تفسير سورة النمل

  1. سور القرآن الكريم
  2. النمل
27

﴿لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابٗا شَدِيدًا أَوۡ لَأَاْذۡبَحَنَّهُۥٓ أَوۡ لَيَأۡتِيَنِّي بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ﴾ [النمل:21]


لأُؤَدِّبَنَّهُ بما يَستَحِقُّ لعَدَمِ طاعَتِه، كنَتْفِ ريشِه. أو لأَذبَحَنَّه، أو ليَأتيَنِّي بعُذرٍ واضِحٍ مَقبُول.

﴿فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإٖ يَقِينٍ﴾ [النمل:22]


فأقامَ الهُدْهُدُ زَمانًا يَسيرًا، ثمَّ جاءَ إلى نبيِّ اللهِ سُلَيمانَ وقالَ له: لقدِ اطَّلَعتُ على ما لمْ تطَّلِعْ عَليه، وجِئتُ لكَ مِنْ مَملكَةِ سبَأَ بخبَرِ صِدْقٍ وحَقّ.

﴿إِنِّي وَجَدتُّ امۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِيمٞ﴾ [النمل:23]


لقدْ وجَدْتُ امرأةً - هيَ بَلْقِيسُ - تَحكُمْ قَومَها، وقدْ أُوتيَتْ كُلَّ ما يَحتاجُ إليهِ المُلوك، ولها سَريرٌ كبيرٌ جِدًا تَجلِسُ عَليه، مُزَخرَفٌ بأنواعِ الجوَاهِرِ واللَّآلِئ.

﴿وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا يَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمۡ لَا يَهۡتَدُونَ﴾ [النمل:24]


وجَدتُها وقَومَها يَسجُدونَ للشَّمسِ في عِبادَتِهمْ مِنْ دُونِ عِبادَةِ اللهِ وحدَه، وقدْ حسَّنَ الشَّيطانُ الأعمالَ الشِّركيَّةَ في قُلوبِهم، فمنعَهمْ بذلكَ مِنْ طَريقِ الحَقِّ والصَّواب، فهمْ لا يَهتَدونَ إليها.

﴿أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ الَّذِي يُخۡرِجُ الۡخَبۡءَ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ﴾ [النمل:25]


منعَهمْ مِنْ ذلكَ لئلاّ يَسجُدوا للهِ تعالَى، الإلهِ الحَقِّ العالِمِ بالخَفِيَّات، الذي يُظهِرُ المَخبوءَ المَكنونَ ممّا في السَّماءِ والأرْض، وهوَ الذي يَعلَمُ ما تُسِرُّونَ ممَّا في قُلوبَكم، وما تُعلِنونَهُ مِنْ خِلالِ أقوالِكمْ وأعمالِكم، ويُجازي كُلاًّ بما يَستَحِقّ.

﴿اللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الۡعَرۡشِ الۡعَظِيمِ۩﴾ [النمل:26]


هوَ اللهُ الذي لا مَعبودَ بحَقٍّ سِوَاه، فلا يُعبَدُ إلاّ هو، رَبُّ العَرشِ العَظيم، أعظَمِ المَخلوقات.

﴿۞قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ الۡكَٰذِبِينَ﴾ [النمل:27]


قالَ سُليمانُ عَليهِ السَّلامُ للهُدْهُد: سنتَحرَّى ونتثَبَّتُ ممّا ذَكرتَه، أصدَقْتَ فيما أخبَرتَ به، أمْ أنَّكَ كاذِبٌ فيه؟

﴿اذۡهَب بِّكِتَٰبِي هَٰذَا فَأَلۡقِهۡ إِلَيۡهِمۡ ثُمَّ تَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَانظُرۡ مَاذَا يَرۡجِعُونَ﴾ [النمل:28]


وهذا اختِبارٌ لكَ فيما زَعَمت، اذهَبْ برِسالَتي هذهِ إلى المَلِكَةِ وقَومِها وألْقِها إليهم، ثمَّ تنَحَّ عَنهُم، وكُنْ قَريبًا منهم، وانظُرْ بماذا يُجيبون؟

﴿قَالَتۡ يَـٰٓأَيُّهَا الۡمَلَؤُاْ إِنِّيٓ أُلۡقِيَ إِلَيَّ كِتَٰبٞ كَرِيمٌ﴾ [النمل:29]


ووَقعَتِ الرِّسَالَةُ بينَ يَدَيها، فتعَجَّبَتْ ممَّا فيها، وقالَتْ لمَنْ حَولَها مِنْ أصحابِ الرأي ووُجهاءِ القَوم: أيُّها السَّادَةُ والأُمرَاء، لقدْ أُلقِيَتْ إليَّ رِسالَةٌ مَختومَة، عاليَةٌ وقَديرَةٌ في شَكلِها ومَضمونِها!

