقدْ صَحَّ السَّنَدُ إلى ابنِ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما أنَّهُ مِنْ هذا القَليل، وأنَّ عددَهمْ سَبعَة، كما أفادَهُ ابنُ كثير.

فلا تُجادِلْ في شَأنِ الفِتيَةِ معَ الخائضِينَ فيه، إلاّ مُحاجَجَةً سَهلةً هَيِّنَة، فلا فائدةَ تُذكَرُ مِنْ ذلك، ولا حاجَةَ للخَوضِ في الأمورِ التي لا عِلمَ للمَرءِ فيها، ولا تَطلُبِ الفُتيا بشَأنِ عددِهمْ منْ أحَدٍ منهم، فإنَّهُ لا عِلمَ لهمْ به، وفيما أعلَمَكَ اللهُ بهِ كاف.

﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا﴾ [الكهف:23]


ولا تَقُلْ لشَيءٍ عزَمتَ على فِعلِهِ مُستَقبَلاً سأفعَلُ كذا غَدًا، أو بَعدَ شَهر،

﴿إِلَّآ أَن يَشَآءَ اللَّهُۚ وَاذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا﴾ [الكهف:24]


إلاّ أنْ تَقول:{إنْ شَاءَ الله} فإنَّهُ أدَبٌ معَ الذي لا يَعلَمُ الغَيبَ إلاّ هو، ولا تَدري أنتَ ما هوَ حاصِلٌ في الوَقتِ الذي وعَدتَ به. وإذا نَسِيتَ أنْ تَقولَ {إنْ شَاءَ اللهُ} في حِينِه، فقُلْ ذلكَ عندَ تذَكُّرِكَ له.

وقُل: عَسَى أنْ يوَفِّقَني رَبِّي لِأمرٍ هوَ أظهرُ وأعظمُ في الدَّلالَةِ مِنْ قِصَّةِ أصْحابِ الكَهف، مِنَ الآياتِ الدَّالَّةِ على نُبوَّتي، ليَكونَ ذلكَ إرشادًا للنّاسِ وبيِّنَةً لهم. وقدْ فعلَ اللهُ لهُ ذلك، فقدْ آتاهُ مِن عِلمِ غُيوبِ المرسَلينَ وخَبرِهم، مَا كانَ أوضَحَ في الحجَّة، وأقرَبَ إلى الرُّشدِ مِن خَبرِ أصْحابِ الكَهف.

﴿وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَازۡدَادُواْ تِسۡعٗا﴾ [الكهف:25]


وقدْ بقيَ أهلُ الكَهفِ راقِدينَ في كَهفِهمْ ثَلاثَمائةِ سَنَةٍ شَمسيَّة، وهيَ ثَلاثُمائةٍ وتِسعٌ قمَريَّة.

﴿قُلِ اللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا﴾ [الكهف:26]


قُلْ لهمْ أيُّها الرَّسُولُ في مُدَّةِ مَكثِهم، التي هيَ مِنَ الأمورِ الغَيبيَّة: اللهُ أعلَمُ بمُدَّةِ لَبثِهمْ في الكَهفِ مِنكم، وقدْ أَخبرَنا بذلك، وعِلمُ الغَيبِ عندَه، فلا شَيءَ يَغيبُ عنِ الله، فهوَ يَعلَمُ جَميعَ ما في السَّماواتِ والأرض، ممّا يَغيبُ عنْ علمِ البشَرِ وغَيرِهم. ما أبصَرَهُ بكُلِّ مَوجود! وما أسمَعَهُ لكُلِّ مَسموع، ليسَ لأهلِ السَّماواتِ والأرضِ مِنْ دونِهِ وليٌّ يَتولَّى أمرَهم، ولا يُشرِكُ في قَضائهِ أحَدًا، مَهما كانَ شَأنُه.

﴿وَاتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا﴾ [الكهف:27]


واقرَأ على أصحابِكَ ما أنزَلَ اللهُ عَليكَ مِنَ الوَحي، وبَلِّغْهُ النَّاس، لا يَقدِرُ أحَدٌ على أنْ يُغَيِّرَ آياتِ القُرآنِ إلاّ الله، وإذا لم تَتلُ القُرآنَ ولم تَتَّبِعْهُ فلا مَلجأ لكَ تأوي إليهِ منْ دونِ الله.

