تفسير سورة الجاثية

  1. سور القرآن الكريم
  2. الجاثية
45

﴿أَمۡ حَسِبَ الَّذِينَ اجۡتَرَحُواْ السَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ﴾ [الجاثية:21]


بلْ ظَنَّ الذينَ اكتسَبوا السيِّئاتِ أنْ نَجعَلَهمْ كالذينَ آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الحسنَة، في حَياتِهمْ ومَماتِهم، بئسَ ما يَقضُونَ إذًا، أنْ يُساوَى بينَ المؤمِنينَ والمُجرِمين.

﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ بِالۡحَقِّ وَلِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾ [الجاثية:22]


وخلقَ اللهُ السَّماواتِ والأرْضَ وما فيهما بالحقِّ والعَدل، ولحِكمَةٍ وغايَة: للإيمَانِ باللهِ وقُدرَتِه، وطاعَتِه، ولِتُثابَ أو تُعاقَبَ كلُّ نَفسٍ بما عَمِلَت، وهمْ لا يُظلَمونَ والحاكِمُ الله، فلا يُنقَصُ مِنْ ثَوابِهم، ولا يُزادُ في عَذابِهم.

﴿أَفَرَءَيۡتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ اللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية:23]


أفرَأيتَ مَنْ جعلَ هَواهُ ورَغبَتَهُ إلهًا له، فما حسَّنَتْهُ لهُ نَفسُهُ اتَّبعَه، وما قَبَّحَتْهُ ترَكَه، وأضَلَّهُ اللهُ بعدَ بُلوغِ العِلمِ إليه، وقيامِ الحُجَّةِ عَليه، فلا يَزدادُ إلاّ بُعدًا عنِ الدِّين، فيُفَضِّلُ هَواهُ عَليه، وطبَعَ اللهُ على سَمعِه، فلا يَسمَعُ ما يَنفَعُه، ولا يَفقَهُ ما يُقالُ فلا يَتأثَّرُ به، وجعلَ على بصَرِهِ غِطاء، فلا يرَى الدَّليلَ الذي يُهتَدَى به، فمَنْ يَهديهِ بعدَ أنْ أضَلَّهُ اللهُ وهوَ يَعلَمُ أنَّهُ يَستَحِقُّ ذلك، ألا تتَّعِظونَ وتَعتَبِرون؟

﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا الدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية:24]


وقالَ الكافِرون: لا توجَدُ حيَاةٌ إلاّ هذهِ الحيَاةُ الدُّنيا التي نَعيشُها، يَموتُ بَعضُنا ويَحيا آخَرونَ منَّا، ولا حَياةَ بَعدَها، وما يُهلِكُنا إلاّ طُولُ الزَّمان، وكَرُّ اللَّيلِ والنَّهار. وليسَ لهمْ مُستَنَدٌ مِنْ علمٍ أو عَقلٍ على ذلك، ولا يَقولونَ هذا إلاّ ظنًّا وتَخمينًا، وتوَهُّمًا وتَقليدًا، ومِنْ غَيرِ تدَبُّرٍ لحَقائقِ الأمُور، فمُعتقَدُهمْ فاسِد، ورأيُهمْ كاسِد.

﴿وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ ائۡتُواْ بِـَٔابَآئِنَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [الجاثية:25]


وإذا تُتلَى عَليهمْ آياتُ كتابِنا النَّاطِقَةُ بالحقّ، وأنَّ اللهَ يَبعَثُهمْ بعدَ المَوتِ للحِسابِ والجَزاء، ما كانَ دَليلُهمْ على إنكارِهِ إلاّ أنْ قالوا: أحيُوا آباءَنا السَّابِقين، إنْ كنتُمْ صادِقينَ أنَّ هُناكَ حَياةً بعدَ الموت!

﴿قُلِ اللَّهُ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يَجۡمَعُكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ الۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ النَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الجاثية:26]


قُلْ لهمْ أيُّها الرسُولُ الكَريم: إنَّ اللهَ يُحييكمْ عندَ خَلقِكم، ثمَّ يُميتُكمْ عندَ انقِضاءِ آجالِكم، ثمَّ يَبعَثُكمْ ويَجمَعُكمْ في يَومِ القِيامَة، الذي لا شَكَّ فيه، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ ذلك؛ لجَهلِهم، أو عدَمِ إمعانِهمْ في التَّفكير، أو استِكبارِهمْ عنِ اتِّباعِ الحقّ.

﴿وَلِلَّهِ مُلۡكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ وَيَوۡمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوۡمَئِذٖ يَخۡسَرُ الۡمُبۡطِلُونَ﴾ [الجاثية:27]


وللهِ وحدَهُ مُلكُ السَّماواتِ والأرْض، وهوَ المُتصَرِّفُ فيهما، وعندَما تَقومُ القيامَةُ يَخسَرُ الكافِرونَ خَسارَةً كبيرَة، وقدْ كانوا يُجادِلونَ في دَفعِ الحقِّ بالباطِل، ويُجاهِدونَ في إبطالِ الحُجَجِ البيِّنَة.

﴿وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٖ جَاثِيَةٗۚ كُلُّ أُمَّةٖ تُدۡعَىٰٓ إِلَىٰ كِتَٰبِهَا الۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [الجاثية:28]


وترَى كُلَّ أمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ المَجمُوعَة، المُتَميِّزِ بَعضُها عنِ بَعض، بارِكةً على رُكَبِها، على هَيئةِ الخائفِ الذَّليلِ الذي لا يَدري ما يُفعَلُ به، مِنْ هَولِ ذلكَ اليَومِ وشِدَّتِه، كُلُّ أُمَّةٍ فيها تُدْعَى إلى صَحيفَةِ أعمالِها التي كتبَها الحفَظَة، اليَومَ تُحاسَبونَ على أعمالِكم، وتُجزَونَ عَليها جَميعَها، إنْ خَيرًا، أو شرًّا.

