تفسير سورة الفرقان

  1. سور القرآن الكريم
  2. الفرقان
25

﴿۞وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا الۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَوۡ نَرَىٰ رَبَّنَاۗ لَقَدِ اسۡتَكۡبَرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ وَعَتَوۡ عُتُوّٗا كَبِيرٗا﴾ [الفرقان:21]


وقالَ الكافِرونَ الذينَ لا يؤمِنونَ بالمَعاد: هَلاّ أُنزِلَ عَلينا المَلائكةُ كما يَنزِلونَ على الأنبِياءِ فيُخبِرونا بصِدقِ نبوَّةِ محمَّد، أو نرَى اللهَ جَهرَةً فيُخبِرُنا بذلك؟ لقدِ استَكبَروا عنْ قَبولِ الحقِّ في شأنِ أنفُسِهم، وطغَوا بقَولِهمْ هذا، وأفحَشوا بطلَبِ ما لا يَنبَغي.

﴿يَوۡمَ يَرَوۡنَ الۡمَلَـٰٓئِكَةَ لَا بُشۡرَىٰ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُجۡرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا﴾ [الفرقان:22]


إنَّهمْ لنْ يرَوا المَلائكةَ وهمْ بخَير، بلْ يَرَونَهمْ عندَما يُخبِرونَهمْ بمَصيرِهمُ السيِّء، وهوَ الخَيبَةُ والخُسران، والنَّارُ والعَذاب، فيا لذلكَ اليَومِ الرَّهيب، الذي لنْ يَكونَ بُشرًى للكافِرينَ المُجرِمينَ بأيَّةِ حال، يَومَ يَقولُ لهمُ المَلائكة: حَرامٌ مُحَرَّمٌ عَليكمْ دُخولُ الجنَّة.

﴿وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا﴾ [الفرقان:23]


وأتَينا على أعمالِهمُ التي عَمِلوها في الدُّنيا وقدْ ظَنُّوا أنَّها حسَنة، فجعَلناها يَومَ الحِسابِ باطِلَةً لا ثَوابَ عليها، كالرَّمادِ المُتَفَرِّقِ التَّافِهِ الذي لا قيمَةَ له، لأنَّها لم تَكنْ قائمَةً على أساسِ الإيمانِ والشَّرعِ الذي رَضيَهُ اللهُ لخَلقِه.

﴿أَصۡحَٰبُ الۡجَنَّةِ يَوۡمَئِذٍ خَيۡرٞ مُّسۡتَقَرّٗا وَأَحۡسَنُ مَقِيلٗا﴾ [الفرقان:24]


في ذلكَ اليَومِ العَصيبِ يَكونُ المؤمِنونَ آمِنينَ مُطمَئنِّين، فَرِحينَ مُبتَهِجين، قدِ استقَرُّوا في جِنانِ اللهِ الخالِدَةِ الطيِّبَة، أفضَلِ وأجمَلِ مَأوًى لهم، بخِلافِ حالِ المشرِكينَ المتَكبِّرين...

﴿وَيَوۡمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالۡغَمَٰمِ وَنُزِّلَ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ تَنزِيلًا﴾ [الفرقان:25]


ومِنْ أهوالِ يَومِ القيامَةِ أنَّ السَّماءَ تَنشَقُّ وتَنفَرِجُ عنِ الغَمام(97)، وتَنزِلُ المَلائكةُ منَ السَّماواتِ على نَمطٍ غَيرِ مَعهُود؛ لتُحيطَ بالخَلقِ في المَحشَر، ثمَّ يَقضي اللهُ بينَهم.

(97) {بِالْغَمَامِ}: هو السحاب، يسمَّى به لكونهِ ساترًا لضوءِ الشمس، والغمُّ: سترُ الشيء، أي: بسببِ طلوعِ الغمامِ منها. وهو الغمامُ الذي ذُكِرَ في قولهِ تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [سورة البقرة: 210]. قيل: هو غمامٌ أبيضُ رقيقٌ مثلُ الضبابة... (روح البيان).

