﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ النَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَيَقۡتُلُونَ الَّذِينَ يَأۡمُرُونَ بِالۡقِسۡطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران :21]
إنَّ الذينَ كفَروا بدينِ اللهِ وما أنزلَهُ منْ آياتٍ بيِّناتٍ، فآثرُوا الكفرَ على الإيمان، وارتَكبوا المآثمَ بتكذيبِهمْ رُسُلَه، وخالَفوهمُ استكباراً وعِناداً، ولم يَكتفوا بهذا، بلْ قَتلوا بعضَ أنبياءِ اللهِ الكِرام، ولا جَريمةَ لهمْ في ذلكَ سِوَى دعوتِهمْ إلى الحقّ! ثمَّ شَهَروا السُّيوفَ ضدَّ مَنْ يأمرُهم بالعدلِ واتِّباعِ الصِّراطِ المستَقيم، ويَنهاهُمْ عنِ المنكرِ والبَغي والجَهالة، مادامَ ذلكَ لا يَوافَقُ أهواءَهمْ وضلالاتِهم، تكبُّراً واستعلاءً على الحقِّ والهُدَى. إذاً فبشِّرْهُمْ بذِلَّةٍ وصَغار، وعَذابٍ قَريبٍ يَنالُهم.
﴿أُوْلَـٰٓئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي الدُّنۡيَا وَالۡأٓخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِينَ﴾ [آل عمران :22]
لقدْ بَطَلَ ثوابُ جميعِ ما عَمِلوا منْ أعمالٍ في الدُّنيا، ولو بدا بعضُها حَسناً وكبيراً، جزاءَ كُفرِهمْ وعِنادِهمْ وإيثارِهمُ الباطلَ على الحقّ، وقدْ فَقدوا الميزانَ الحقيقيَّ الذي يَحكمُ على الأعمالِ ويُبَيِّنُ خيرَها مِنْ شرِّها، ولنْ يكونَ لهمْ ناصرٌ يَنصرُهمْ مِنْ بأسِ الله، ولا مؤيِّدٌ يومَ القيامةِ يُخرِجُهمْ منَ العَذابِ المُهين.
﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ الۡكِتَٰبِ يُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ كِتَٰبِ اللَّهِ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ وَهُم مُّعۡرِضُونَ﴾ [آل عمران :23]
ألا تَنظرُ إلى هؤلاءِ الذين أُوتُوا حظًّا مِنَ التوراةِ والإنجيل، منَ اليَهودِ والنَّصارَى، إذا دُعُوا إلى التحاكُمِ إلى ما فيهِما منْ طاعةِ الله، ومنْ بينِها اتِّباعُ الرسولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أعرضَ قِسْمٌ منهمْ مخالفةً وعِناداً، وإصراراً على الباطِل، وكأنَّهمْ ليسوا أهلَ كتاب، فلا يَهُمُّهمُ العملُ بما فيه؟!
﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّآ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۖ وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾ [آل عمران :24]
فإذا عُيِّرُوا بهذهِ المخالَفةِ وقيلَ لهمْ إنَّها جُرأةٌ ومَعصِيَةٌ مُنكَرة، ويَترتَّبُ عليها عِقابٌ عَظيمٌ منَ الله، هوَّنوا منْ إقدامِهمْ على هذا الفِعلِ المُنكَر، وافترَوا على اللهِ الكذِب، بقولِهمْ إنَّهمْ سيُعَذَّبونَ أياماً قليلةً في النار، ثمَّ يَخرجونَ منها إلى الجنَّة. ومثلُ هذا الذي مَنَّوا بهِ أنفسَهمْ أبقاهُمْ على دينِهمُ الباطِل، وهوَ ما لم يُنْـزلِ اللهُ بهِ سُلطاناً، إنَّما هوَ كذبٌ وافتِراء.
﴿فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ [آل عمران :25]
فليَنتَظِروا ذلكَ اليومَ الحقَّ الذي نَجمَعُهمْ فيهِ للحِساب، ونُعطي كلَّ نفسٍ نَصيبَها منَ العِقاب، ولنْ يُظلَموا، وكفَى بالنارِ مَوئلاً وعَذاباً لمنْ عصَى وأبَى.
