﴿۞يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيۡطَٰنِۚ وَمَن يَتَّبِعۡ خُطُوَٰتِ الشَّيۡطَٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأۡمُرُ بِالۡفَحۡشَآءِ وَالۡمُنكَرِۚ وَلَوۡلَا فَضۡلُ اللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ أَبَدٗا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ﴾ [النور :21]
أيُّها المؤمِنون، لا تتَّبِعوا مسالِكَ الشَّيطانِ وطُرُقَهُ الخبيثَة، وما يوَسوِسُ بهِ في نفُوسِكمْ ويُزَيِّنُهُ في قُلوبِكمْ مِنْ إشاعَةِ الفاحِشَة، ومَنْ يَسلُكْ طُرُقَهُ فإنَّهُ يَكونُ ساعيًا وآمِرًا بالأفعالِ القَبيحَة، التي يُنكِرُها الشَّرعُ لضَرَرِها وآثارِها السيِّئة.
ولولا فَضلُ اللهِ عَليكمْ ورَحمَتُهُ بكم، ومنها بَيانُ عُقوبَةِ مَنْ يُشِيعُ الفاحِشَةَ في المُجتمَع، ثمَّ تَوفيقُكمْ للتَّوبَة، لمَا طهَّرَ أحَدًا منكمْ مِنَ الذُّنوبِ والأخلاقِ الدَّنيئةِ أبَدًا، ولكنَّ اللهَ يُطَهِّرُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلقِه، بتَسديدِهمْ وهِدايَتِهمْ للتَّوبَة، ثمَّ قَبولِها منهم. واللهُ سَميعٌ لأقوالِ عِبادِه، عَليمٌ بنيَّاتِهمْ في الإخلاصِ والتَّوبَة.
﴿وَلَا يَأۡتَلِ أُوْلُواْ الۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَالسَّعَةِ أَن يُؤۡتُوٓاْ أُوْلِي الۡقُرۡبَىٰ وَالۡمَسَٰكِينَ وَالۡمُهَٰجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِۖ وَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ اللَّهُ لَكُمۡۚ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌ﴾ [النور :22]
وكانَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يُنفِقُ على قَريبٍ له، ولمَّا كانَ ممَّنْ خاضَ في الإفكِ قطعَهُ عنه، وحلَفَ أنْ لا يُنفِقَ عليه، وكانَ مِنَ المُهاجِرينَ المسَاكين. ولمَّا نزَلَتْ بَراءَةُ عائشَةَ رَضيَ اللهُ عنها، وأُقيمَ حَدُّ القَذْفِ على مَنْ أُقيم، ومنهمْ مِسطَحٌ ابنُ خالَةِ أبي بَكر... نزَلَتِ الآيَة.
ولا يَحلِفَنَّ أهلُ الصَّدَقَةِ والإحسَانِ منكمْ أنْ لا يُؤتُوا ذَوي قُرباهُمْ والفُقَراءَ منهمْ والمُهاجِرينَ في سَبيلِ الله، ولْيَعْفُوا عمّا صدَرَ منهمْ مِنَ الإساءَةِ والأذَى، ألا تُحِبُّونَ أنْ يُثيبَكمُ اللهُ على إحسانِكمْ وعَفوِكمْ عَنهم، بأنْ يَغفِرَ لكمْ ذُنوبَكم، وهوَ الذي يَغفِرُ الذنوبَ، ويَرحَمُ عِبادَهُ، ويُدخِلُهمُ الجنَّة؟
فقالَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: بَلَى واللهِ إنَّا نُحِبُّ يا ربَّنا أنْ تَغفِرَ لنا. وعادَ إلى صِلَةِ قَريبِهِ بالنَّفَقَة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرۡمُونَ الۡمُحۡصَنَٰتِ الۡغَٰفِلَٰتِ الۡمُؤۡمِنَٰتِ لُعِنُواْ فِي الدُّنۡيَا وَالۡأٓخِرَةِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾ [النور :23]
إنَّ الذينَ يَقذِفونَ العَفيفاتِ البَعيداتِ عنِ التُّهَم، المُؤمِناتِ، بالزِّنا، أُبعِدوا منَ الرَّحمَة، فعُذِّبوا في الدُّنيا بالحَدّ، وفي الآخِرَةِ بالنَّار، ولهمْ معَ الَّلعنِ عَذابٌ كبيرٌ هائل.
