﴿أُوْلَـٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي الۡخَيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ﴾ [المؤمنون :61]
أولئكَ المُتَّصِفونَ بتلكَ الصِّفاتِ الجَليلَة، يُبادِرونَ إلى الأعمالِ الصَّالِحَة، وهمْ سابِقونَ إلى نَيلِها والظَّفَرِ بها.
﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ وَلَدَيۡنَا كِتَٰبٞ يَنطِقُ بِالۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ [المؤمنون :62]
ولا نُكَلِّفُ نَفسًا إلاّ بقَدْرِ ما تُطيقُ مِنَ الأعمَال، ولدَينا صَحائفُ أعمالِهمُ التي سَجَّلَها مَلائكتُنا، تُظهِرُ بالحقِّ والعَدْلِ ما كانوا يَقولونَ ويَعمَلونَ مِنْ خَيرٍ وشَرّ، ولا يُظلَمونَ في مُحاسبَتِهم، فلا يُنقَصونَ ثوابًا، ولا يُزادُونَ عَذابًا.
﴿بَلۡ قُلُوبُهُمۡ فِي غَمۡرَةٖ مِّنۡ هَٰذَا وَلَهُمۡ أَعۡمَٰلٞ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمۡ لَهَا عَٰمِلُونَ﴾ [المؤمنون :63]
بلْ قُلوبُ الكافِرينَ في غَفلَةٍ وجَهالَةٍ مِنْ هذا القُرآنِ العَظيم، ولهمْ أعمالٌ دونَ ما هُمْ عَليهِ مِنَ كُفرٍ وغَفلَة، مِنْ مَعاصٍ وذُنوبٍ أُخرَى، مُستَمِرُّونَ فيها ومُعتادُونَ على فِعلِها، لا يَنقَطِعونَ عنها.
﴿حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذۡنَا مُتۡرَفِيهِم بِالۡعَذَابِ إِذَا هُمۡ يَجۡـَٔرُونَ﴾ [المؤمنون :64]
ولا يَزالُونَ على هذا، حتَّى إذا أخَذنا أغنياءَهم، والمُتنَعِّمينَ مِنْ رؤسائهمْ وكُبرائهمْ بالعَذابِ والبَلاء، إذا همْ يَصرُخونَ ويَستَغيثون.
﴿لَا تَجۡـَٔرُواْ الۡيَوۡمَۖ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ﴾ [المؤمنون :65]
وقُلنا لهم: لا تَجزَعوا ولا تَصرُخوا ممّا حَلَّ بكمْ هذا اليَومَ مِنَ العَذاب، فإنَّهُ غَيرُ نافعِكم، ولا مُغيثَ لكمْ منه.
﴿قَدۡ كَانَتۡ ءَايَٰتِي تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَكُنتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡ تَنكِصُونَ﴾ [المؤمنون :66]
لقدْ كانتْ آياتي مِنَ القُرآنِ تُتلَى عَليكم، وتُقرَأُ بينَكم، فكنتُمْ تُعرِضونَ عنْ سَماعِها أشدَّ الإعراض، وتَمتنِعونَ عنْ طاعَةِ الله، ولا تأبَهونَ بأوامرِه.
﴿مُسۡتَكۡبِرِينَ بِهِۦ سَٰمِرٗا تَهۡجُرُونَ﴾ [المؤمنون :67]
تستَكبِرونَ وتَفتَخرونَ بالبيتِ الحرام، وتَقولونَ إنَّكمْ أهلُ بَيتِ الله، وأنتُمْ تَسْمُرونَ فيهِ بذِكرِ القُرآنِ والطَّعنِ فيه، فتَهجُرونَ الحرَمَ بذلك، ولا تُعَمِّرونَهُ بالعِبادَةِ كما أرَادَ الله.
﴿أَفَلَمۡ يَدَّبَّرُواْ الۡقَوۡلَ أَمۡ جَآءَهُم مَّا لَمۡ يَأۡتِ ءَابَآءَهُمُ الۡأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون :68]
أفلَمْ يِتدَبَّروا القُرآن، ويتَفهَّموا أحكامَهُ وأخبارَه، ووَعدَهُ ووَعِيدَه، ليَعتَبِروا، ويَعرِفوا أنَّهُ كتابٌ سَماويٌّ مُعجِز، وبُرهانٌ على صِدقِ النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ أمْ أنَّهُ جاءَهمْ ما لم يَعْهَدوهُ في آبائهمْ وأجدادِهمْ فأنكَروه؟ إنَّ الواجِبَ عَليهمْ أنْ يؤمِنوا، ولا يَبقوا كآبائهم، فقدْ نزلَ القُرآنِ فيهمْ دونَ سابقِيهم، وعَليهمْ أنْ يُدرِكوا هذهِ النعمَةَ العَظيمَة، فيَشكروا اللهَ عليها ويؤمِنوا.