﴿إِنَّهُۥ مِن سُلَيۡمَٰنَ وَإِنَّهُۥ بِسۡمِ اللَّهِ الرَّحۡمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل:30]


إنَّها مِنَ النبيِّ المَلِكِ سُلَيمانَ بنِ داود، وإنَّ فيها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أي: أبدأُ بسمِ اللهِ ذي الرحمَةِ الواسِعَة، ورحمتُهُ بالمؤمنينَ خاصَّة.

﴿أَلَّا تَعۡلُواْ عَلَيَّ وَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ﴾ [النمل:31]


وفيها: لا تَمتَنِعوا ولا تَتكَبَّروا عَليَّ كما يَفعَلُ جَبابِرَةُ المُلوك، وَأْتُوني مُسلِمينَ موَحِّدين.

﴿قَالَتۡ يَـٰٓأَيُّهَا الۡمَلَؤُاْ أَفۡتُونِي فِيٓ أَمۡرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمۡرًا حَتَّىٰ تَشۡهَدُونِ﴾ [النمل:32]


ثمَّ خاطَبَتْهُمْ بقَولِها: أيُّها السَّادَةُ والوجَهاء، أشيروا عَليَّ بما عِندَكمْ مِنَ الرأي والتَّدبيرِ فيما عُرِضَ عَليَّ مِنْ هذا الأمر، فما كنتُ قاضِيَةً وفاصِلَةً في شَأنٍ حتَّى تَحضرُوني وتُشيروا عَليّ.

﴿قَالُواْ نَحۡنُ أُوْلُواْ قُوَّةٖ وَأُوْلُواْ بَأۡسٖ شَدِيدٖ وَالۡأَمۡرُ إِلَيۡكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأۡمُرِينَ﴾ [النمل:33]


قالوا لها: نحنُ أصحابُ قُوَّةٍ في الأجساد، وكَثرَةٍ في الأعدَاد، وأصحابُ نَجدَةٍ وشَجاعَةٍ وبَلاءٍ في القِتال، ونحنُ جاهِزونَ للحَربِ إذا أرَدتِ أيَّتُها المَلِكَة، والكلِمَةُ الأخيرَةُ لكِ، فَأْمُرينا بما تَرَيْنَ مِنَ الصُّلحِ أو الحَرب، فنحنُ مُطيعونَ لأمرِكِ.

﴿قَالَتۡ إِنَّ الۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡيَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةٗۚ وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ﴾ [النمل:34]


قالتِ المَلِكَة: إنَّ المُلوكَ إذا دخَلوا بلَدًا عُنوَةً أفسَدوهُ وخرَّبوه، وقصَدوا مَنْ فيهِ مِنَ الحُكَّامِ والأشرَافِ والجُنودِ فأهانوهُمْ غايَةِ الهَوان، إمَّا بالقَتلِ أو بالأسر، ليَستَقيمَ لهمُ الأمر. وكما قالَتِ المَلِكَة، فإنَّهمْ يَفعَلونَ ذلك.

﴿وَإِنِّي مُرۡسِلَةٌ إِلَيۡهِم بِهَدِيَّةٖ فَنَاظِرَةُۢ بِمَ يَرۡجِعُ الۡمُرۡسَلُونَ﴾ [النمل:35]


فلجأتْ إلى المُهادَنَةِ والمُصانعَة، وقالَتْ لقَومِها: سأبعَثُ إليهمْ بهَديَّةٍ كبيرَةٍ تُناسِبُ المُلوكَ الكِبار، فلعَلَّهُ يَقبَلُها ويَكفُّ عنَّا، وسأرَى ما الذي يَكونُ جوابُهُ عنْ طَريقِ رسُلي.

﴿فَلَمَّا جَآءَ سُلَيۡمَٰنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٖ فَمَآ ءَاتَىٰنِۦَ اللَّهُ خَيۡرٞ مِّمَّآ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ﴾ [النمل:36]


فلمَّا جاءَ رَسولُها سُلَيمان، وسلَّمَ الهَديَّةَ إليه، قالَ له: أتُصانِعونَني بالمالِ لأترُكَكمْ وشِركَكم؟ فإنَّ الذي وهَبَني اللهُ مِنَ النبوَّة، وأنعَمَ عليَّ بالمُلكِ والمالِ والجُنود، هوَ أعظَمُ وأفضَلُ ممّا أنتُمْ فيه، بلْ إنَّ هِمَّتَكمْ في الدُّنيا والفرَحِ بزينَتِها والتفاخُرِ بها، والانقِيادِ للهَدايا والتُّحَفِ فيها، ولستُ على ما تَظنُّونَ مِنْ ذلك، ولا أقبَلُ منكمْ إلاّ الإسْلامَ أو السَّيف.