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَٰلِكَ الۡمُلۡكِ تُؤۡتِي الۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ الۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [آل عمران :26]
قلْ: اللهمَّ لكَ المُلْكُ كلُّهُ بلا شَريك، أنتَ وحدَكَ المتصرِّفُ فيه، تؤتي فيهِ ما تشاءُ لعبادِك، مُلكاً مُعاراً مُؤقَّتاً، فأنتَ صاحبهُ وتَفعلُ فيهِ ما تُريد، وتَسْلبُهُ ممَّنْ تشاءُ عندَما تشاء، لا أحدَ يَقْدِرُ على أنْ يَمنعَ ويقولَ لا، فأنتَ مالكهُ وصاحبُه.
وتَجعلُ مَنْ تشاءُ مِنْ عبادِكَ عَزيزاً كريماً، وتَجعلُ مَنْ تشاءُ منهمْ ذَليلاً مَهيناً، بالقِسطِ والعَدل، فميزانُ الحقِّ بيدِك، وكلُّ شيءٍ عندَكَ بميزان، والخيرُ كلُّهُ بيدِكَ وفي مُلكِك، وأنتَ قادرٌ على كلِّ شَيء، فتُعطي مَنْ تشاء، وتَمنعُ مَنْ تشاء، وما شِئتَ كان، وما لم تَشَأ لم يَكن.
﴿تُولِجُ الَّيۡلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ الۡحَيَّ مِنَ الۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ الۡمَيِّتَ مِنَ الۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ﴾ [آل عمران :27]
ومِنْ آياتِكَ العَظيمةِ في الطبيعةِ رَبَّنا، أنْ تجعلَ حركةَ الضياءِ والظُّلمةِ على ما يَراهُ الإنسانُ منْ إعجاز، فتَجعلُ الضياءَ في النهارِ وتقلِّلُ منهُ حتَّى يَدخُلَ في ظُلمةِ المساءِ الخفِيفَة، ثمَّ يأتي الظلامُ فتَخِفُّ ظُلمتُهُ شَيئاً فشَيئاً ويَدخلُ في نورِ النهار، وتأخذُ منْ طولِ النهارِ لتَزيدَهُ في قِصَرِ الليلِ حتَّى يَعتدلا، ثمَّ العكس، حتَّى تَكتمِلَ دَورةُ الفصول.
وأنتَ الذي تُخرِجُ الحيَّ منَ الميِّت، وتُخرِجُ الميِّتَ منَ الحيّ، فتُخرِجُ الحبوبَ منَ الزُّروعِ والزُّروعَ منَ الحبوب، وتُخرِجُ الدجاجةَ منَ البيضةِ والبيضةَ منَ الدجاجة، وتُمِيتُ أشياءَ لتَكونَ مادَّةً لحياةٍ أخرَى في الإنسانِ والكَون، وهكذا في حركةٍ دائمة، لا يدَّعي أحدٌ أنَّهُ قادرٌ على مثلِها، ولا يَقولُ عاقلٌ إنَّهُ مصادَفةٌ مِنْ غَيرِ تَدبيرٍ وتَقدير.
وإذا عَرفَ الإنسانُ أنَّ كلَّ ما في الكونِ مُلْكٌ لله، وأنَّ ما يَجري فيهِ مِنْ عِزٍّ وذُلٍّ، وحياةٍ ومَوت، بمشِيئتِهِ وتَقديرِه، فليَعلمْ أنَّهُ هوَ وحدَهُ الذي يَرزُقُ مَنْ يَشاءُ بما يَشاء، فلا أحدَ يَستطيعُ أنْ يمنعَ نِعَمَهُ مِنْ أحَد، ولا أنْ يُعطيَ مَنْ يَمنعُه، فهوَ صاحبُ المشيئةِ والإرادة، وهوَ العادلُ الذي لا يَظلِم.