﴿الۡمُلۡكُ يَوۡمَئِذٍ الۡحَقُّ لِلرَّحۡمَٰنِۚ وَكَانَ يَوۡمًا عَلَى الۡكَٰفِرِينَ عَسِيرٗا﴾ [الفرقان:26]


في ذلكَ اليَومِ يَكونُ المُلْكُ الحَقيقيُّ كُلُّهُ للهِ الرَّحمن، المَلِكِ الديَّان، لا يُشارِكُهُ في المُلكِ والأمرِ والحُكمِ أحَد، لا حَقيقَةً ولا مَجازًا، وكانَ يَومًا شَديدًا صَعبًا على الكافِرين، الذينَ لم يَحسُبوا حِسابَ هذا اليَوم، وهمْ يَعرِفونَ كيفَ يَكونُ قَضاءُ اللهِ فيهم، وقدْ حارَبوا دِينَه، وكذَّبوا رسُلَه، وجعَلوا الدُّنيا مَقصِدًا لهمْ وغايَة.

﴿وَيَوۡمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيۡهِ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي اتَّخَذۡتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلٗا﴾ [الفرقان:27]


وفي ذلكَ اليَومِ الرَّهيبِ يَعَضُّ الكافِرُ على يَديهِ مِنَ الأسَى والندَم، ويَقول: يا ليتَني سلَكتُ معَ الرَّسولِ طَريقًا لأكونَ معَهُ في هذا اليَوم.

﴿يَٰوَيۡلَتَىٰ لَيۡتَنِي لَمۡ أَتَّخِذۡ فُلَانًا خَلِيلٗا﴾ [الفرقان:28]


ويَقول: يا حَسرَتي ويا هَلاكي، ليتَني لم أجعَلْ فُلانًا صَديقًا لي أثِقُ بهِ وأعتَمِدُ عليه. ويَعني الشَّيطانَ أو غَيرَهُ مِنَ الأناسيِّ المُضِلِّين.

﴿لَّقَدۡ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكۡرِ بَعۡدَ إِذۡ جَآءَنِيۗ وَكَانَ الشَّيۡطَٰنُ لِلۡإِنسَٰنِ خَذُولٗا﴾ [الفرقان:29]


ويَقولُ في ألَمٍ وندَم: لقدْ أغوَاني وصرَفَني عنِ القُرآنِ بعدَ أنْ بلَغَني وعَلِمتُ ما فيه، والشَّيطانُ - وهوَ كُلُّ مَنْ صَدَّ عنْ سَبيلِ اللهِ - يَخذُلُ المَرءَ عنِ الحَقّ، ويَدْعوهُ إلى الباطِل، ويُمَنِّيه، ويُطَوِّلُ في أمَلِهِ حتَّى يَنسَى رَبَّه، ثمَّ يَترُكُهُ ولا يَنفَعُهُ، ليَلقَى مَصيرَهُ السيِّء.

﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِي اتَّخَذُواْ هَٰذَا الۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورٗا﴾ [الفرقان:30]


وقالَ الرَّسولُ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: يا رَبّ، إنَّ قَومي ترَكوا هذا القُرآنَ الجَليلَ وهجَروه، ولم يُصَدِّقوا ما فيه، وقالوا هوَ شِعرٌ وسِحر، وعدَلوا عنهُ إلى اللَّهوِ والباطِل، بدلَ أنْ يَمتَثِلوا ما فيهِ ويَعمَلوا بأحكامِه. وكانَ هذا في مَكَّةَ قَبلَ الهِجرَة.

﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا مِّنَ الۡمُجۡرِمِينَۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيٗا وَنَصِيرٗا﴾ [الفرقان:31]


وكما جَعلنا لكَ أعداءً مِنَ المشرِكينَ يُؤذُونَكَ أيُّها الرَّسُول، كذلكَ جعَلنا للأنبِياءِ في الأُمَمِ الخالِيَةِ أعداءً مِنَ الكفَرَةِ المُجرِمين، فاصبِرْ كما صبَروا، واللهُ يَهدي مَنِ اتَّبَعَ دِينَهُ ويَنصُرُهُ على أعدَائه، ومَنْ كانَ اللهُ ناصِرَهُ فلا يَذِلُّ.

