تفسير سورة المؤمنون

  1. سور القرآن الكريم
  2. المؤمنون
23

﴿وَإِنَّ لَكُمۡ فِي الۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ كَثِيرَةٞ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ﴾ [المؤمنون:21]


وإنَّ لكمْ آيةً واعتِبارًا في الأنعَامِ(91) التي سَخَّرناها لكمْ، فنَسقِيكُمُ اللَّبَنَ المُفيدَ اللَّذيذَ مِنْ بُطونِها، ولكمْ مَنافِعُ أخرَى كثيرَةٌ منها، فتَلبَسونَ مِنْ أصوافِها وأوبارِها، وتأكلونَ مِنْ لحومِها، وتتاجِرونَ فيها.

(91) هيَ الإبِلُ والبقرُ والغنمُ والمـَعْز.

﴿وَعَلَيۡهَا وَعَلَى الۡفُلۡكِ تُحۡمَلُونَ﴾ [المؤمنون:22]


وتركَبونَ ظُهورَها في البَرّ، وتَحمِلُ أمتِعتَكمُ الثَّقيلَةَ إلى أماكِنَ بَعيدَة، كما سَخَّرَ لكمُ السُّفُنَ تَجري في البَحر، تَحمِلُكمْ وتَحمِلُ أثقالَكم.

﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَقَالَ يَٰقَوۡمِ اعۡبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون:23]


ولقدْ أرسَلنا عَبدَنا نُوحًا إلى قَومِهِ الكافِرين، وكانوا بالعِراق، يَدعوهمْ إلى الإيمان، ويُنذِرُهمُ انتِقامَ اللهِ وعذابَه، فقالَ لهم: يا قَومي اعبُدوا اللهَ ووَحِّدوه، ولا تُشرِكوا بهِ شَيئًا، فليسَ لكمْ في الوجُودِ مَعبودٌ سِوَاه، أفلا تَخافُونَ عُقوبتَهُ إذا عَبدَتُمْ غَيرَه؟

﴿فَقَالَ الۡمَلَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيۡكُمۡ وَلَوۡ شَآءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَـٰٓئِكَةٗ مَّا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِيٓ ءَابَآئِنَا الۡأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون:24]


فقالَ كُبَراءُ قَومِهِ ورُؤساءُ الكُفرِ منهم: ما نوحٌ إلاّ واحِدٌ مِنْ جِنسِكم، وفي مِثلِ حالِكم، وهوَ يُريدُ بادِّعائهِ النبوَّةَ أنْ يَسُودَكمْ ويَرفَعَ شأنَهُ عَليكم، ولو أرادَ اللهُ أنْ يَبعَثَ نبيًّا أرسَلَ مَلَكًا مِنْ عندِه، ولم نَسمَعْ أنَّ اللهَ أرسَلَ نبيًّا في تاريخِ آبائنا وأجدادِنا السَّابِقين!

﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا رَجُلُۢ بِهِۦ جِنَّةٞ فَتَرَبَّصُواْ بِهِۦ حَتَّىٰ حِينٖ﴾ [المؤمنون:25]


وقالوا: ما نُوحٌ إلاّ رَجلٌ مَجنونٌ بادِّعائهِ النبوَّة، فانتَظِروا مُدَّةً لعلَّهُ يُفِيقُ منْ جُنونِه، أو تَحَمَّلُوهُ حتَّى يموتَ فتَتَخَلَّصوا منه.

﴿قَالَ رَبِّ انصُرۡنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ [المؤمنون:26]


ولمّا يَئسَ نُوحٌ عليهِ السَّلامُ مِنْ إيمانِ قَومِه، وقدْ صَبرَ على دَعوَتِهمْ مئاتِ السِّنين، دعا ربَّهُ قائلاً: اللهمَّ انصُرني عَليهم، بسبَبِ تَكذيبِهمْ إيّاي، وإصرارِهمْ على الكُفر.