﴿لَّا يَتَّخِذِ الۡمُؤۡمِنُونَ الۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ الۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى اللَّهِ الۡمَصِيرُ﴾ [آل عمران :28]
لا يَحِلُّ لأحَدٍ منَ المسلِمينَ أنْ يُواليَ كافراً ويُحِبَّهُ منْ دونِ المؤمنين، فمنْ فعلَ ذلكَ فقدْ مالَ قلبهُ إلى الكافرِ وفضَّلَهُ على المؤمِن، وهوَ بهذا العملِ ليسَ منَ اللهِ في شَيء، فهوَ مُنقَطِعُ الصِّلَةِ به، بَعيدٌ عنه، بَريءٌ منه. إلاّ مَنْ خافَ منهمْ فاتَّقَى شرَّهم، في بُلدانٍ وأوقاتٍ معيَّنة، بظاهرِ لسانهِ لا بقلبه، فإذا زالَ الخوف، زالتِ التقيَّة.
وإنَّ اللهَ يُحَذِّركمْ نِقمتَهُ وغَضَبه، فإنَّ العذابَ سيَنالُ مَن والَى أعداءَهُ وعادَى أولياءَه، وإنَّ مصيرَكمْ جميعاً إلى الله، ولسوفَ يُجازي كلاًّ بما عَمل.
﴿قُلۡ إِن تُخۡفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمۡ أَوۡ تُبۡدُوهُ يَعۡلَمۡهُ اللَّهُۗ وَيَعۡلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [آل عمران :29]
وقلْ: إنَّكمْ إنْ أخفَيتُمْ ما في قلوبِكمْ مِنْ مَودَّةِ الكافِرين، أو أبدَيتُمْ موالاتَكمْ لهمْ قَولاً وفِعلاً، فإنَّ اللهَ عالِمٌ بالسَّرائرِ والظواهِر، لا يَخفَى عليهِ شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماء، وهوَ قادِرٌ على عُقوبتِكمْ إنْ لم تَنتهوا عمّا نَهاكمْ عنه، وقادِرٌ على كلِّ شَيء. فاتَّقوا الله، ولا تَرتَكبوا ما مَنعكمْ منه.
﴿يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوٓءٖ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَهُۥٓ أَمَدَۢا بَعِيدٗاۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَاللَّهُ رَءُوفُۢ بِالۡعِبَادِ﴾ [آل عمران :30]
وفي يومِ الحِسابِ يَرَى كلُّ عبدٍ أعمالَهُ أمامَهُ مِنْ خَيرٍ وشَرّ، لم يَنْقُصْ منها شَيء، فيُسَرُّ ويَفرَحُ بالخَير، ويَندَمُ ويَتحسَّرُ على ما اقترفَ مِنْ شَرّ، ويَوَدُّ لو أنَّ بينَهُ وبينَ يومِ القيامةِ يَوماً بعيداً لا يَصِلُ إليه.
وإنَّ اللهَ يُخَوِّفُكمْ حِسابَهُ وعِقابَه، وهوَ كذلكَ رَؤوفٌ بكمْ واسِعُ الرَّحمة. ورَحمتُهُ لا تَمنعُ عِقابَ ما حذَّركمْ منه، وتَحذيرُهُ لا يَعني رفعَ الرحمةِ عنكم، لكنَّ كليهِما مُتَحَقِّقان. فاحذَروا، ولا تيأسوا، واعمَلوا الخيرَ وأبشِروا.
﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ اللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [آل عمران :31]
وقلْ: إذا كنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ حقّاً فاتَّبعوني واسلُكوا طَريقي، وأطيعوا ما آمرُكمْ به، فإذا فَعلتُمْ ذلكَ فقدْ حَصلَ لكمْ جزاءُ طلبِكم، وهوَ محبَّةُ اللهِ لكمْ ورِضاهُ عَنكم، ومَغفِرَتُهُ لذنوبِكم، فإنَّهُ كثيرُ المغفِرَة، واسعُ المرحَمة.
