﴿طسٓۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ الۡقُرۡءَانِ وَكِتَابٖ مُّبِينٍ﴾ [النمل :1]
الكَلِماتُ المُقَطَّعَةُ لم يَرِدْ في تَفسيرِها حَديثٌ صَحيح، واختُلِفَ في مَدلولِها.
هذهِ آياتُ القُرآنِ الكريم، الكتابِ البَيِّنِ الواضِحِ في أحكامِهِ وأخبارِه.
﴿هُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [النمل :2]
هِدايَةً وإرشادًا إلى طَريقِ الخَيرِ والصَّلاح، للمُصَدِّقينَ بهِ والعامِلينَ بما فيه، وبِشارَةً لهمْ برَحمَةِ اللهِ ورِضوانِه.
﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُم بِالۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ﴾ [النمل :3]
الذينَ يُحافِظونَ على صَلواتِهمْ ويُؤَدُّونَها في أوقاتِها، ويُعطونَ زَكاةَ أموالِهمْ للفُقَراءِ والمُحتاجِين، ويُؤمِنونَ باليَومِ الآخِرِ وما فيهِ منْ حِسابٍ وجَزاء.
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِالۡأٓخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَهُمۡ يَعۡمَهُونَ﴾ [النمل :4]
إنَّ الكافِرينَ الذينَ لا يؤمِنونَ بالبَعثِ بعدَ المَوت، والثَّوابِ والعِقابِ على الأعمال، زَيَّنَّا أعمالَهمُ السيِّئةَ في قُلوبِهم، حتَّى رأَوها حسَنة، فهمْ يَتيهونَ في ضَلالِهمْ ولو كانَ وبالاً عَليهم، ويَنغَمِسونَ في أعمالِهمْ دونَ التفَكُّرِ بحَلالِها وحَرامِها، ويَنهَمِكونَ في هواياتِهمْ نافِعةً كانتْ أو ضارَّة، ولا يتفَكَّرونَ في آثارِ ذلكَ كُلِّه، وهذا جَزاءٌ لهمْ على ما كَذَّبوا بهِ مِنَ الدّاَرِ الآخِرَة، ولو آمَنوا بها لوزَنوا أعمالَهمْ قبلَ يُحاسَبوا عَليها هُناك.
﴿أُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ لَهُمۡ سُوٓءُ الۡعَذَابِ وَهُمۡ فِي الۡأٓخِرَةِ هُمُ الۡأَخۡسَرُونَ﴾ [النمل :5]
أولئكَ لهمْ عَذابٌ شَديدٌ في الدُّنيا بالقَتلِ والأسْر، وهمْ أكثَرُ خسارَةً في الآخِرَة، فيَنتَظِرُهمْ عَذابٌ أشَدُّ وأبقَى.
﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل :6]
وإنَّكَ تَتلَقَّى هذا القُرآنَ وَحيًا منْ عندِ الله، الحَكيمِ فيما يأمرُ ويَنهَى، العَليمِ بالأمُورِ كُلِّها، ماضِيها وحاضِرِها ومُستَقبَلِها، فكُلُّ ما يُخْبِرُ بهِ في القُرآنِ وغَيرِهِ صِدْقٌ وعَدْل.
﴿إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦٓ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا سَـَٔاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِيكُم بِشِهَابٖ قَبَسٖ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ﴾ [النمل :7]
واذكُرْ لقَومِكَ أيُّها الرَّسولُ قَولَ نَبيِّ اللهِ موسَى لأهلِهِ وهمْ في طَريقِ عَودَتِهمْ مِنْ مَدْيَنَ إلى مِصر: إنِّي أبصَرتُ نارًا، سآتيكُمْ مِنْ هُناكَ بخَبَرٍ يَدُلُّنا على الطَّريق، أو بشُعلَةٍ منها لتَتدَفَّؤوا بها.
﴿فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ اللَّهِ رَبِّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [النمل :8]
فلمَّا أتَى النَّارَ نُودِيَ فقيل: بارَكَ اللهُ مَنْ في النَّارِ ومَنْ حَولَها، موسَى والمَلائكَةَ الحاضِرين، وتقدَّسَ اللهُ وتنَزَّهَ مِنْ كُلِّ نَقصٍ وعَيب.