﴿وَاصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِالۡغَدَوٰةِ وَالۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا﴾ [الكهف:28]


واحبِسْ نفسَكَ أيُّها النبيُّ معَ المؤمِنينَ الذينَ يَعبُدونَ ربَّهم، ويَدعونَهُ ويَذكُرونَهُ صَباحَ مَساء، لا تَمَلَّ مُجالسَتَهم، ولا تَستَعجِلِ الخُروجَ منْ عندِهم، فإنَّهمْ يُريدونَ بذلكَ وجهَ الله، ويَبتَغونَ رِضَاه. ولا تَصرِفْ عَينَكَ عنهمْ إلى غَيرِهمْ طالِبًا مُجالسَةَ الأشرافِ والأغنِياءِ مِنْ أهلِ الدُّنيا. ولا تَكنْ مُطيعًا – في إبعادِ الفُقَراءِ مِنْ مَجلسِك- للَّذي جعَلنا قلبَهُ غافِلاً عنْ ذِكرِنا، مَشغولاً عنْ عِبادَتِنا بالمالِ والثَّروَة، واتَّبَعَ ما يَطلبُهُ هَواهُ منَ الشَّهوات، وكانتْ أعمالُهُ سَفَهًا وضَياعًا، حيثُ آثرَ الهوَى على الهِدايَةِ والإيمان.

﴿وَقُلِ الۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَالۡمُهۡلِ يَشۡوِي الۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا﴾ [الكهف:29]


وقُلْ لهؤلاءِ الغافِلين: إنَّ هذا الذي أُوحيَ إليَّ هوَ الحَقُّ والصِّدقُ مِنْ عندِ رَبِّكم، الذي أرادَ بهِ هِدايتَكمْ وإنقَاذَكمْ مِنَ العَذاب، فمَنْ شَاءَ منكمْ فَليؤمِنْ به، ومَنْ شَاءَ منكمْ فَليَكفُرْ، وسَوفَ يَتَحَمَّلُ كُلٌّ مَسؤوليَّةَ اختيارِه، وقدْ هيَّأنا للكافِرينَ باللهِ ورَسُولِهِ نَارًا عَظيمَة، أحاطَ بها سُورُها، وإنْ يَستَغيثُوا مِنْ شِدَّةِ العطَشِ والعَذاب، يُغاثوا، ولكنْ بماءٍ غَليظٍ حارٍّ جِدًّا، كعَكَرِ الزَّيت، يُنضِجُ لَحمَ الوجوهَ لشِدَّةِ حرارَتِه، فإذا قَرُبَ منهمْ سقَطَتْ فَروَةُ وجُوهِهمْ فيه! بئسَ ذلكَ الماءُ الحارُّ الذي يُغاثُونَ به، وساءَتِ النَّارُ مَنزِلاً ومَقيلاً.

﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف:30]


إنَ الذينَ آمَنوا باللهِ ورسُلِه، وصدَّقوا إيمانَهمْ بالأعمَالِ الصَّالِحَة، لا نُضيعُ ثوابَها، بلْ نُكرِمُهمْ ونَزيدُهمْ أجرًا.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ الۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى الۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا﴾ [الكهف:31]


فلهمْ جَنّاتٌ عاليَاتٌ للإقامَةِ والاستِقرار، تَجري منْ تحتِ غُرَفِهمْ وقُصورِهمُ الأنهَار، يَتزَيَّنونَ فيها بأساوِرَ مِنْ ذَهَب، ويَلبَسونَ ثيابًا زاهِيَةً جَميلَةً بلونٍ أخضَر، منْ دِيباجٍ ناعِمٍ رَقيق، وآخرَ كَثيفٍ مُحْكَم. مُتَّكئينَ على الأسِرَّةِ في الحِجال، وهيَ أستارٌ مُزَيَّنَةٌ كالقُبَّة، مُتنَعِّمينَ مُترَفِّهينَ، نِعمَ هذا الثَّوابُ الذي جُوزُوا به، وهوَ الجَنَّة، وحَسُنَتْ مَجلِسًا ومُستَقَرًّا.

﴿۞وَاضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا﴾ [الكهف:32]


واضرِبْ مثَلاً للمُؤمِنينَ الذَّاكرين، والكافِرينَ الغافِلين: رَجُلَين، جعَلنا للكافِرِ بُستانَينِ منْ أعناب، مُحاطَينِ بأشْجارِ النَّخيل، وجعَلنا وسَطَ البُستانَينِ زَرْعًا، فجَمَعنا لهُ القُوتَ والفاكِهة.

﴿كِلۡتَا الۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرٗا﴾ [الكهف:33]


وكِلا البُستانَينِ أثمَرا، ونَضِجَتْ ثِمارُهما، فكانتْ كُلُّها صالِحَةً للأكل، ولم يَنقُصْ منها شَيء، فلم يُصِبْها مرَض، ولم تَقِلّ. وفجَّرْنا(74) بينَهما نَهْرًا، فكانَ رافِدًا لسَقيهما، وجَمالاً لمَنظَرِهما.