﴿يَوۡمَ تَشۡهَدُ عَلَيۡهِمۡ أَلۡسِنَتُهُمۡ وَأَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [النور :24]
في يَومِ الحِسابِ والجَزاء، تَشهَدُ ألسِنَتُهمْ وأيديهمْ وأرجلُهمْ على أقوالِهمُ وأفعالِهمُ السيِّئة، فتَنطِقُ بقُدرَةِ الله، وتُخبِرُ كُلُّ جارِحَةٍ بما جنَتْهُ.
﴿يَوۡمَئِذٖ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الۡحَقَّ وَيَعۡلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الۡحَقُّ الۡمُبِينُ﴾ [النور :25]
في ذلكَ اليَومِ يُحاسِبُهمُ اللهُ ويُجازِيهمْ على أعمالِهم، ويَعلَمونَ عندَ مُعايَنَتِهمُ العَذابَ أنَّ وعدَ اللهِ حَقّ، وأنَّ حِسابَهُ عَدْل.
﴿الۡخَبِيثَٰتُ لِلۡخَبِيثِينَ وَالۡخَبِيثُونَ لِلۡخَبِيثَٰتِۖ وَالطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَۖ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ﴾ [النور :26]
الخَبيثاتُ السَّيِّئاتُ مِنَ النِّساءِ مُناسِباتٌ ولائقاتٌ بالخَبيثينَ السَّيِّئينَ مِنَ الرِّجال، والخَبيثونَ منهمْ لائقونَ بالخَبيثاتِ منهنّ ومُوافِقونَ لَهُنّ، والطيِّباتُ العَفيفاتُ مِنَ النِّساءِ مُختَصَّاتٌ بالطيِّبينَ مِنَ الرِّجال، والطيِّبونَ منهمْ مُختَصُّونَ بالطيِّباتِ منهنّ، وهمْ بَعيدونَ عمّا يَقولُهُ أهلُ الزُّورِ والبُهتان، لهمْ مَغفِرَةٌ عَظيمَةٌ عندَ رَبِّهم، بسبَبِ صَبرِهمْ على ما قيلَ فيهم، وجنَّةُ عَدْنٍ يُقيمونَ فيها.
والإشارَةُ فيها إلى عائشَةَ رَضيَ اللهُ عنها. قالوا: وحَيثُ إنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أطيَبُ الطيِّبين، فإنَّ الصِّدِّيقَةَ رَضيَ اللهُ عنها أطيَبُ الطيِّباتِ بالضَّرورَة.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور :27]
أيُّها المؤمِنون، لا تَدخُلوا بيوتًا - ماعدا بيوتَكم - حتَّى تَستأذِنوا مِنْ أهلِها (ثَلاثًا)، وتُسَلِّموا على السَّاكنينَ فيها، فإنَّ الاستِئذانَ خَيرٌ لكمْ مِنَ الدُّخولِ فَجأة.
﴿فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَدٗا فَلَا تَدۡخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤۡذَنَ لَكُمۡۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارۡجِعُواْ فَارۡجِعُواْۖ هُوَ أَزۡكَىٰ لَكُمۡۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ﴾ [النور :28]
فإنْ لم تَجِدوا في البُيوتِ أحدًا يأذَنُ لكمْ بالدُّخول، فاصبِروا ولا تَدخُلوها حتَّى يُسمَحَ لكمْ به، لأنَّ فيهِ تَصَرُّفًا في مُلْكِ الغَيرِ بغَيرِ رِضاه، والدُّخولُ بغَيرِ إذنٍ سبَبٌ للقِيلِ والقَال. وإذا طُلِبَ مِنكمُ الرُّجوعُ فارجِعوا ولا تُلِحُّوا في الدُّخُول، فإنَّهُ أطهَرُ لقُلوبِكم، وأنفَعُ لدينِكمْ ودُنياكُم. واللهُ عَليمٌ بما تأتونَ وما تَترُكونَ ممّا كَلَّفَكمْ به، ومنهُ الدُّخولُ بإذنٍ أو بغَيرِ إذن.
