﴿الٓمٓ﴾ [الروم :1]
الحروفُ المُقَطَّعَةُ لم يَرِدْ في تَفسيرِها حَديثٌ صَحيح، واللهُ أعلمُ بمَعناها.
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم :2]
غُلِبَتِ الرُّومُ في حَربِها معَ الفُرس،
﴿فِيٓ أَدۡنَى الۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ﴾ [الروم :3]
في أقرَبِ أرضِ الرُّومِ إلى فارِس، فاستَولَى سابُورُ مَلِكُ الفُرسِ على بِلادِ الشَّامِ وما وَالاها، وأقاصي بِلادِ الرُّوم، حتَّى اضطُرَّ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ إلى اللُّجوءِ إلى القِسطَنطِينيَّة، وحُوصِرَ فيها مُدَّةً طَويلَة. وبَعدَ أنْ هُزِمَتِ الرُّومُ، ستَنتَصِرُ على فارِس،
﴿فِي بِضۡعِ سِنِينَۗ لِلَّهِ الۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ الۡمُؤۡمِنُونَ﴾ [الروم :4]
بعدَ بِضْعِ سنَوات، وهوَ ما بينَ الثَّلاثِ والتِّسْع. والحُكمُ والقضَاءُ للهِ وحدَه، قَبلَ الغلَبَةِ على الرُّومِ وبَعدَها. وعندَما تَنتَصِرُ الرُّومُ يَفرَحُ المُسلِمون،
﴿بِنَصۡرِ اللَّهِۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم :5]
بنَصرِ اللهِ إيَّاهُمْ على فارِس. وكانَ المشرِكونَ يُحِبُّونَ أنْ تَنتَصِرَ فارِسُ لأنَّهمْ أهلُ شِرك، ويُحِبُّ المُسلِمونَ أنْ تَظهرَ الرُّومُ عَليهمْ لأنَّهمْ أهلُ كِتاب. واللهُ يَنصرُ مَنْ يَشاءُ، فالأمرُ لهُ وحدَه، وهوَ العَزيزُ في انتِقامِهِ مِنْ أعدَائه، الغالِبُ الذي لا يُقْهَر، الرَّحيمُ بعِبادِهِ المؤمِنين.
﴿وَعۡدَ اللَّهِۖ لَا يُخۡلِفُ اللَّهُ وَعۡدَهُۥ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ النَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الروم :6]
ووَعدُ اللهِ بنَصرِ الرُّومِ على الفُرسِ وَعدٌ حَقٌّ لا يُخْلَف، ولكنَّ أكثرَ النَّاس، ومنهمْ مُشرِكو مكَّة، لا يَعلَمونَ ذلك، ولا يَتفَكَّرونَ في كلامِ اللهِ ووَعدِه، وقُدرَتِهِ وحِكمَتِهِ في أفعالِه.
﴿يَعۡلَمُونَ ظَٰهِرٗا مِّنَ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا وَهُمۡ عَنِ الۡأٓخِرَةِ هُمۡ غَٰفِلُونَ﴾ [الروم :7]
إنَّما يَعلَمونَ ظاهِرَ ما هُمْ فيهِ مِنَ الحيَاةِ الدُّنيا، كأمرِ التكَسُّبِ والتِّجارَة، والغِراسِ والحَصاد، والشَّهواتِ والمَلذَّات، وهمْ سَاهونَ عنِ الدَّارِ الآخِرَة، جاهِلونَ بها، لا يَتفَكَّرونَ فيها ولا يَعمَلونَ لها.
﴿أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِالۡحَقِّ وَأَجَلٖ مُّسَمّٗىۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآيِٕ رَبِّهِمۡ لَكَٰفِرُونَ﴾ [الروم :8]
ألا يَتفَكَّرونَ في أنفُسِهمْ وطَبيعَةِ تَكوينِهمْ وهَيئتِهم، وفيما حَولَهمْ مِنْ أعاجِيبِ الخَلق، وهذهِ السَّماواتِ الكبيرَة، والأرْضِ وما فيها، وما بينَهما، وأنَّ اللهَ لم يَخلُقْهما إلاّ بالحَقِّ والعَدل، ولحِكمَةٍ وفائدَة، وهُما مَخلوقانِ إلى أجَلٍ مُحَدَّد، هوَ يَومُ القيامَة، ولكنَّ كثيرًا مِنَ النَّاسِ لا يُؤمِنونَ بالبَعثِ والحِساب، فهمْ مُعرِضونَ عمَّا يَنتَظِرُهمْ بعدَ المَوت.