﴿أَمۡ لَمۡ يَعۡرِفُواْ رَسُولَهُمۡ فَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ﴾ [المؤمنون :69]
أمْ أنَّهمْ لم يَعرِفوا نبيَّهمْ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم الذي أُرسِلَ مِنْ بينِهم، في صِغَرِهِ وكِبَرِه، في صِدقِهِ وأمانتِه، وفي حِلمِهِ ووَفائهِ بالعُهود، وفي صَبرِهِ وشَفقَتِهِ على قَومِه، وفي كُلِّ كَمالٍ يَنشُدُهُ الإنسانُ مِنْ خُلُقٍ وعمَل، ولذلكَ فهمْ يُنكِرونَ نبوَّتَه؟!
﴿أَمۡ يَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةُۢۚ بَلۡ جَآءَهُم بِالۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَٰرِهُونَ﴾ [المؤمنون :70]
أمْ أنَّ سُفَهاءَ المُشرِكينَ يَقولونَ إنَّ محمَّدًا قدْ أصابَهُ مَسٌّ مِنَ الجُنونِ فهوَ يَهذي بما لا يَعرِف؟! بلْ جاءَهمْ بالحَقِّ والعَدل، والصِّدقِ الذي لا يُنكَر، لوضوحِه، ولتأييدِهِ بالمُعجِزاتِ الظَّاهِرَةِ والمُقنِعَة، ولكنَّ أكثرَهمْ مُعانِدون، كارِهونَ للحَقّ، مُبغِضونَ للحُجَّةِ والدَّليلِ مادامَ ليسَ في هَواهُم، فلا عجبَ أنْ لا يُؤمِنوا وهمْ كذلك، وقدْ دَلَّ مَوقِفُهمْ على طَبيعَتِهمُ المُنحَرِفَة، وزَيغِهمْ وضَلالِهم.
﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ﴾ [المؤمنون :71]
ولو اتَّبَعَ اللهُ مُرادَهمْ فيما يَفعَل، وأجابَهمْ إلى ما في أنفُسِهمْ مِنَ الهَوى، وشرَعَ الأمورَ على مُعتقَداتِهمُ الشِّرْكيَّة، لفسَدَ ما في السَّماواتِ والأرض، وبطَلَ ما فيهما منْ حَياةٍ وعمَل، لأهوائهمُ الفاسِدَة، واختِلافِ آرائهمْ وتَناقُضِها وتَهافُتِها، وعدَمِ واقعِيَّتِها وملاءَمَتِها للحقَائقِ الكَونيَّة، لجَهلِهمْ وعدَمِ مَعرِفَتِهمْ بنواميسِها ودِقَّتِها، بلْ أتَيناهُمْ بالقُرآنِ الكَريم، الذي فيهِ الحَقُّ المُطلَق، وفيهِ عِزُّهمْ وفَخرُهم، ولكنَّهمْ مُعرِضونَ عنْ مَصدَرِ عِزِّهمْ وشرَفِهمْ هذا، غَيرُ مُبالِينَ بهِ ولا مُقبِلينَ عَليه.
﴿أَمۡ تَسۡـَٔلُهُمۡ خَرۡجٗا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيۡرٞۖ وَهُوَ خَيۡرُ الرَّـٰزِقِينَ﴾ [المؤمنون :72]
أمْ تَسألُهمْ على تَبليغِ الرِّسالَةِ أجرًا فلأجلِ ذلكَ يَبتَعِدونَ عنكَ ولا يؤمِنونَ برِسالَتِك؟ وما يُعطيكَ اللهُ مِنْ رِزْقٍ في الدُّنيا وثَوابٍ في الآخِرَة، خَيرٌ لكَ مِنْ مِنَّةِ النَّاس، وهوَ أفضَلُ مَنْ يُعطي ويَتكرَّم، وما عِندَهُ خَيرٌ ممّا عندَ غَيرِه.