(74) التفجيرُ مصدرُ فجَّرَ بالتشديد، مبالغةً في الفَجْر، وهو الشقُّ باتساع. ومنه سمِّيَ فجرُ الصباحِ فجراً؛ لأن الضوءَ يشقُّ الظلمةَ شقًّا طويلاً عريضاً، فالتفجيرُ أشدُّ من مطلقِ الفجر، وهو تشقيقٌ شديدٌ باعتبارِ اتساعه؛ ولذلك ناسبَ الينبوعَ هنا [في الآية 90 من سورة الإسراء]، والنهرَ في قولهِ تعالى: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا}. (التحرير والتنوير، عند تفسير الآية 90 من سورةِ الإسراء).

﴿وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا﴾ [الكهف:34]


وكانَ لصَاحبِ البُستانَينِ أموالٌ كثيرة، فقالَ لصاحبِهِ المؤمِن، وهوَ يُخاصِمُهُ ويَفتَخِرُ عَليه: أنا أكثَرُ أموالاً منك، وأكثَرُ خدَمًا وحشَمًا منك، وأولادًا وعَشيرَة.

﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗا﴾ [الكهف:35]


ودخَلَ الكافِرُ بُستانَهُ وهوَ مُتَكبِّرٌ مُنكِرٌ للمَعاد، وقالَ في غُرور: لا أظنُّ أنَّ هذا البُستانَ سيَفنَى أبدًا، فأشجارُهُ كثيرَةٌ مُتماسِكة، ومِنْ أصنافٍ جيِّدَة، والماءُ مَوجودٌ بكَثرَة!

﴿وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةٗ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗا﴾ [الكهف:36]


قال: ولا أظنُّ القِيامَةَ كائنَة، وإذا كانَ هُناكَ بَعثٌ ومَرجِعٌ إلى الله، فسيَكونُ لي عندَهُ خَيرٌ مِنْ هذا البُستانِ مَرجِعًا ومَآلاً، فما أَولاني هذهِ النِّعمَ في الدُّنيا إلاّ لأنِّي مَحظيٌّ ومُقَدَّرٌ عندَه!

﴿قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا﴾ [الكهف:37]


قالَ لهُ صاحِبُهُ المؤمِنُ وهوَ يُحاوِرُهُ بالحُسنَى، يُذَكِّرُهُ ويُنذِرُه: ويحَك! أكفَرتَ بالذي خلقَ أصلَكَ مِنْ تُراب، ثمَّ خَلقَكَ مِنْ نُطفَةٍ مَهينَة، ثمَّ مَدَّ في عمُرِكَ وجَعَلَكَ بشَرًا سَويًّا؟

﴿لَّـٰكِنَّا۠ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا﴾ [الكهف:38]


لكنِّي لا أقولُ بمَقولَتِك، بلْ أُقِرُّ برُبوبيَّةِ اللهِ ووَحدانيَّتِه، ولا أُشرِكُ في عِبادَتي لهُ أحَدًا.

﴿وَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا﴾ [الكهف:39]


وهلاّ إذْ دخَلتَ بُستانَكَ وعجِبَكَ ما فيه، ذَكرْتَ خالِقَكَ الذي وَهبَكَ هذهِ النِّعمَة، فحَمِدْتَهُ وشَكَرتَهُ على ذلكَ وقُلتَ: ما شاءَ الله، لا قوَّةَ إلاّ بالله؟ فالأمرُ ما شَاءَ هوَ وحدَه، وما لم يَشأْ شَيئًا لا يَكون، ولا أقدِرُ على حِفظِ مالي ودَفعِ مَكروهٍ عَنهُ إلاّ بحَولِهِ وقوَّتِه.

ولمـّا رأيتَني أقَلَّ منكَ ثَروَةً ووَلَدًا تَكبَّرتَ عَليَّ وتَعاظَمت، ولم تُفَكِّرُ بغَضَبِ اللهِ ونِقمَتِه؟

﴿فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗا مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا﴾ [الكهف:40]


فعسَى أنْ يُعطيَني رَبِّي خَيرًا مِنْ بُستانِكَ جَزاءَ فَقري وصَبري، وإيماني واحتِسابي، وأنْ يَبعثَ على بُستانِكَ عَذابًا مُقَدَّرًا مِنَ السَّماء، كصاعِقَة، فيُصبِحَ أرضًا جَرداءَ مَلساء، لا نَباتَ فيها، عُقوبَةَ كُفرِكَ واستِكبارِك.