﴿فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ اصۡنَعِ الۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ اثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ الۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ﴾ [المؤمنون:27]


فاستَجَبنا دُعاءَه، وأوحَينا إليهِ أنِ اصنَعِ السَّفينَةَ بحِفظِنا ورِعايَتِنا لك، وبأمرِنا وتَعليمِنا لكَيفيَّةِ صُنعِها، فإذا جاءَ أمرُنا بإنزَالِ العَذابِ بهم، وهوَ إغراقُهمْ بالطُّوفان، وفارَ التَّنُّور، وهوَ المَوقِدُ يَفورُ منهُ الماء، أو كفَورَةٍ بُركانيَّة، تَكونُ علامَةً لهُ عَليهِ السَّلام، فأدْخِلْ في السَّفينةِ مِنْ كُلِّ صِنفٍ مِنَ الحيَواناتِ والنَّباتاتِ - ممّا عَيَّنَهُ اللهُ له - زَوجَينِ اثنَين، ذَكَرًا وأُنثَى، واحمِلْ فيها أهلَكَ(92)، إلاّ مَنْ سبقَ قَضاءُ اللهِ عَليهمْ بالهَلاك، وهمُ الذينَ لم يؤمِنوا منهم، زَوجَتُهُ وابنٌ له. ولا تَدْعُني في الذينَ كفَروا مِنْ قَومِك، ولا تأخُذْكَ رأفَةٌ بهمْ عندَما تُعاينُ عَذابَهم، فقدْ قضَيتُ عَليهمْ بالإغرَاق، ولا أقبَلُ شَفاعَةً فيهم.

(92) هم وُلْدُهُ ونساؤهم. (الطبري). المرادُ به امرأتهُ وبنوه. (روح البيان). يريدُ قرابتَهُ، ثم استثنى... (ابن عطية).

﴿فَإِذَا اسۡتَوَيۡتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الۡفُلۡكِ فَقُلِ الۡحَمۡدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّىٰنَا مِنَ الۡقَوۡمِ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [المؤمنون:28]


فإذا اعتدَلْتَ أنتَ ومَنْ معكَ مِنْ أهلِكَ وأتباعِكَ المؤمِنينَ على السَّفينَة، فقُلْ: الحَمدُ للهِ الذي أنعَمَ عَلَينا فأنجَانا مِنَ القَومِ الكافِرينَ الظَّالِمِين.

﴿وَقُل رَّبِّ أَنزِلۡنِي مُنزَلٗا مُّبَارَكٗا وَأَنتَ خَيۡرُ الۡمُنزِلِينَ﴾ [المؤمنون:29]


وقُلْ: {رَبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}: اللهمَّ أنْزِلنا إنْزالاً مُبارَكًا، يَكونُ فيهِ نَفعٌ وخَيرٌ وبرَكَة، فأنتَ خَيرُ مَنْ يَفعلُ ذلك، بيَدِكَ الخَيرُ كُلُّه.

﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ وَإِن كُنَّا لَمُبۡتَلِينَ﴾ [المؤمنون:30]


إنَّ في إهلاكِ الكافِرينَ، وإنجَاءِ المؤمِنينَ، وما كانَ مِنْ أمرِ الطُّوفان، لَعِبَرًا كثيرَة، وآياتٍ جَليلَةً، تَدُلُّ على صِدْقِ نبوَّةِ نُوحٍ عليهِ السَّلام، وصِدْقِ ما أنذَرَ منه. وإنَّا لَمُختَبِرونَ العِبادَ بإرسَالِ الرُّسُل، والأمرِ والنَّهي، لنَنظُرَ مَنْ يَعقِلُ فيتَدَبَّرُ ويؤمِنُ ويُطيع، أو يُعانِدُ فيأبَى ويَكفُرُ ويَعصي.

﴿ثُمَّ أَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ﴾ [المؤمنون:31]


ثمَّ أنشَأنا منْ بعدِ إهلاكِ قَومِ نُوحٍ قَومًا آخَرين. ذُكِرَ أنَّ المَقصودَ بهمْ عادٌ وثَمود.