﴿أَوَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي الۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗ وَأَثَارُواْ الۡأَرۡضَ وَعَمَرُوهَآ أَكۡثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِالۡبَيِّنَٰتِۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ﴾ [الروم :9]
أوَلمْ يَسِيروا في الأرْضِ ليَنظُروا في آثارِ المُكَذِّبينَ مِنْ قَبلِهم، ويَسألوا العُلماءَ عنْ قِصَصِهم، ويَقرَؤوا في الكتُبِ عنْ مَآلِهم، ويَعتَبِروا مِنْ عاقِبَةِ أمرِهمْ وهَلاكِهم؟ فقدْ كانوا أقوَى منهمْ أبدانًا، وحرَثوا الأرضَ للزراعَةِ وقَلَّبوا تُرابَها لاستِخراجِ ما فيها مِنْ مَاءٍ ومَعدِنٍ وغَيرِه، واستَغَلُّوها وعمَروها بالغَرسِ والصِّناعاتِ والعِمارات، أكثرَ ممَّا عمَرها مُشرِكو مَكَّة.
وقدْ جاءَتْهمْ رسُلُهمْ مُبَشِّرينَ ومُنذِرين، ومُؤيَّدينَ بمُعجِزاتٍ مِنْ عندِ رَبِّهم، فكذَّبوهمْ وعانَدوهم، وجحَدوا برسَالاتِ رَبِّهم، فأهلَكناهُم، وما ظَلمَهمُ اللهُ بمُعاقَبتِهم، بلْ كانَ ذلكَ جَزاءَ فسادِهمْ وجَرائمِهمْ ومَعاصيهم، وعِنادِهمْ واستِكبارِهم، فهمُ الذينَ ظَلموا أنفُسَهمْ بذلك.
﴿ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَـٰٓـُٔواْ السُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [الروم :10]
ثمَّ كانتِ النَّارُ عاقِبَةَ الذينَ أسَاؤوا العمَل، لأنَّهمْ كذَّبوا بمُعجِزاتِ اللهِ الظاهِرَة، واستَهزَؤوا بها واحتقَروها، مع أنَّهُ لم يَكنْ بمَقدورِ أحَدٍ أنْ يأتيَ بمِثلِها.
﴿اللَّهُ يَبۡدَؤُاْ الۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [الروم :11]
اللهُ سُبحانَهُ يُنشِئُ الخَلقَ ابتِداءً ولم يَكونوا شَيئًا، ثمَّ يُعيدُ نَشأتَهُ بعدَ مَوتِهِ يومَ البَعث، ثمَّ تُرجَعونَ إليهِ - أيُّها الناسُ - ليُجازِيَكمْ على أعمالِكم.
﴿وَيَوۡمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبۡلِسُ الۡمُجۡرِمُونَ﴾ [الروم :12]
وعندَما تَقومُ القيامَة، يَيْأسُ المشرِكونَ مِنْ كُلِّ خَير، فيَسكتونَ ويَكتَئبون، وتَنقَطِعُ حُجَّتُهم.
﴿وَلَمۡ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَآئِهِمۡ شُفَعَـٰٓؤُاْ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمۡ كَٰفِرِينَ﴾ [الروم :13]
ولم تَنفَعْهُمْ عِبادَتُهمْ للأصْنامِ وغَيرِها، التي اتَّخَذوها آلِهَةً مِنْ دونِ الله، فلمْ تَشفَعْ لهمْ يَومَ القيامَةِ وقدْ قُذِفوا في النَّار، فجحَدوها وتبرَّؤوا منها عندَما تبيَّنَ لهمْ حقيقَةُ أمرِها.