﴿ارۡجِعۡ إِلَيۡهِمۡ فَلَنَأۡتِيَنَّهُم بِجُنُودٖ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخۡرِجَنَّهُم مِّنۡهَآ أَذِلَّةٗ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ﴾ [النمل:37]


ارجِعْ إليهمْ بالهَديَّةِ أيُّها الرَّسُول، فسَوفَ نأتيهمْ بجَيشٍ لا طاقَةَ لهمْ بمُقاوَمَتِه، وسنُخرِجُهمْ مِنْ سبأَ مُهانينَ بعدَ أنْ كانوا في عِزٍّ وتَمكين، أسرَى ومَستَعبَدين، إذا لم يأتُوني مُسلِمين.

﴿قَالَ يَـٰٓأَيُّهَا الۡمَلَؤُاْ أَيُّكُمۡ يَأۡتِينِي بِعَرۡشِهَا قَبۡلَ أَن يَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ﴾ [النمل:38]


فرجعَ الرَّسولُ إلى المَلِكَةِ بما قالَ سُلَيمانُ عليهِ السَّلام، فعَرَفَتْ أنَّهُ لا طاقةَ لها ولقَومِها به، فتوَجَّهتْ إليهِ في أتبَاعِها ووُجهاءِ قَومِها، وبعثَتْ إليهِ أنَّها قادِمَةٌ لتَنظُرَ في أمرِه، وما يَدعو إليهِ مِنْ دِين.

وقالَ سُليمانُ عَليهِ السَّلامُ لمَنْ تحتَ يَدِه: مَنْ يأتيني بعَرشِ بَلقِيسَ قبلَ أنْ يَصِلوا إليَّ مؤمِنينَ طائعِين؟ وهذا لاختِبارِ عَقلِها، وإراءَتِها بعضَ الخَوارِقِ الدالَّةِ على صِدْقِ نبوَّتِه.

﴿قَالَ عِفۡرِيتٞ مِّنَ الۡجِنِّ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَۖ وَإِنِّي عَلَيۡهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٞ﴾ [النمل:39]


قالَ مارِدٌ قَويٌّ مِنَ الجِنّ: أنا آتِيكَ بعَرشِها قبلَ أنْ تَقومَ مِنْ مَجلسِك، ولي قوَّةٌ على حَمْلِ عَرشِها الكبير، ولنْ أُبَدِّلَ منهُ شَيئًا، ولا آخُذُ مِنْ جَواهرِه.

﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُۥ عِلۡمٞ مِّنَ الۡكِتَٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن يَرۡتَدَّ إِلَيۡكَ طَرۡفُكَۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ﴾ [النمل:40]


قالَ سُلَيمانُ عَليهِ السَّلام: أُريدُ أعجَلَ مِنْ ذلك. فقالَ واحِدٌ مِنْ بَني إسْرائيلَ لهُ عِلمٌ مِنَ الكِتاب: أنا آتيكَ بسَريرِها قَبلَ أنْ يَنضَمَّ جَفْنُ عَينِكَ بعدَ فَتحِه!

فلمْ يَشعُرْ سُلَيمانُ إلاّ وسَريرُ مُلْكِها يُحمَلُ بينَ يَدَيه! فلمَّا رآهُ ماثِلاً عندَهُ على حالِه، قالَ في خَضوعٍ وخُشوع: إحضارُ السَّريرِ في هذهِ المُدَّةِ المُتناهيَةِ في القِصَر، مِنْ فَضلِ اللهِ ونِعمَتِهِ عَليّ، وليَختَبِرَني: أأشكُرُ فضلَهُ على ذلكَ وأعتَرِفُ بأنَّهُ مِنْ مِنَّتِهِ وحُسنِ تَدبيرِهِ ولُطفِه، أمْ لا أشكرُهُ عَليه؟

ومَنْ شكَرَ اللهَ على نِعَمِهِ فإنَّما يَنفَعُ نفسَهُ بذلك، لأنَّهُ يُعَرِّفُها الحَقّ، ويَستَجلِبُ لها المَزيدَ مِنَ الخَيرِ والنَّفع، ومَنْ لم يَشكُرْ، فإنَّ اللهَ غَنيٌّ عنْ شُكرِه، وعنْ عبادَةِ النَّاسِ وشُكرِهمْ أجمَعين. وهوَ سُبحانَهُ كَريم، فيُنعِمُ على مَنْ لم يَشكُرْهُ أيضًا، ولا يُعَجِّلُ في عُقوبَتِهم.