﴿قُلۡ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [آل عمران :32]
قُل: أطيعوا اللهَ فيما يأمرُكمْ به، واتَّبِعوا الرسولَ محمَّداً صلى الله عليه وسلم في جميعِ ما يُبَلِّغكمْ مِنْ أمرٍ ونَهي، لتَفوزوا برِضَى اللهِ وعفوِه، فإذا أبَوا ورَضُوا بالكفرِ والضَّلال، فإنَّ اللهَ يَبْغُضُهمْ ويَسْخَطُ عليهم، ويُعِدُّ لهمْ ما يَستَحِقُّونَهُ مِنْ عِقاب.
﴿۞إِنَّ اللَّهَ اصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى الۡعَٰلَمِينَ﴾ [آل عمران :33]
لقدِ اختارَ الله لحَمْلِ رسالةِ الإسلامِ وتبليغِ دعوتهِ آدَم، ونُوحاً، وآلَ إبراهيم، وآلَ عِمْران، مِنْ بينِ سائرِ الناس.
فآدمُ خَلَقَهُ بيدهِ وأسجدَ لهُ ملائكتَه، ونوحٌ جعلَهُ أوَّلَ رسولٍ إلى أهلِ الأرض، وآلُ إبراهيمَ منهمْ صاحبُ المِلَّةِ الحنيفيَّةِ خليلُ اللهِ إبراهيمُ نفسُه، ومُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذُرِّيته، وهوَ أفضَلُ الخلقِ وأكرمُهمْ على الله، وخاتمُ أنبيائه، وآلُ عِمران، وعِمرانُ والدُ مريمَ أمِّ عيسى، نبيِّ اللهِ الكريم.
﴿ذُرِّيَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضٖۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران :34]
وهؤلاءِ ذُرِّيةٌ مُبارَكةٌ بَعضُها مِنْ بعضٍ في الدِّينِ والتَّناصُر، يَجمَعُهمْ وحدةُ العَقيدة، وتَبليغُ الرسَالة، والدعوةُ إلى الحقّ.
وهوَ يَسمَعُ مِنْ عبادهِ ما يدعونَ بهِ ويُسِرُّونَ ويُظهِرون، عليمٌ بهمْ وبأعمالِهم، فيَختارُ مَنْ يشاءُ منهمْ لحَمْلِ رسالتِه.
﴿إِذۡ قَالَتِ امۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الۡعَلِيمُ﴾ [آل عمران :35]
واذكرْ ما قالَتْهُ أمُّ مريمَ زَوجَةُ عِمرانَ بعدَ أنَ حَمَلَتْ، قالت: اللهمَّ إنِّي نَذَرتُ(20) أنْ أجعلَ حَمْلِي خالِصاً لعبادتِك، مُتَفَرِّغاً لخدمةِ الكنيسةِ في بيتِ المقدس، فتَقبَّلْ منِّي ذلك، فأنتَ الكريمُ المُجيب، تَسمعُ دُعائي وتَضُرُّعي إليك، وتَعلمُ صِدْقَ نيَّتِي في ذلك.
(20) قالَ الإمامُ الطبري في معنى النذر، في الآيةِ (270) من سورةِ البقرة: ما أوجبَهُ المرءُ على نفسه، تبرُّراً في طاعةِ الله وتقرُّباً به إليه، من صدقةٍ أو عملِ خير.
﴿فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ الذَّكَرُ كَالۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيۡطَٰنِ الرَّجِيمِ﴾ [آل عمران :36]
فلمّا وَضَعتْ حَمْلَها قالت: اللهمَّ إنِّي وَضعتُها أنثَى، واللهُ عالمٌ بما رُزِقَتْ به، قالت: وليسَ الذكرُ كالأنثَى، في العِبادةِ والقوَّة، والصبرِ على المشاقّ، وخاصَّةً في خدمةِ الكنيسة، التي نَذَرتْ أنْ تُقَدِّمَ حَمْلَها لها. وكانَ الصبيانُ همُ الذينَ يَنهضونَ لمثلِ هذا وليسَ الإناث. قالت: وسمَّيتُها مَرْيم، وقدْ عَوَّذْتُها وذرِّيتَها بكَ منَ شرِّ الشيطانِ المـُبْعَدِ من رحمتِك، وأودعتُها حمايتَكَ ورعايتَك.