﴿لَّيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ مَسۡكُونَةٖ فِيهَا مَتَٰعٞ لَّكُمۡۚ وَاللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ﴾ [النور :29]
ليسَ عَليكمْ حرَجٌ أنْ تَدخُلوا بغَيرِ استِئذانٍ بيوتًا ليسَ فيها أحَد، كأماكنِ إيواءِ الأمتِعَةِ والرِّحال. والمَقصودُ البيوتُ غَيرُ المُخصَّصَةِ لسُكنَى طائفَةٍ مُعَيَّنَة، كالفنادقِ والحوانيتِ والحمَّاماتِ وما إليها. واللهُ مُحيطٌ بما تُظهِرونَ وما تُسِرُّون.
وهوَ وَعيدٌ لمَنْ يَدخلُ أماكِنَ بقَصدِ الفساد، أو للاطِّلاعِ على أسرارِ النَّاسِ وعَوراتِهم.
﴿قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ﴾ [النور :30]
قُلْ للمُؤمِنينَ يَصرِفوا أبصارَهمْ عنِ النظَرِ إلى الحرَام، كالنظَرِ إلى العَوراتِ وإلى النِّساءِ الأجنَبيَّات، وإلى ما يورِثُ الفِتنَةَ ويُوقِعُ في المَحذُور. وَلْيَحفَظوا فروجَهمْ عمَّا لا يَحِلُّ لهم، كالزِّنا واللِّواطِ وغَيرِه، فإنَّ غَضَّ البصَرِ وحِفظَ الفَرْجِ خَيرٌ لهمْ وأطهَرُ لقُلوبِهم، وأصلَحُ لنفُوسِهم، واللهُ عَليمٌ بما يَفعَلون، وسيُجازي كُلاًّ بما عَمِل.
﴿وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ التَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي الۡإِرۡبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفۡلِ الَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ النِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [النور :31]
وقُلْ للمؤمِناتِ كذلكَ يَصرِفْنَ أبصارَهُنَّ عمَّا لا يَحِلُّ لهنَّ النظَرُ إليه، ويَحفَظْنَ فُروجَهنَّ عنِ الحَرام، ولا يُظهِرْنَ شَيئًا ممّا يتَزَيَّنَّ بهِ مِنَ الحُلِيّ، إلاّ ما لا يُمكِنُ إخفاؤه، كالرِّداءِ والثِّياب، أو الخاتَمِ والخِضاب. وفيهِ خِلافٌ مَشهور، بينَ مَنْ قالَ إنَ المَقصودَ بـ "ما ظهرَ منها" الوَجهُ والكَفَّان، ومَنْ قالَ غيرَ ذلك.
وَلْيُرسِلْنَ بخُمُرِهِنَّ - جَمْعُ خِمار، وهوَ السِّتْر - على صُدورِهِنّ، لئلاّ يُرَى منها شَيء.
ولا يُظهِرْنَ زِينتَهُنَّ الخَفيَّةَ إلاّ لأزواجِهِنَّ، أو آبائهنَّ، أو آباءِ أزواجِهنَّ، أو أبنائهنَّ، أو أبناءِ أزواجِهنَّ، أو إخوانِهنَّ، أو بَني إخوانِهنَّ، أو نِسائهِنَّ - يَعني المُسلِماتِ دونَ الكافِرات - أو ما ملَكَتْ أيمانُهُنَّ مِنَ الإمَاء، ولو كُنَّ كافِرات، أو الأُجَراءِ والأتْباعِ الذينَ لا مَيلَ ولا حاجَةَ لهمْ إلى النِّساء، كالأبلَهِ والمُغَفَّل، والطَّاعنِ في السِّنِّ الذي فَنِيَتْ شَهوَتُه، والمَمسوحِ الذي قُطِعَ ذَكَرُهُ وخِصْيَتُه. أو الأطفالِ الذينَ لم يَعرِفوا بعدُ معنَى العَورَةِ وحرَكاتِ النسَاءِ وسَكناتِهنَّ.