﴿فَأَرۡسَلۡنَا فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ أَنِ اعۡبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون:32]


فأرسَلنا فيهمْ رَسُولاً منهمْ - هودًا أو صالِحًا - وأمَرناهُمْ على لسانِ رَسولِهمْ بأنْ يَعبُدوا اللهَ ويُوَحِّدوه، ولا يُشرِكوا بهِ أحَدًا، فلا يوجَدُ في الكونِ إلهٌ غَيرُه. أفلا تَخافونَ اللهَ بشِرْكِكُمْ وكفرِكم، وتَكذيبِكمْ رَسولَ ربِّكم؟

﴿وَقَالَ الۡمَلَأُ مِن قَوۡمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الۡأٓخِرَةِ وَأَتۡرَفۡنَٰهُمۡ فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا مَا هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يَأۡكُلُ مِمَّا تَأۡكُلُونَ مِنۡهُ وَيَشۡرَبُ مِمَّا تَشۡرَبُونَ﴾ [المؤمنون:33]


وقالَ كُبَراءُ قَومِهِ المُعانِدونَ المُتَكَبِّرون، الذينَ كفَروا وكذَّبوا بالبَعثِ والحِسابِ يَومَ الدِّين، وقدْ أعطَيناهُمْ مِنَ الدُّنيا ووَسَّعنا عَليهمْ مِنَ الأموَالِ والأنفُسِ والثَّمراتِ ما نَشاء، قالوا: ما هذا الدَّاعي إلاّ واحِدٌ مِنْ بَني جِنسِكم، يأكلُ منَ الطَّعامِ الذي تأكلونَه، ويَشرَبُ مِنَ الماءِ الذي تَشرَبونَ منه،

﴿وَلَئِنۡ أَطَعۡتُم بَشَرٗا مِّثۡلَكُمۡ إِنَّكُمۡ إِذٗا لَّخَٰسِرُونَ﴾ [المؤمنون:34]


وإذا اعتَبَرتُمْ كلامَ إنسانٍ مثلِكمْ مُقَدَّسًا يَجِبُ أنْ يُنَفَّذ، فإنَّكمْ خائبونَ مُخطِؤون،

﴿أَيَعِدُكُمۡ أَنَّكُمۡ إِذَا مِتُّمۡ وَكُنتُمۡ تُرَابٗا وَعِظَٰمًا أَنَّكُم مُّخۡرَجُونَ﴾ [المؤمنون:35]


أهوَ يَعِدُكمْ أنَّكمْ إذا مِتُّمْ وبَلِيتُمْ، وصِرتُمْ تُرابًا وعِظامًا، ستَخرُجونَ منْ قُبورِكمْ أحياءً وتُحاسَبونَ على أعمالِكم؟!

﴿۞هَيۡهَاتَ هَيۡهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ﴾ [المؤمنون:36]


قالوا: إنَّ هذا الذي وُعِدْتُمْ بهِ بَعيدٌ بَعيد.

﴿إِنۡ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا نَحۡنُ بِمَبۡعُوثِينَ﴾ [المؤمنون:37]


قالوا: ليسَتْ هُناكَ حَياةٌ سِوَى حَياتِنا الدُّنيا هذه، يَموتُ بَعضُنا فيها ويُولَدُ آخَرون، ولنْ نُبْعَثَ بعدَ الموت!

﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افۡتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبٗا وَمَا نَحۡنُ لَهُۥ بِمُؤۡمِنِينَ﴾ [المؤمنون:38]


وقالوا: ما هذا الذي يَدَّعي أنَّهُ أُرسِلَ إليكمْ إلاّ رَجلٌ اختَلَقُ على اللهِ الكذِب، ولَسنا مُصَدِّقينَ بما يَقول، ولا بما يَعِدُ بهِ مِنَ المَعاد.

﴿قَالَ رَبِّ انصُرۡنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ [المؤمنون:39]


قالَ نَبيُّهمْ وقدْ يَئِسَ مِنْ إيمانِهم: اللهمَّ انتَقِمْ منهمْ بسبَبِ تَكذيبِهمْ إيّاي، وإصرارِهمْ على الكُفر.

﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٖ لَّيُصۡبِحُنَّ نَٰدِمِينَ﴾ [المؤمنون:40]


فاستَجابَ اللهُ دُعاءَه، وقالَ له: سيَنزِلُ بهمُ العَذابُ قَريبًا، وليَصيرُنَّ نادِمينَ مُتحَسِّرينَ على عِنادِهمْ ومُخالفَتِهمْ للدِّينِ الحقّ.