﴿وَلِسُلَيۡمَٰنَ الرِّيحَ عَاصِفَةٗ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦٓ إِلَى الۡأَرۡضِ الَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيۡءٍ عَٰلِمِينَ﴾ [الأنبياء:81]
وسخَّرنا الرِّيحَ للنَّبيِّ سُلَيمان، فكانَ يَقطَعُ بها المسَافاتِ البَعيدَةَ في وَقتٍ يَسيرٍ كالعَاصِفَة، وتَجري بأمرِهِ وتأخذُهُ إلى أرضِ الشَّامِ المُبارَكة، وكُنّا عالِمينَ بكُلِّ شَيءٍ مِنْ ذلك، ممّا يَلزَمُهُ وما يَؤولُ إليهِ أمرُه.
﴿وَمِنَ الشَّيَٰطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُۥ وَيَعۡمَلُونَ عَمَلٗا دُونَ ذَٰلِكَۖ وَكُنَّا لَهُمۡ حَٰفِظِينَ﴾ [الأنبياء:82]
وسخَّرنا لهُ مِنَ الشَّياطينِ مَنْ يَغوصُونَ لهُ في البِحارِ ويَستَخرِجونَ لهُ اللَّآلئَ والجَواهِرَ وغيرَ ذلكَ مِنَ النَّفائس، ويَعمَلونَ لهُ صَنائعَ كثيرَةً غَيرَ الغَوص، منَ الأمورِ الغَريبَةِ والعَجيبَة، وكُنَّا نَحفَظُهمْ مِنْ أنْ يُفسِدوا أو يَخرُجوا عنْ أمرِه، أو يَنالُوهُ بسُوء.
﴿۞وَأَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ الرَّـٰحِمِينَ﴾ [الأنبياء:83]
واذكُرْ عبدَنا ونَبيَّنا أيُّوب، الذي ابتَلَيناهُ بمَرَضٍ شَديد، فتضَرَّعَ إلى رَبِّهِ ودَعاهُ قائلاً: يا ربّ، قدْ أصابَني الضُّرُّ والبَلاء، فاكشِفْ عَنِّي ذلكَ واشفِني، وأنتَ أجَلُّ وأكبَرُ مَنْ عُرِفَ بالرَّحمَة.
﴿فَاسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَكَشَفۡنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرّٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَذِكۡرَىٰ لِلۡعَٰبِدِينَ﴾ [الأنبياء:84]
فاستَجَبنا دُعاءَه، فأزَلنا ما بهِ مِنْ مرَض، وأعَدنا إلَيهِ أهلَهُ - بأنْ أحيَاهُم اللهُ لهُ -، وأعطَينَاهُ مثلَهمْ معَهم - فوُلِدَ لهُ ضِعفُ ما كانَ -، نِعمَةً وهِبَةً لهُ مِنْ عندِنا، وليَكونَ ذلكَ عِبرَةً وعِظَةً لأمثالِهِ المُبتَلينَ منَ المؤمِنين، ليَصبِروا ويُثابُوا، ولئلاَّ يَظنُّوا أنَّ ما يُصيبُهمْ هوَ لهوانِهمْ على الله، فقدِ ابتَلَينا النبيَّ أيُّوبَ بمَرَضٍ شَديد، والأنبياءُ أكرَمُ الناسِ وأفضَلُهمْ عندَ الله.
﴿وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِدۡرِيسَ وَذَا الۡكِفۡلِۖ كُلّٞ مِّنَ الصَّـٰبِرِينَ﴾ [الأنبياء:85]
واذكُرْ إسماعيلَ، وإدريسَ، وذا الكِفْلِ. والأكثَرُ أنَّ الأخيرَ نبيٌّ أيضًا، فقدْ ذُكِرَ ضِمنَ الأنبياءِ عَليهمُ الصَّلاةُ والسَّلام. وكُلُّ هؤلاءِ كانوا ثابِتينَ على إيمانِهمْ وعُهودِهمْ معَ الله، أقوياءَ في عَزائمِهم، صابِرينَ على تَكاليفِ الدَّعوةِ والتَّبليغ.
﴿وَأَدۡخَلۡنَٰهُمۡ فِي رَحۡمَتِنَآۖ إِنَّهُم مِّنَ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [الأنبياء:86]
وجعَلناهُمْ في جُملَةِ مَنْ رَحِمناهُمْ مِنْ عِبادِنا، إنَّهمْ مِنَ المُطيعينَ لرَبِّهم، المُفلِحينَ في عمَلِهم، المَقبولينَ عندَ ربِّهم.
﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [الأنبياء:87]
واذكُرْ عَبدَنا ونَبيَّنا يونُسَ بنَ مَتَّى، صاحِبَ الحوت، الذي دعا قَومَهُ فأبَوا، فوعدَهمْ بالعَذاب، مُنتَظِرًا أنْ يَحِلَّ بهم، ثمَّ هجَرَهمْ وهوَ غاضِبٌ عَليهم، قَبلَ أنْ يأذنَ اللهُ لهُ بالهِجرَة، وقدْ ظَنَّ أنَّ اللهَ لنْ يَقضِيَ عَليهِ بعُقوبَة، ولنْ يُضَيِّقَ عَليه، فرَكِبَ البَحر، وابتلَعَهُ الحوت، وبَقيَ في بَطنِهِ ولم يَهضِمْه، بأمرِ الله، فدَعا وهوَ في ظُلمَةِ بَطنِ الحوت، وظُلمَةِ البَحر، وظُلمَةِ اللَّيل، قائلاً: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}: لا مَعبودَ بحَقٍّ سِوَاكَ يا رَبّ، يا واحِدُ يا أحَد، إنِّي ظَلَمتُ نَفسي بهِجرَتي قَومي دونَ إذنٍ وأمْرٍ منك، فاغفِرْ لي، وتُبْ عَليّ.
﴿فَاسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ الۡغَمِّۚ وَكَذَٰلِكَ نُـۨجِي الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأنبياء:88]
فاستَجَبنا دُعاءَه، وقَبِلنا توبَتَه، وأخرَجناهُ مِنْ بَطنِ الحوت، ونَجَّيناهُ مِنْ تلكَ الظُّلُمات، وكذلكَ نَستَجيبُ دُعاءَ المؤمِنينَ في الكُرَبِ والشَّدائدِ إذا دعَونا واستَغاثُوا بنا. وخاصَّةً بدُعاءِ يونُسَ عَليهِ السَّلام، فقدْ صَحَّ في الحَديثِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: "دَعوَةُ ذي النُّونِ التي دَعا بها في بَطنِ الحوت: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لم يَدْعُ بها مُسلِمٌ في كُرْبَةٍ إلاّ استَجابَ له". واللَّفظُ للحاكِم.
﴿وَزَكَرِيَّآ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ رَبِّ لَا تَذَرۡنِي فَرۡدٗا وَأَنتَ خَيۡرُ الۡوَٰرِثِينَ﴾ [الأنبياء:89]
واذكُرْ خَبَرَ عَبدِنا ونبيِّنا زَكريّا، الذي كَبِرَ في السِّنّ، وزَوجُهُ عاقِر، فلم يُرزَقْ بولَد، فدَعا ربَّهُ وهوَ غَيرُ يائسٍ مِنْ رَحمتِهِ وإجابَةِ دَعوَتِه: اللهمَّ لا تُبقِني وحيدًا لا وارِثَ لي، أسألُكَ أنْ تَهَبَني ولَدًا يَكونُ نبيًّا في النَّاسِ كما كنتُ، وأنتَ الباقي بعدَ فَناءِ الخَلق، وأفضَلُ مَنْ بَقيَ حَيًّا.
﴿فَاسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَوَهَبۡنَا لَهُۥ يَحۡيَىٰ وَأَصۡلَحۡنَا لَهُۥ زَوۡجَهُۥٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي الۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ﴾ [الأنبياء:90]
فاستَجَبْنا لهُ دُعاءَه، ووَهَبْنا لهُ يَحيَى، بعدَ أنْ أصلَحنا لهُ زَوجَهُ فجعَلناها وَلُودًا.
وكانَ الأنبِياءُ المَذكورونَ عابِدينَ صالِحين، يُسارِعونَ في عمَلِ الطَّاعاتِ وأنواعِ القُرُبات، حُبًّا في اللهِ وما عندَهُ مِنَ الثَّواب، وخَوفًا ورَهبَةً مِنْ نِقمَتِهِ وعذابِه، وكانوا مُتضَرِّعينَ إلى رَبِّهم، مؤمِنينَ مُخبِتين.
﴿وَالَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَٰهَا وَابۡنَهَآ ءَايَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأنبياء:91]
واذكُرْ أَمَتَنا مَريَمَ بنتَ عِمران، التي تبتَّلَتْ وامتَنَعَتْ عنِ الزَّواج، وحَفِظَتْ فَرْجَها مِنَ الحَرام، فنفَخنا فيهِ بواسِطَةِ جِبريل، وجعَلنا حالَها معَ ابنِها المَسيحِ عيسَى مُعجِزَةً للنَّاس، فحمَلَتْ مِنْ دونِ نِكاح، ووُلِدَ مِنْ غَيرِ أب، وهوَ دَليلٌ على قُدْرَةِ الله.
﴿إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَاعۡبُدُونِ﴾ [الأنبياء:92]
إنَّ دِينَكمْ دِينٌ واحِد، وهوَ مِلَّةُ التَّوحيدِ والإسْلام، وأنا رَبُّكم، خالِقُكمْ ورازِقُكم، ومُنزِلُ هذا الدِّينِ عَليكم، فوَحِّدوني وأطِيعوا أمرِي.
﴿وَتَقَطَّعُوٓاْ أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡۖ كُلٌّ إِلَيۡنَا رَٰجِعُونَ﴾ [الأنبياء:93]
وتفَرَّقَتِ الأُمَمُ في أمرِ دِينِ اللهِ واختلَفوا، وصاروا فِرَقًا وأحزابًا، وكانوا بينَ مؤمِنٍ وكافِر، وكُلُّهمْ راجِعونَ إلَينا يَومَ القيامَة، ليُجازَى كُلٌّ بما عَمِل.
﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ الصَّـٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا كُفۡرَانَ لِسَعۡيِهِۦ وَإِنَّا لَهُۥ كَٰتِبُونَ﴾ [الأنبياء:94]
فمَنْ يَعمَلْ مِنَ الأعمالِ الحسَنَة، الموافِقَةِ للشَّريعَة، وهوَ مؤمِنٌ بها، مُصَدِّقٌ بالثَّوابِ والعِقابِ مِنَ الله، فلنْ يُحْرَمَ ثَوابَ عمَلِه، ونحنُ حافِظونَ لهُ سَعيَه، ومُثبِتونَهُ كلَّهُ في صَحيفَةِ عمَلِه، لا يَضيعُ منهُ شَيء.
﴿وَحَرَٰمٌ عَلَىٰ قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَآ أَنَّهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ﴾ [الأنبياء:95]
ومُمتَنَعٌ على أهلِ قَريَةٍ أهلَكناهُمْ لِظُلمِهمْ وتَكذيبِهمْ رسُلَ اللهِ أنْ يَرجِعوا مرَّةً أُخرَى إلى الدُّنيا، قَبلَ يَومِ القيامَة.
﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فُتِحَتۡ يَأۡجُوجُ وَمَأۡجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٖ يَنسِلُونَ﴾ [الأنبياء:96]
حتَّى إذا فُتِحَ المَجالُ لخرُوجِ قَبيلَتي يأجوجَ ومأجوجَ مِنْ وراءِ سَدِّ ذي القَرنَين، إذا همْ مِنْ كُلِّ مُرتفِعٍ يُسرِعون، ليَنشُروا الفَسادَ في الأرْض. وهذا مِنْ عَلاماتِ القيامَةِ الكُبرَى، ويَكونُ بعدَ مَقتَلِ الدَّجَّال.
﴿وَاقۡتَرَبَ الۡوَعۡدُ الۡحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَٰخِصَةٌ أَبۡصَٰرُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَٰوَيۡلَنَا قَدۡ كُنَّا فِي غَفۡلَةٖ مِّنۡ هَٰذَا بَلۡ كُنَّا ظَٰلِمِينَ﴾ [الأنبياء:97]
فإذا حصَلَتْ هذهِ الأهوَالُ والبلابِل، اقترَبَ يَومُ القِيامَة، وَعْدُ اللهِ الحَقُّ الذي وعَدَ بهِ عِبادَهُ للحِسابِ والجَزاء، وإذا الكُفّارُ شاخِصَةٌ أبصارُهمْ لا تَطْرِف(84)؛ لشِدَّةِ ما يَرَونَ مِنَ الأهوَالِ والأُمورِ العِظام، ويَقولون: يا هَلاكَنا ويا حَسرَتَنا، لقدْ كُنَّا في الدُّنيا غافِلينَ عنْ هذا الذي حصَلَ لنا مِنَ الحِسابِ والجَزاء، بلْ كُنّا مُعتَدِين، مُجانِبينَ الحَقّ، عندَما كذَّبْنا بآياتِ اللهِ ورُسُلِه، وعَبَدْنا ما لا يُعْبَدُ.
(84) شاخصةً أبصارهم: أجفانُهم لا تَطْرِف. (مفردات الراغب).
يقال: شخصَ بصرهُ فهو شاخص: إذا فتحَ عينيهِ وجَعلَ لا يَطرف. وبصره: رفعه. وشخصَ شخوصًا: ارتفع. (روح البيان).
الشخوص: إحدادُ البصرِ دونَ تحرك، كما يقعُ للمبهوت. (التحرير).
﴿إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَٰرِدُونَ﴾ [الأنبياء:98]
إنَكمْ أيُّها الكافِرون، وما تَعبُدونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الأصْنامِ التي كنتُمْ تَرجُونَ شَفاعتَها، وَقُودُ جَهنَّم، وإنَّكمْ لداخِلونَ فيها، ولسَوفَ تُسعَرُ نارُها بكمْ ومِنكم.
﴿لَوۡ كَانَ هَـٰٓؤُلَآءِ ءَالِهَةٗ مَّا وَرَدُوهَاۖ وَكُلّٞ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [الأنبياء:99]
ولو كانتْ أصنامُكمْ هذهِ التي تَعبدُونَها آلِهَةً حَقًا، لدَافعَتْ عنْ نَفسِها ولم تَدخُلِ النَّار. وكُلُّكمْ ماكِثونَ فيها أبَدًا، أنتُمْ وأصنامُكم.
﴿لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَهُمۡ فِيهَا لَا يَسۡمَعُونَ﴾ [الأنبياء:100]
لهمْ في جَهنَّمَ زَفيرٌ شَديد، مِنَ الغَمِّ والألَمِ الفَظيع، وهمْ فيها لا يَسمَعون؛ لشِدَّةِ الكَرْبِ والبَلاءِ والعَذابِ الذي يُصيبُهم.