﴿هَٰذَا كِتَٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيۡكُم بِالۡحَقِّۚ إِنَّا كُنَّا نَسۡتَنسِخُ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [الجاثية:29]


هذا ديوانُ الحفَظَةِ، الذي دَوَّنوا فيهِ جَميعَ أعمالِكمُ التي قدَّمتُموها في الحيَاةِ الدُّنيا، يَشهَدُ عَليكمْ بالحقِّ والعَدل، بدونِ زيادَةٍ ولا نُقصان، لقدْ كنَّا نأمرُ المَلائكةَ أنْ يَكتُبوا أقوالَكمْ وأعمالَكمْ جَميعَها.

﴿فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ فَيُدۡخِلُهُمۡ رَبُّهُمۡ فِي رَحۡمَتِهِۦۚ ذَٰلِكَ هُوَ الۡفَوۡزُ الۡمُبِينُ﴾ [الجاثية:30]


فأمَّا الذينَ آمَنوا وأخلَصوا في إيمانِهم، وعَمِلوا فأحسَنوا في أعمالِهم، فإنَّ اللهَ يُدخِلُهمْ جنَّتَه، وهوَ النَّجاحُ البَيِّن، والسَّعادَةُ الكُبرَى يَومَ القيامَة.

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَفَلَمۡ تَكُنۡ ءَايَٰتِي تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَاسۡتَكۡبَرۡتُمۡ وَكُنتُمۡ قَوۡمٗا مُّجۡرِمِينَ﴾ [الجاثية:31]


وأمَّا الذينَ كفَروا برَبِّهمْ وكذَّبوا رُسُلَه، فيُقالُ لهمْ وقدْ عرَفوا مَصيرَهم: أفما كانتْ تُقرَأُ عَليكمْ آياتي، فأعرَضتُمْ عَنها، واستَكبَرتُمْ عنِ اتِّباعِها، وكنتُمْ قَومًا مُتَكبِّرينَ كافِرين؟

﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعۡدَ اللَّهِ حَقّٞ وَالسَّاعَةُ لَا رَيۡبَ فِيهَا قُلۡتُم مَّا نَدۡرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّٗا وَمَا نَحۡنُ بِمُسۡتَيۡقِنِينَ﴾ [الجاثية:32]


وإذا قالَ لكمُ المؤمِنون: إنَّ ما وعدَ اللهُ بهِ حقٌّ وصِدق، ويَومَ القِيامَةِ آتٍ لا شَكِّ فيه، جحَدتُمْ ذلكَ وقُلتُم: نحنُ لا نَعرِفُ ما هوَ يَومُ القِيامَة، ونحنُ شاكُّونَ فيه، ولا نَتيَقَّنُ إمكانَه.

﴿وَبَدَا لَهُمۡ سَيِّـَٔاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [الجاثية:33]


وظهرَ لهمْ يَومَ الحِسابِ جَزاءُ أعمالِهمُ السيِّئة، وأحاطَ بهمْ ما كانوا يَسخَرونَ منهُ ويَستَبعِدونَ وقوعَهُ مِنَ العَذاب.

﴿وَقِيلَ الۡيَوۡمَ نَنسَىٰكُمۡ كَمَا نَسِيتُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَا وَمَأۡوَىٰكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـٰصِرِينَ﴾ [الجاثية:34]


وقيلَ لهم: اليَومَ نَتركُكمْ في العَذابِ تَرْكَ المَنسيِّ، كما ترَكتُمُ الإيمانَ والعمَلَ لِلقاءِ هذا اليَوم، وكذَّبتُمْ بوَعدِ الله، ولا مَكانَ لكمْ سِوى النَّار، ولا ناصِرَ لكمْ يُخَلِّصُكمْ مِنَ العَذابِ الأليم.

﴿ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذۡتُمۡ ءَايَٰتِ اللَّهِ هُزُوٗا وَغَرَّتۡكُمُ الۡحَيَوٰةُ الدُّنۡيَاۚ فَالۡيَوۡمَ لَا يُخۡرَجُونَ مِنۡهَا وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ﴾ [الجاثية:35]


ذلكمُ العَذابُ الذي جُزيتُمْ به، هوَ بسبَبِ اتِّخاذِكمْ دَلائلَ اللهِ ومُعجِزاتِهِ سُخريَةً ولَعِبًا، وخدَعَتْكمُ الحيَاةُ الدُّنيا بزَخارفِها وشَهواتِها حتَّى استَسلَمتُمْ لها، وقُلتمْ لا حيَاةَ سِواها. فاليَومَ لا يَخرُجونَ مِنَ النَّار، ولا يُطلَبُ منهمْ أنْ يُزيلوا عَتبَ اللهِ عَليهم، فلا عُذرَ ولا تَوبةَ تُقبَلُ منهمْ بعدَ اليَوم، ولا يُرجَعونَ إلى الدُّنيا ليَعمَلوا صالِحاً كما يَدَّعون.

﴿فَلِلَّهِ الۡحَمۡدُ رَبِّ السَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ الۡأَرۡضِ رَبِّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [الجاثية:36]


فالحَمدُ للهِ وحدَه، مالِكِ السَّماواتِ والأرضِ وما بينَهما، رَبِّ العالَمينَ كُلِّهم.

﴿وَلَهُ الۡكِبۡرِيَآءُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۖ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [الجاثية:37]


ولهُ كَمالُ العَظمَةِ والمُلكِ في السَّماواتِ والأرْض، وهوَ العَزيزُ الذي لا يُغلَب، الحَكيمُ فيما يَقولُ ويَفعَل، ويَقضي ويُقَدِّر.