ولا يَضْرِبْنَ بعضَ أرجُلِهِنَّ ببَعضٍ ليَتَقَعْقَعَ خَلاخِلُهُنَّ فيُعلَمَ أنَّهُنَّ ذواتُ زِينَةٍ، إغراءً للرِّجال. كما وردَ في الحَديثِ الصَّحيحِ النهيُ عنْ أنْ يتَعَطَّرْنَ ليَشُمَّ الرِّجالُ عِطرَهُنّ.
واترُكوا الفَواحِشَ والأخْلاقَ الرَّذيلَةَ أيُّها المؤمِنون، وتوبوا إلى اللهِ ممّا قَصَّرتُمْ فيه، لتَفوزُوا برِضَى اللهِ والسَّعادَةِ في الدَّارَين.
﴿وَأَنكِحُواْ الۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَالصَّـٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [النور :32]
وزَوِّجُوا مَنْ لا زَوجَ لهُ منكمْ أيُّها الأوْلياءُ والأقرِباء، رِجالاً كانوا أو نِساء، والصّاَلحينَ مِنْ عَبيدِكمْ وجَوارِيكمْ أيُّها السَّادَة، وإذا كانوا فُقَراءَ فإنَّ اللهَ سيُغنيهِمْ بعدَ الزَّواج. حتَّى قالَ ابنُ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه: التَمِسوا الغِنى في النِّكاح.
واللهُ غَنيٌّ ذو فَضلٍ وسَعَة، عَليمٌ بعِبادِهِ وأحوالِهم، فيَبسُطُ الرزقَ لمَنْ شاءَ منهم، ويُضَيِّقُ على مَنْ شاء، بحِكمَتِه.
﴿وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَالَّذِينَ يَبۡتَغُونَ الۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى الۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [النور :33]
والذينَ همْ فُقَراءُ ولا يَجِدونَ ما يتزَوَّجونَ به، فليَتَعَفَّفوا عنِ الحَرام، وليَصونُوا أنفُسَهمْ عنِ الشُّبُهاتِ والشَّهوات، حتَّى يوَسِّعَ اللهُ عليهمْ مِنْ رزقِه.
والذينَ يُريدونَ أنْ تُكاتِبوهمْ مِنَ العَبيد، بأنْ يُعطوكمْ قَدْرًا مِنَ المال ليَتحَرَّروا، ولهمْ صَنعَةٌ أو قوَّةٌ على الكَسْبِ يَستَطيعونَ بهِ أنْ يؤدُّوهُ إليكم، فاسمَحوا لهمْ بذلك - وهوَ أمرُ نَدْبٍ واستِحباب - وساعِدوهمْ في ذلك، وأعطُوهمْ ممّا أعطاكمُ اللهُ مِنَ الرِّزق، ليَكونَ عَونًا لهمْ على تَحريرِهم.
ولا تُجبِروا إماءَكمْ على الزِّنا إذا أرَدْنَ الصَّوْنَ والعِفَّة، لتَطلبُوا بذلكَ المالَ مِنْ كَسبِهنَّ أو صَدَاقِهنَّ أو بَيعِ أولادِهِنّ. وليسَ المَقصودُ أنَّ التي لا تُريدُ العَفافَ زَنَت، ولكنَّهُ بيانٌ لقُبحِ الأمرِ وشَناعَتِه، أو أنَّهُ خرجَ مَخرجَ الغالِب. وقدْ نزَلَتِ الآيَةُ في إماءٍ كُنَّ يُرِدْنَ العَفافَ وسَيِّدُهنَّ (كبيرُ المُنافِقينَ) يُكرِهُهنَّ على الفُجورِ والزِّنا، فنزلتِ الآيَةُ لبيانِ حُكمٍ وتَوضيحِ حالَة.