﴿وَيَوۡمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوۡمَئِذٖ يَتَفَرَّقُونَ﴾ [الروم :14]
في ذلكَ اليَومِ العَصيب، الذي يُحاسَبُ فيهِ كُلٌّ على عمَلِه، يتميَّزُ المؤمِنونَ عنِ الكافِرين، ويَتفَرَّقُ بَعضُهمْ عنْ بَعض، فلا يَجتَمِعونَ بعدَها أبدًا.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ فَهُمۡ فِي رَوۡضَةٖ يُحۡبَرُونَ﴾ [الروم :15]
فأمَّا الذينَ آمَنوا بحَقّ، وعَمِلوا صالِحًا بإخْلاص، فهمْ في ريَاضِ الجنَّةِ النَّضِرَةِ الجَميلَةِ يَنعَمونَ ويَسعَدون.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَلِقَآيِٕ الۡأٓخِرَةِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ فِي الۡعَذَابِ مُحۡضَرُونَ﴾ [الروم :16]
وأمَّا الذينَ كفَروا بالله، وجحَدوا بالمُعجِزاتِ التي أيَّدَ بها رسُلَه، وبالأدلَّةِ والبَراهينِ الدالَّةِ على وَحدانيَّتِهِ وقُدرَتِه، وبالبَعثِ والحِسابِ بعدَ المَوت، فأولئكَ مُقيمونَ في العَذاب، لا يَغيبونَ عنهُ أبدًا.
﴿فَسُبۡحَٰنَ اللَّهِ حِينَ تُمۡسُونَ وَحِينَ تُصۡبِحُونَ﴾ [الروم :17]
فتقَدَّسَ اللهُ وتنَزَّهَ عمَّا يَصِفُهُ بهِ المشرِكونَ مِنْ نَقصٍ وعَيب، فسَبِّحوهُ أيُّها المؤمِنونَ ونَزِّهوهُ عنْ كُلِّ ما لا يَليقُ بشأنِه، عندَ المسَاءِ واللَّيلُ يُقْبِل، وعندَ الصَّباحِ والنَّهارُ يُسفِر.
﴿وَلَهُ الۡحَمۡدُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَعَشِيّٗا وَحِينَ تُظۡهِرُونَ﴾ [الروم :18]
ولهُ الفَضلُ والنِّعمَةُ ولهُ الثَّناءُ الحسَن، المَحمودُ في السَّماواتِ والأرْض، يَحمَدُهُ أهلُها ويُصَلُّونَ له، حينَ يَشتَدُّ اللَّيلُ بظَلامِه، وعِندَما يَتجلَّى النَّهارُ بضِيائه.
﴿يُخۡرِجُ الۡحَيَّ مِنَ الۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ الۡمَيِّتَ مِنَ الۡحَيِّ وَيُحۡيِ الۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ وَكَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ﴾ [الروم :19]
هوَ اللهُ الخالِقُ القادِر، الذي يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّت، فيُخرِجُ الزَّرْعَ مِنَ الحَبَّة، والفَرْخَ مِنَ البَيضَة، ويُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيّ، فيُخرِجُ الحَبَّةَ منَ الزَّرع، والبَيضَ مِنَ الطَّيرِ وغَيرِه، ويُميتُ أشياءَ لتَكونَ مادَّةً لحياةٍ أُخرَى في الإنسَانِ والكَون. كما يُحيي الأرضَ بعدَ موتِها، فيُخرِجُ نَباتَها وزَرعَها، كذلكَ يُحييكمْ بعدَ موتِكم، فيُخرِجُكمْ أحياءً مِن قُبورِكمْ إلى المَحشَرِ للحِساب.
﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٞ تَنتَشِرُونَ﴾ [الروم :20]
ومِنْ آياتِهِ الدالَّةِ على كمَالِ قُدرَتِه، أنْ خلقَ أصلَكمْ مِنْ تُراب، ثمَّ إذا أنتُمْ بشَرٌ كُثُرٌ تَنتَشِرونَ في الأرْض.