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ الۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا﴾ [الفرقان:32]


وقالَ المشرِكونَ تعَنُّتًا ولجاجَة: هَلاّ نزَلَ هذا القُرآنُ دُفعَةً واحِدَةً على محمَّدٍ كما نزَلَتِ الكتُبُ السَّابقَةُ على الأنبِياء، بدَلَ أنْ تَنزِلَ سُوَرٌ وآياتٌ مُتفَرِّقاتٌ بينَ مُدَّةٍ وأخرَى؟

وقَدْ نَزَّلناهُ مُتَفَرِّقًا لنُقَوِّيَ بهِ فؤادَك، وبيَّنَّاهُ وفَصَّلناهُ تَفصيلاً.

وقدْ أنزلَ اللهُ تعالَى القُرآنَ الكريمَ إلى السَّماءَ الدُّنيا جُملَةً واحِدً في ليلَةِ القَدْر، ثمَّ نزَلَ مُتَفَرِّقًا على رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم على مدَى ثلاثٍ وعِشرينَ سنَة، بحسَبِ الحوادِثِ والوقائع، وعندَ الحاجَةِ إلى مَعرِفَةِ الأحكام؛ ليَثبُتَ في القُلوب، وفيهِ تَيسيرٌ لحِفظِهِ وفَهمِ مَعانيه، وتَجديدٌ للإعجازِ وتَذكيرٌ به، ورَدٌّ على الطَّاعِنينَ والمُشَكِّكينَ والمُنافِقين، وفوائدُ أُخرَى.

﴿وَلَا يَأۡتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئۡنَٰكَ بِالۡحَقِّ وَأَحۡسَنَ تَفۡسِيرًا﴾ [الفرقان:33]


ولا يأتيكَ الكافِرونَ بشُبهَةٍ واقتِراحٍ باطِل، إلاّ جِئناكَ في مُقابلِهِ بحُجَّةٍ واضِحَةٍ وجَوابٍ شافٍ صَحيح، نَقْذِفُ بهِ على باطلِهمْ فيَدْمَغُهُ ويُزْهِقُهُ، ويَكونَ أبينَ أفصحَ مِنْ مَقالِهم.

﴿الَّذِينَ يُحۡشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ سَبِيلٗا﴾ [الفرقان:34]


إنَّ الكافِرينَ الذينَ يُساقُونَ ويُجَرُّونَ إلى جهَنَّمَ على وجوهِهم، همْ أسوَأ مَنزِلَة، وأبعَدُ طريقًا عنِ الحقّ.

قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ردًا على سُؤالٍ في هذا: "أليسَ الذي أمشاهُ على الرِّجلَينِ في الدُّنيا قادِرًا على أنْ يُمشِيَهُ على وَجهِهِ يَومَ القيامَة؟". رواهُ البُخاريّ.

قالَ ابنُ حجَرٍ في "الفَتح": الحِكمَةُ في حَشرِ الكافِرِ على وَجهِه، أنَّهُ عُوقِبَ على عدَمِ السُّجودِ للهِ في الدُّنيا بأنْ يُسحَبَ على وجهِهِ في القيامَة، إظهارًا لهَوانِه.

وقالَ في مَوضِعٍ آخَر: يُؤخَذُ مِنْ مَجموعِ الأحاديث، أنَّ المُقَرَّبينَ يُحشَرونَ رُكبانًا، ومَنْ دونَهمْ منَ المسلِمينَ على أقدامِهم، وأمّا الكُفّارُ فيُحشَرونَ على وُجوهِهم.

﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى الۡكِتَٰبَ وَجَعَلۡنَا مَعَهُۥٓ أَخَاهُ هَٰرُونَ وَزِيرٗا﴾ [الفرقان:35]


وقدْ أنزَلنا التَّوراةَ على موسَى بنِ عِمران مِنْ قَبلُ، وجعَلنا معَهُ أخاهُ هارونَ مَؤيِّدًا ومُعينًا له، ونَبِيًّا مِثلَه.