فمَنْ أجبرَهُنَّ على ذلكَ فإنَّ إثمَهنَّ على مَنْ أجبرَهُنّ، واللهُ يَغفِرُ لهنَّ مادُمْنَ مُكرَهات، ويَرحَمُهنَّ ولا يُعَذِّبُهنَّ على ذلك.
﴿وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ ءَايَٰتٖ مُّبَيِّنَٰتٖ وَمَثَلٗا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمَوۡعِظَةٗ لِّلۡمُتَّقِينَ﴾ [النور :34]
ولقدْ أنزَلنا في هذا القُرآنِ آياتٍ، فيها بيانٌ لحدودٍ وآدابٍ وأحكَام، وشِبْهًا مِنْ حالِكمْ بحالِ الذينَ مضَوا مِنْ قَبلِكم، كقِصَّةِ أُمِّ المؤمِنينَ عائشَةَ المُحاكيَةِ لقِصَّةِ مريَمَ الصِّدِّيقَة، التي اتَّهمَها اليَهودُ بالزِّنا، ومَوعِظَةً وعِبرَةً للمؤمِنينَ الحَذِرِينَ الوَجِلين، الذينَ يَنزَجِرونَ عنِ المُحرَّمات، ويَعتَبِرونَ مِنَ القِصَصِ والأخبَار.
﴿۞اللَّهُ نُورُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ الۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي اللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ اللَّهُ الۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾ [النور :35]
اللهُ سُبحانَهُ نُورُ السَّماواتِ والأرض، مثَلُ نُورِهِ كمَثَلِ كُوَّةٍ في حائط، فيها سِراجٌ يَجمَعُ ضَوءَهُ لئلاّ يتفَرَّق، السِّراجُ في قِنديلٍ زُجاجيٍّ صَاف، القِنديلُ الزُّجاجيُّ مُضيءٌ مُتَلألئٌ كأنَّهُ كوكَبٌ مُشرِقٌ كالدُّرِّ، يَستَمِدُّ هذا المِصباحُ وَقودَهُ منْ زَيتِ زَيتونِ شَجرَةٍ كثيرَةِ المنافِع، وتَكونُ في مَكانٍ مُستَوٍ بارِز، فلا يَمنَعُ عنها الشمسَ شَيء، مِنْ حينِ طُلوعِها حتَّى تَغرُب، وهذا أحسَنُ لزَيتِها وألطَف، فيَكادُ لصَفائهِ ونقائهِ أنْ يُشرِقَ بنَفسِه، مِنْ غَيرِ أنْ يمَسَّهُ نارٌ، فإذا مَسَّهُ أضاءَ كثيرًا.
نورٌ عَظيمٌ كائنٌ على نُور: نورُ النَّارِ ونورُ الزَّيت. يُرشِدُ اللهُ لهدايَتِهِ مَنْ يَختارُهُ مِنْ عِبادِه، ممَّنْ يَعلَمْ طهارتَهُ وصَلاحَه.
وهذا مثَلٌ مِنَ الأمثالِ التي يَضرِبُها اللهُ للنَّاس، وهوَ عَليمٌ بمَنْ يَستَحِقُّ منهمُ الهِدايَةَ ومَنْ لا يَستَحِقّ.