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا الۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ اللَّهِۖ إِنَّ اللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران :37]
فتقبَّلَ اللهُ نَذْرَها جزاءَ إخلاصِها، وربَّى مريمَ تربيةً حسَنةً منذُ نَشأتِها، ويسَّرَ لها أسبابَ القَبول، وجعلَ نبيَّ اللهِ زَكريّا كافِلاً لها وأميناً عَليها، وكانَ المسؤولَ الأوَّلَ في مركزِ العبادةِ ببيتِ المَقدِس، فتعلَّمَتْ منهُ عِلماً جَمًّا وعَملاً صَالحاً، فنشأتْ مُبارَكةً مُهَيَّأةً لأمرٍ جَلَل.
وكانَ زَكريّا كلَّما دَخَلَ عليها في مَكانِ عِبادتِها وجدَ عندَها طَعاماً وفاكِهة، فيَعْجَبُ لذلكَ وهوَ نبيُّ الله، ويقولُ لها: مِنْ أينَ لكِ هذا الرزقُ يا مَريم؟ فتقولُ في تَواضُعٍ وخُشوعٍ وإيمان: هوَ منْ عندِ الله، وهوَ سُبحانَهُ يُعطي مَنْ يَشاءُ بغيرِ حِساب، فهو كريمٌ واسِعُ الفَضل، جميلُ العَطاء.
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ﴾ [آل عمران :38]
وعندَما رَأى زَكريّا عليهِ السَّلامُ فيها هذا الصلاحَ والولاية، والتعبُّدَ والقُنوت، والإخلاصَ في الخدمةِ، تحرَّكَ في قَلبِهِ حبُّ الذرِّيةِ الصَّالحَة، لتَكونَ امتداداً لهُ ولعملِه، وكانَ شيخاً كبيراً قدْ وهنَ منهُ العَظم، وزوجُهُ كبيرةٌ عاقِرٌ لا تُنجِب، ومعَ ذلكَ لم يَيأس، فاللهُ قادرٌ على كلِّ شَيء. فدعا في استِكانةٍ وخُشوع، وقال بصوتٍ ضَعيف: اللهمَّ إني أسألُكَ أنْ تَرزُقَني ولداً صالحاً تَقَرُّ بهِ عَيني، وأنتَ تَسمَعُ مُناجاتي بينَ يديك، وتَضُرُّعي إليك، ورَغبتِي في الذريَّةِ الطيِّبة.
﴿فَنَادَتۡهُ الۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي الۡمِحۡرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [آل عمران :39]
فاستجابَ اللهُ دعاءَه، ونادتْهُ الملائكةُ وهوَ يُصَلِّي في مجلسِ مناجاتهِ وصلاتِه: إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بولدٍ مِنْ صُلبِكَ اسمهُ يَحْيَى، يُصَدِّقُ بنبوَّةِ عيسى بنِ مَريم، الذي وُجِدَ بكلمةِ الله: كُنْ. (فكانَ أوَّلَ مُصَدِّقٍ بهِ) ويَكونُ سيِّداً ورَئيساً جَليلاً في العلمِ والعِبادة، قدْ حبسَ نفسَهُ عنِ الشهواتِ فلا يأتي النساء، ونبيّاً كريماً يُوحَى إليه، منَ المشهورينَ بالصَّلاح.
﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ الۡكِبَرُ وَامۡرَأَتِي عَاقِرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ [آل عمران :40]
قالَ زكريّا عليهِ السَّلامُ في تبتُّلٍ ومُناجاةٍ وتَشُوُّق: يا رَبّ، وكيفَ يَصِيرُ لي وَلدٌ وقدْ أدركني كِبَرُ السنِّ وامرأتي عاقرٌ لا تُنجِب؟
قالَ ذلكَ اعتِداداً بنعمةِ الله، وتعظيماً لقدرتهِ وتَعجُّباً منها، لا استِبعاداً.
فقالَ اللهُ له: هذا أمرُ الله، فلا يُعْجِزُهُ شَيءٌ ولا يَتعاظَمُهُ أمر، ويَفعلُ ما يشاءُ منَ الأمورِ الخارقةِ والصنائعِ البَديعة.