﴿وَإِنَّكَ لَتَدۡعُوهُمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [المؤمنون :73]
وإنَّكَ لتَدعوهمْ إلى الإسْلام، دينِ اللهِ المُستَقيم، الذي لا اعوِجاجَ فيهِ ولا هَوًى.
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِالۡأٓخِرَةِ عَنِ الصِّرَٰطِ لَنَٰكِبُونَ﴾ [المؤمنون :74]
وإنَّ الكافِرينَ الذينَ لا يؤمِنونَ بالبَعث، والحِسابِ والجَزاء، زائغُونَ عنِ الصِّراطِ المُستَقيم، جائرونَ مُنحَرِفون.
﴿۞وَلَوۡ رَحِمۡنَٰهُمۡ وَكَشَفۡنَا مَا بِهِم مِّن ضُرّٖ لَّلَجُّواْ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ﴾ [المؤمنون :75]
ولو رَأفنا بهم، ورفَعنا عنهمْ سُوءَ الحالِ الذي همْ فيه، لمَا قابَلوا هذهِ النِّعمَةَ بالشُّكرِ والإيمان، بلِ استمَرُّوا في عِنادِهمْ وكُفرِهم، وتَكذيبِهمْ رَسولَ رَبِّهم، مُتَرَدِّدينَ في الجَهلِ والضَّلال.
﴿وَلَقَدۡ أَخَذۡنَٰهُم بِالۡعَذَابِ فَمَا اسۡتَكَانُواْ لِرَبِّهِمۡ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ [المؤمنون :76]
ولقدِ ابتَليناهمْ بالشَّدائدِ والنَّكبات، فما خضَعوا بذلكَ لرَبِّهمْ وما انقادُوا لأمرِه، وما دعَوهُ ليَكشِفَ ما بهم، لشِدَّةِ عُتوِّهمْ وإمعانِهمْ في الكُفر.
﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَابٗا ذَا عَذَابٖ شَدِيدٍ إِذَا هُمۡ فِيهِ مُبۡلِسُونَ﴾ [المؤمنون :77]
حتَّى إذا جاءَ يَومُ القيامَة، وحقَّ عَليهمُ الجَزاء، وأصابَهمْ عَذابٌ شَديدٌ بما كانوا يَعمَلون، إذا همْ آيسُونَ مِنْ كُلِّ خَير، ومُنقَطِعونَ مِنْ كُلِّ رَجاء.
﴿وَهُوَ الَّذِيٓ أَنشَأَ لَكُمُ السَّمۡعَ وَالۡأَبۡصَٰرَ وَالۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ﴾ [المؤمنون :78]
هوَ الإلهُ الحَقّ، الذي أنشَأ لكمُ السَّمعَ والأبصارَ لتَسمَعوا وتُبصِروا آياتِ الله، والأفئدَةَ لتتَفكَّروا وتَستَدِلُّوا بها على قُدرَتِهِ وعظَمتِه، ولكنَّكمْ قَليلاً ما تَشكرونَ هذهِ النِّعَم، التي تَنفَعُكمْ لو أحسَنتُمُ استِعمالَها.
﴿وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمۡ فِي الۡأَرۡضِ وَإِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾ [المؤمنون :79]
وهوَ الذي خلقَكمْ ونشرَكمْ في الأرْض، وإليهِ تُبعَثونَ وتَجتَمِعونَ يومَ القيامَة.
﴿وَهُوَ الَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخۡتِلَٰفُ الَّيۡلِ وَالنَّهَارِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [المؤمنون :80]
وهوَ وحدَهُ الذي يُحيي المَوتَى، ويُميتُ الأُمَم، وهوَ الذي يَجعَلُ اللَّيلَ والنَّهارَ مُتعَاقِبَين، فيَذهِبُ هذا ويَجيءُ الآخَر، وهكذا، لا يَفتُرُ كُلٌّ منهما مِنْ طلَبِ الآخَر، ويَجعَلُ فيهما الزيادَةَ والنُّقصان. أفلا تتَفكَّرونَ في هذا وتتَدبَّرونَه، بأسماعِكمْ وأبصارِكمْ وأفئدَتِكم، لتَستَدِلُّوا بها على الخَلاّقِ العَليم؟