﴿فَقُلۡنَا اذۡهَبَآ إِلَى الۡقَوۡمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا فَدَمَّرۡنَٰهُمۡ تَدۡمِيرٗا﴾ [الفرقان:36]


وقُلنا لهما: اذهبَا إلى قَومِ فِرعَونَ الفاسِقين. فذهبَا إليهم، ودَعَوَاهمْ إلى الإيمان، فكذَّبوا بآياتِنا ومُعجِزاتِنا، فأهلَكناهُمْ إهلاكًا.

﴿وَقَوۡمَ نُوحٖ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغۡرَقۡنَٰهُمۡ وَجَعَلۡنَٰهُمۡ لِلنَّاسِ ءَايَةٗۖ وَأَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ عَذَابًا أَلِيمٗا﴾ [الفرقان:37]


وقَومَ نوحٍ لمّا كذَّبوا رَسولَهم، وقدْ مكثَ فيهمْ ألفًا إلاّ خَمسينَ عامًا، أهلَكناهُمْ بالطُّوفان، وجعَلنا قِصَّتَهمْ وعُقوبَتَهمْ عِبرَةً للآخِرين، وقدْ هيَّأنا للكافِرينَ عذابًا شَديدًا في الآخِرَة، سِوَى العَذابِ الذي لاقَوهُ في الدُّنيا.

﴿وَعَادٗا وَثَمُودَاْ وَأَصۡحَٰبَ الرَّسِّ وَقُرُونَۢا بَيۡنَ ذَٰلِكَ كَثِيرٗا﴾ [الفرقان:38]


وأهلَكنا عادًا لمَّا كذَّبوا نبيَّهمْ هودًا، وكانوا في عُمانَ واليمَن، وكذلكَ أهلَكنا ثَمودَ قَومَ صالِح، وكانوا فيما بينَ الحِجازِ والشَّام (مَدائنَ صالِحٍ في بلادِ الحرَمين)، وأصحابَ الرَّسّ، لعلَّهمْ أصحابُ الأُخدود، وأجيالًا آخَرينَ كثيرينَ بينَ هؤلاءِ الأقوَام.

﴿وَكُلّٗا ضَرَبۡنَا لَهُ الۡأَمۡثَٰلَۖ وَكُلّٗا تَبَّرۡنَا تَتۡبِيرٗا﴾ [الفرقان:39]


وقدْ بيَّنَّا لكلِّ هذهِ الأمَمِ بالأدلَّةِ والمُعجِزاتِ صِدْقَ ما جاءَ بهِ الأنبِياءُ مِنْ عندِ رَبِّهم، ولم نُعاقِبْهمْ إلاّ بعدَ الإنذار، وعندَما استَكبَروا وأبَوا إلاّ الكُفرَ والعِصيان، أهلَكناهمْ إهلاكًا.

﴿وَلَقَدۡ أَتَوۡاْ عَلَى الۡقَرۡيَةِ الَّتِيٓ أُمۡطِرَتۡ مَطَرَ السَّوۡءِۚ أَفَلَمۡ يَكُونُواْ يَرَوۡنَهَاۚ بَلۡ كَانُواْ لَا يَرۡجُونَ نُشُورٗا﴾ [الفرقان:40]


ولقدْ أتَى قومُكَ على آثارِ مَدينَةِ سَدُوم عندَ البحرِ الميِّت، التي كانَ فيها قَومُ لوطٍ -وهيَ في طريقِ تجارَتِهمْ بينَ الشَّامِ والحِجاز - وكانوا يأتونَ الفاحِشَة، وكذَّبوا نبيَّهمْ لوطًا ولم يُطيعوه، وبَقوا مُصِرِّينَ على فِعلِ اللِّواط، فأهلكناهُمْ بالحِجارَة، وقدْ قَلَّبْنا قُراهُمْ على رأسِها. أمَا كانوا يَعتَبِرونَ ممّا أصابَ أهلَها، ويَعلَمونَ أنَّ اللهَ قادِرٌ على أنْ يُهلِكَهمْ كما أهلَكَهم؟

لكنَّ سببَ عدَمِ اعتِبارِهمْ هوَ كفرُهمْ بالبَعثِ والجَزاء، فلا يتَوقَّعونَ أنْ يَبعثَهمُ اللهُ بعدَ مَوتِهمْ ويُحاسِبَهمْ على أعمالِهم