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا اسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِالۡغُدُوِّ وَالۡأٓصَالِ﴾ [النور :36]
المساجِدُ أحَبُّ البِقاعِ إلى اللهِ في الأرْض، أمرَ اللهُ أنْ تُطَهَّرَ مِنَ الدَّنَسِ والقَذَرِ والكلامِ اللَّغْوِ وكُلِّ ما لا يَليقُ بها، يَذكرُ فيها ويَتلو كِتابَهُ أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه،
﴿رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الۡقُلُوبُ وَالۡأَبۡصَٰرُ﴾ [النور :37]
رِجالٌ مُؤمِنونَ مُخلِصون، همْ عُمَّارُ بيوتِه، فلا تَشغَلُهمُ التِّجارَةُ بأرباحِها، ولا بَيعٌ ولا شِراءٌ عنِ التَّسبِيح، والتَّحمِيد، وطاعَةِ رَبِّهمْ ومحَبَّتِه، وعنِ الصَّلاةِ في مَواقيتِها، وإعطاءِ حُقوقِ الفُقَراءِ مِنْ أموالِهم، فالطَّاعَةُ مَقصِدُهمْ أينَما كانوا، يَخافونَ يَومَ الحِسابِ والجزاءَ، حيثُ تَضْطَربُ القُلوبُ والأبصَار، وتتَغيَّرُ مِنَ الفزَعِ ومِنْ شِدَّةِ هَولِ ذلكَ اليَومِ وأحوالِه.
﴿لِيَجۡزِيَهُمُ اللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۗ وَاللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ﴾ [النور :38]
ليَجزِيَهمُ اللهُ على أعمالِهمُ الصَّالِحَة، ويُعطيَهمْ مِنْ كرَمِهِ وفَضلِهِ زيادَةً عمَّا يَستَحِقُّون، واللهُ كريمٌ واسِعُ الفَضل، يُعطي مَنْ يَشاءُ مِنَ الأجرِ بلا عَدٍّ ولا كَيْل، ما لا تَبْلُغُهُ أُمنيَّتُه.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ الظَّمۡـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡـٔٗا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الۡحِسَابِ﴾ [النور :39]
وأعمالُ الذينَ كفَروا لا قيمَةَ لها ولا وَزنَ لآثارِها، ولو بدَتْ في شَكلِ الأعمالِ الخَيريَّة، بلْ هيَ كسَرابٍ يَتراءَى في شِدَّةِ الحَرِّ في أرضٍ مُنبَسِطَةٍ مُستَويَة، يَظُنُّهُ العَطشانُ ماءً، حتَّى إذا جاءَ إلى ما تَوَهَّمَه، لم يَجِدْهُ شَيئاً، لكنْ وجدَ اللهَ لهُ بالمرصَاد، فحاسبَهُ على أعمالِهِ كُلِّها، ووَفَّاهُ جزَاءَهُ كامِلاً، واللهُ سَريعُ الحِساب، على كَثرَةِ منْ يُحاسِبُهمْ، وكثرَةِ أعمالِهم.
﴿أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ اللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ﴾ [النور :40]
أو أنَّ أعمالَهمْ هذهِ التي حَسِبوا أنَّها ستَنفَعُهم - وهيَ لا تَنفَعُهم، لأنَّها غَيرُ مَبنيَّةٍ على الإيمان - كظُلُمات، لخُلوِّها مِنْ نُورِ الحَقّ، في بَحرٍ عَميقٍ كَثيرِ الماء، يَعلوهُ مَوجٌ عَظيم، مِنْ فَوقِهِ مَوجٌ مُتراكِم، وأعلاهُ سَحابٌ مُظلِم، فهيَ ظُلُماتٌ مُتكاثِفَةٌ ومُتراكِمَةٌ بَعضُها على بَعض، إذا أخرجَ المَرءُ يدَهُ لم يَكَدْ يَراها، وهيَ أقرَبُ شَيءٍ إليه، مِنْ شِدَّةِ الظَّلام.
ومَنْ لم يَجعَلِ اللهُ لهُ دِينًا وإيمانًا فلا دِينَ له، ومَنْ لم يَهدِهِ اللهُ فهوَ جاهِلٌ هالِك، لا قيمَةَ لأقوالهِ وأعمالِهِ مَهما بَدَتْ طيِّبَة، فالمُهِمُّ طاعَةُ الله، ومُوافقَةُ دِينِه، والتصرُّفُ كما تُمليهِ أوامِرُه، لا كما يَرغَبُ الكافِرُ ويتصرَّفُ بهَواه.