حُروفٌ مُقطَّعَةٌ اختلفَ المفسِّرونَ في دَلالَتِها، واللهُ أعلمُ بها.
﴿وَالۡكِتَٰبِ الۡمُبِينِ﴾ [الزخرف :2]
أُقسِمُ بالقُرآنِ البَيِّنِ في ألفاظِهِ وأحكامِه، وفي هَديهِ ودَلائلِه، وفي دَعوَتِهِ النَّاسَ إلى التَّوحيدِ والطَّاعَة.
﴿إِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ [الزخرف :3]
إنَّا جعَلناهُ كتابًا بلسانٍ عرَبيٍّ فَصيح، لتَفهَموا أحكامَهُ وتَتدَبَّروا مَعانيه، ولتَعتَبِروا بما فيه.
﴿وَإِنَّهُۥ فِيٓ أُمِّ الۡكِتَٰبِ لَدَيۡنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف :4]
وإنَّهُ في اللَّوحِ المَحفوظِ عندَنا ذو مَنزِلَةٍ عاليَة، عَظيمُ القَدْرِ بينَ الكتُب، مُحكَمٌ، لا يَتطَرَّقُ إليهِ باطِلٌ ولا تَحريف.
﴿أَفَنَضۡرِبُ عَنكُمُ الذِّكۡرَ صَفۡحًا أَن كُنتُمۡ قَوۡمٗا مُّسۡرِفِينَ﴾ [الزخرف :5]
أفنُبعِدُ عنكمُ القُرآنَ بسبَبِ تَكذيبِكمْ لهُ ورَفضِكمُ اتِّباعَه؟ بلْ نَرحَمُكمْ ونَدعوكُمْ إليه، ليَهتَديَ بهِ مَنْ أرادَ اللهُ لهُ الخَيرَ والهِدايَة، وليَكونَ حُجَّةً على مَنْ أعرضَ عنه.
﴿وَكَمۡ أَرۡسَلۡنَا مِن نَّبِيّٖ فِي الۡأَوَّلِينَ﴾ [الزخرف :6]
وقدْ أرسَلنا رسُلاً كثيرينَ إلى الأمَمِ التي سبقَتْكم.
﴿وَمَا يَأۡتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [الزخرف :7]
وما كانَ يأتيهمْ نَبيٌّ مِنَ الأنبِياءِ إلاّ كانوا يُكَذِّبونَهُ ويَسخَرونَ منه، كما يَفعَلُ قَومُكَ بك، ولم يَمنَعْنا ذلكَ مِنْ إرسالِ الرسُلِ إليهم.
﴿فَأَهۡلَكۡنَآ أَشَدَّ مِنۡهُم بَطۡشٗا وَمَضَىٰ مَثَلُ الۡأَوَّلِينَ﴾ [الزخرف :8]
فانتقَمنا لهم، وأهلَكنا مَنْ كذَّبوهم، وكانوا أقوَى مِنْ قَومِك، وأشَدَّ بأسًا منهم، وقدْ سبقَتْ سُنَّتُنا في تَقديرِ العُقوبَةِ على هؤلاءِ وأمثالِهمْ مِنَ المُكذِّبين.
﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الۡعَزِيزُ الۡعَلِيمُ﴾ [الزخرف :9]
وإذا سألتَ هؤلاءِ المشرِكين: مَنِ الذي خَلقَ السَّماواتِ العَظيمَة، والأرْضَ وما فيها ومَنْ عَليها؟ فسَيقولون: خلقَهنَّ اللهُ وحدَه، العَزيزُ في مُلكِهِ فلا يُقْهَر، العَليمُ بأحوالِ الكونِ كُلِّهِ فلا يَخفَى عَليهِ شَيء.
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [الزخرف :10]
الذي بسَطَ لكمُ الأرْضَ ومَهَّدَها لتَستَقِرُّوا عَليها، وجعلَ لكمْ فيها طرُقًا ومَسالِكَ بينَ الأوديَةِ والجِبالِ لتَتنقَّلوا مِنْ خِلالِها بينَ الأقطارِ والبُلدان، وتَهتَدوا بها في أسفارِكم، وليَكونَ ما سَخَّرَهُ لكمْ مِنْ ذلكَ دَليلاً إلى الإيمانِ باللهِ وقُدرَتِه.
﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَنشَرۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةٗ مَّيۡتٗاۚ كَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ﴾ [الزخرف :11]
وهوَ الذي أنزلَ عَليكمُ المطرَ مِنَ السَّحابِ بقَدْرِ حاجَتِكمْ إليه، فأحيَيْنا بهِ أرْضًا قاحِلَةً خاليَةً مِنْ نباتِ حَيّ، وكما أحيَينا تلكَ الأرْض، كذلكَ نَبعَثُكمْ مِنْ قُبورِكمْ أحياءً يَومَ القِيامَة.