﴿يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّهُۥٓ أَنَا اللَّهُ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [النمل :9]
قالَ اللهُ سُبحانَه: يا موسَى، إنَّ الذي يُناجيكَ ويُخاطِبُكَ هوَ الله، ذو الأُلوهيَّةِ والمَعبوديَّةِ على خَلقِهِ أجمَعين، أنا العَزيزُ الذي قَهَرَ كُلَّ شَيءٍ وغلَبَه، الحَكيمُ فيما يَقولُ ويَفعَل.
﴿وَأَلۡقِ عَصَاكَۚ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنّٞ وَلَّىٰ مُدۡبِرٗا وَلَمۡ يُعَقِّبۡۚ يَٰمُوسَىٰ لَا تَخَفۡ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الۡمُرۡسَلُونَ﴾ [النمل :10]
وألْقِ عَصاكَ على الأرْض. فلمَّا ألقَاها ورَآها تتَحرَّكُ وتَضطَرِبُ كأنَّها حيَّة، هربَ مِنَ الخَوفِ ولم يَرجِع، فناداهُ رَبُّه: يا موسَى لا تَخَفْ ممَّا ترَى فأنتَ في حِفظي، وأنبِيائي المُرسَلونَ لا يَخافونَ عندَ الوَحي إليهم، ولا يَخطُرُ ببالِهمْ خَوفُ أحَد. أو لا يَكونُ لهمْ عندي سُوءُ عاقِبَةٍ ليَخافوا منه.
﴿إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسۡنَۢا بَعۡدَ سُوٓءٖ فَإِنِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [النمل :11]
لكنْ مَنْ ظلَمَ مِنْ سَائرِ العِبادِ وأذنَبَ فإنَّهُ يَخاف، إلاّ مَنْ تابَ وعمِلَ صالِحًا، فإنِّي أغفِرُ ذَنبَهُ وأرحَمُه.
﴿وَأَدۡخِلۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖۖ فِي تِسۡعِ ءَايَٰتٍ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَقَوۡمِهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ﴾ [النمل :12]
وأدخِلْ يَدكَ في جَيبِكَ - وهوَ فَتحَةُ القَميصِ مِنْ أعلَى الصَّدر - ثمَّ أخرِجْها، تَخرُجْ بَيضاءَ مُتَلألِئةً تَشِعُّ نورًا، مِنْ غَيرِ مرَضٍ ولا أذًى كالبرَصِ ونَحوِه.
ويَبدو أنَّ المَقصُودَ إدخالُ اليَدِ في الجَيبِ ووَضعُها تحتَ الإبط، وهذا ما فُهِمَ مِنَ الآيةِ (22) منْ سورَةِ طه: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى}.
وهذهِ مُعجِزَةٌ أُخرَى مِنْ بينِ تِسعِ مُعجِزاتٍ أيَّدْتُكَ بها لتَذهَبَ إلى فِرعَونَ وقَومِه، فإنَّهمْ فاسِقونَ خارِجونَ عنِ الطَّاعَةِ والدِّينِ الحَقّ.
﴿فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَٰتُنَا مُبۡصِرَةٗ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ﴾ [النمل :13]
فلمَّا جاءَتْهُمْ هذهِ المُعجِزات، وظهَرَتْ على يَدَي موسَى بَيِّنَةً واضِحَة، قالوا: هذا سِحرٌ ظاهِرٌ بَيِّن!
﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ فَانظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الۡمُفۡسِدِينَ﴾ [النمل :14]
فكَذَّبوا بها بألسِنَتِهمْ وظاهرِ أمرِهم، وعَلِموا في أنفُسِهمْ يَقينًا أنَّها مِنْ عندِ اللهِ وليسَتْ سِحرًا، فعَلُوا ذلكَ ظُلمًا مِنْ أنفُسِهمْ لكَونِهمْ مُشرِكين، وترَفُّعًا واستِكبارًا عنِ الإيمانِ بما جاءَ بهِ موسَى عليهِ السَّلام. فانظُرْ أيُّها الرَّسولُ كيفَ كانتْ نَتيجَةُ فِرعَونَ وقَومِهِ المُفسِدينَ في الأرْض.
﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ عِلۡمٗاۖ وَقَالَا الۡحَمۡدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّنۡ عِبَادِهِ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [النمل :15]
ولقدْ أعطَينا كُلاًّ مِنْ داودَ وابنِهِ سُلَيمانَ عِلمًا جمًّا، يَليقُ بمَقامِ النبوَّةِ التي أكرمَهما اللهُ بها، فحَمِدا اللهَ وشكَرا لهُ هذهِ النِّعمَةَ الكُبرَى، وقالا: الحَمدُ للهِ الذي فضَّلَنا بما آتانا مِنَ العِلمِ على كثيرٍ منْ عِبادِهِ المؤمِنين.
﴿وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ الطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الۡفَضۡلُ الۡمُبِينُ﴾ [النمل :16]
ووَرِثَ سُلَيمانُ أباهُ داودَ في المُلْكِ والنبوَّة، فصَارَ نبيًّا مَلِكًا، وقالَ مُقَدِّرًا نِعمَةَ اللهِ عَليه: أيُّها النَّاس، لقدْ عَلَّمَنا اللهُ لُغَةَ الطُّيورِ والدوابِّ وما تتَخاطِبُ به، وأعطانا كُلَّ شَيءٍ يتعَلَّقُ بالمُلكِ والتَّمكينِ فيه، حتَّى سخَّرَ لنا الإنسَ والجِنَّ والطَّيرَ والرِّيح، وهذا فَضلٌ مِنَ اللهِ عَلينا وإحسَانٌ منهُ لا يَخفَى.
﴿وَحُشِرَ لِسُلَيۡمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ الۡجِنِّ وَالۡإِنسِ وَالطَّيۡرِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ﴾ [النمل :17]
وجُمِعَ لسُلَيمانَ عَساكِرُهُ مِنَ الأماكنِ المُختَلِفَةِ لمَسيرِه، مِنَ الجِنِّ والإنسِ والطَّير، فهمْ مُجتَمِعونَ مَصطَفُّونَ عندَه، لا يَتقَدَّمُ أحَدٌ على مَرتَبةِ الآخَرِ ولا في المَسيرِ عَليه.
﴿حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ النَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَـٰٓأَيُّهَا النَّمۡلُ ادۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ﴾ [النمل :18]
حتَّى إذا مرَّ معَ جَيشِهِ بوادِي النَّمل، قالَتْ نَملَةٌ مُخاطِبَةً نَملاً منْ جِنسِها بلُغَتِها: ادخُلوا مَساكِنَكمْ حتَّى لا يَحطِمَكمْ سُلَيمانُ وجُنودُهُ وخيولُهُ دونَ أنْ يَشعُروا بذلك.
﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكٗا مِّن قَوۡلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ الَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِي بِرَحۡمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [النمل :19]
فسَمِعَ سُلَيمانُ ما قالَتِ النَّملَة، وتبَسَّمَ سُرورًا بما فَهَّمَهُ اللهُ مِنْ كلامِها، وقالَ في عُبوديَّةٍ وخُشوع: اللهمَّ ألهِمني أنْ أشكُرَ نعمتَكَ التي منَنْتَ بها عَليّ، مِنَ النبوَّةِ والمُلْكِ وتعَلُّمِ مَنطِقِ الحيَوان، ونِعمتَكَ على والدَيَّ بالإيمانِ والإسْلام، ووَفِّقني لأقومَ بالأعمالِ الحسَنَةِ التي تُحِبُّها وتَرضَى بها، وأدخِلني في جُملَةِ الصَّالِحينَ مِنْ عِبادِكَ إذا توفَّيتَني، واحشُرني في زُمرَتِهم.
﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيۡرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى الۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ الۡغَآئِبِينَ﴾ [النمل :20]
وبحثَ سُليمانُ عنِ الطَّير، وطلبَ ما فُقِدَ منها، فلمْ يرَ مِنْ بينِها الهُدْهُد، فقال: ما لي لا أرَى الهُدْهُد، أمْ أنَّهُ غابَ مِنْ غَيرِ إذني؟
والهُدْهُدُ طائرٌ ذَكيٌّ حَذِر، سَريعُ المُلاحظَة، قَويُّ الذَّاكِرَة، واسِعُ الحِيلَة، ويُكْنَى بأبي الأخبار. ولا يَجوزُ قَتلُه، كما جاءَ في حَديثٍ صَحيح.