﴿وَالَّذِي خَلَقَ الۡأَزۡوَٰجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الۡفُلۡكِ وَالۡأَنۡعَٰمِ مَا تَرۡكَبُونَ﴾ [الزخرف :12]
وهوَ الذي خَلقَ أنواعَ النَّباتِ والحيَوانِ زَوجَين، ذَكرًا وأُنثَى في كُلٍّ منها، لتَتكاثَرَ وتَنمو، وسخَّرَ لكمُ البَحر، لتَركَبوا على السُّفُنِ فيهِ وتَجوزوا بها إلى حيثُ تُريدون، والأنعامَ كذلك، ذّلَّلَ أنواعًا منها لتَركَبوا عَليها وتَحمِلَ أثقالَكمْ إلى حيثُ تَبغُون،
﴿لِتَسۡتَوُۥاْ عَلَىٰ ظُهُورِهِۦ ثُمَّ تَذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ رَبِّكُمۡ إِذَا اسۡتَوَيۡتُمۡ عَلَيۡهِ وَتَقُولُواْ سُبۡحَٰنَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُۥ مُقۡرِنِينَ﴾ [الزخرف :13]
لتَستَقِرُّوا على ظُهورِها، ثمَّ تَذكروا فَضلَ اللهِ عَليكمْ ورَحمتَهُ بكمْ بتَسخيرِها لكمْ إذا استَوَيتُمْ على ظُهورِها، وتَقولوا مُقرِّينَ بنِعمَتِه، شاكِرينَ لفَضلِه: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}: تقدَّسَ اللهُ رَبُّنا وتنَزَّهَ عنْ كُلِّ نَقصٍ وعَيب، الذي ذَلَّلَ لنا هذا المَركوبَ ويَسَّرَهُ لنا، وما كُنَّا قادِرينَ ومُطيقينَ لتَسخيرِهِ لولا تيسيرُهُ لنا.
﴿وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ [الزخرف :14]
{وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}: وإنَّا رَاجِعونَ إلى رَبِّنا بعدَ مَماتِنا، للحِسابِ والجَزاء.
﴿وَجَعَلُواْ لَهُۥ مِنۡ عِبَادِهِۦ جُزۡءًاۚ إِنَّ الۡإِنسَٰنَ لَكَفُورٞ مُّبِينٌ﴾ [الزخرف :15]
وقدْ ناقضَ المشرِكونَ أنفُسَهمْ عندَما اعترَفوا بأنَّ اللهَ هوَ الخالِقُ ثمَّ جعَلوا لهُ صِفاتٍ للمَخلوقين، وقالوا إنَّ المَلائكةَ بَناتُ الله، فجعَلوا عِبادًا لهُ بِضْعَةً منه، وهوَ سُبحانَهُ بائنٌ مِنْ خَلقِه، إنَّ الإنسَانَ جَحودٌ لنِعمَةِ رَبِّهِ - على الغالبِ - والكافِرُ ظاهِرُ الكُفرانِ في ذلك.
﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخۡلُقُ بَنَاتٖ وَأَصۡفَىٰكُم بِالۡبَنِينَ﴾ [الزخرف :16]
وقالَ سُبحانَهُ مُنكِرًا عَليهم: أمْ أنَّ اللهَ اتَّخذَ لنَفسِهِ البَناتِ، وأنتُمْ لا تَرضَونَ بهنَّ، واختارَ لكمُ البَنين، وهمُ الأفضَلُ عندَكم؟ فكيفَ يؤثِرُكمْ على نَفسِه، على زَعمِكمْ أنَّ المَلائكةَ بَناتُ الله؟!
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحۡمَٰنِ مَثَلٗا ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [الزخرف :17]
وإذا أُخبِرَ أحَدُ الجاهليِّينَ المشرِكينَ بولادَةِ أُنثَى له، صارَ وَجهُهُ مُسْوَدًّا مِنَ الغَمِّ والبُغضِ والكراهيَةِ ممَّا بُشِّرَ به، وهوَ سَاكتٌ مَهموم، قدِ امتلأَ حُزنًا وكمَدًا ممَّا لَحِقَهُ مِنْ ذلك!
﴿أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي الۡحِلۡيَةِ وَهُوَ فِي الۡخِصَامِ غَيۡرُ مُبِينٖ﴾ [الزخرف :18]
أَوَقدْ خَصُّوا اللهَ بمَنْ يُنشَّأُ في النُّعومَةِ والزِّينَةِ مِنَ النِّساء، فلا يَقدِرْنَ على إظهارِ حُجَّةٍ في الجِدال، ولا مُقارَعَةٍ في القِتال، فكيفَ يَنسِبونَها للهِ تَعالَى، ويَخصُّونَ أنفُسَهمْ بمَنْ يَكونُ مِنَ الفُرسانِ والأبطال؟ وهوَ رَدٌّ عَليهمْ بمَنطقِهم.
﴿وَجَعَلُواْ الۡمَلَـٰٓئِكَةَ الَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ الرَّحۡمَٰنِ إِنَٰثًاۚ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ سَتُكۡتَبُ شَهَٰدَتُهُمۡ وَيُسۡـَٔلُونَ﴾ [الزخرف :19]
وقالَ المشرِكونَ: إنَّ المَلائكةَ إنَاث! وهمْ عِبادٌ للهِ مُكرَمون. أحَضَروا خَلقَهمْ عندَما أنشأهمُ اللهُ بهذهِ الصِّفَة، أمْ أنَّهمْ يَكذِبونَ على اللهِ بذلك؟ ستُكتَبُ شَهادَتُهمْ بادِّعائهمْ هذا القَول، ويُحاسَبونَ عليهِ أشدَّ الحِساب.
﴿وَقَالُواْ لَوۡ شَآءَ الرَّحۡمَٰنُ مَا عَبَدۡنَٰهُمۗ مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ﴾ [الزخرف :20]
وقالَ المشرِكونَ الجاهِلون: لو أرادَ اللهُ ألاَّ نَعبُدَ المَلائكةَ لمَا عَبَدناهُم، ومادامَ أنَّهُ لم يُعاقِبْنا، فهذا يَعني رِضاهُ عَنَّا وإقرارَهُ لنا على ما نَفعَل! وكيفَ عرَفوا ذلك، وما دَليلُهمْ فيه؟ إنَّهمْ يَكذِبونَ كذِبًا واضِحًا.