تفسير سورة الجاثية

  1. سور القرآن الكريم
  2. الجاثية
45

﴿حمٓ﴾ [الجاثية:1]


حُروفٌ مُقطَّعَةٌ... اللهُ أعلمُ بمُرادِها.

﴿تَنزِيلُ الۡكِتَٰبِ مِنَ اللَّهِ الۡعَزِيزِ الۡحَكِيمِ﴾ [الجاثية:2]


تَنزيلُ القُرآنِ على الرَّسُولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هوَ بلا رَيبٍ مِنَ اللهِ القَويِّ القادرِ الذي لا يُرَدُّ أمرُه، الحَكيمِ في أقوالِهِ وأفعالِه.

﴿إِنَّ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الجاثية:3]


إنَّ في خَلقِ السَّماواتِ العَظيمَةِ وما فيها مِنْ مَلائكةٍ وأفلاكٍ وأجرامٍ هائلَة، والأرْضِ الواسِعَةِ وما فيها مِنْ مَخلوقاتٍ كثيرَةٍ مُتنَوِّعَة، مِنْ أحياء، ونَباتات، وجَمادات، والتفَكُّرِ فيها، لعَلاماتٍ ودَلائلَ على قُدرَةِ اللهِ وعظمَتِه، لمَنْ كانَ مؤمِنًا، مُسَلِّمًا بأنَّهُ لا بُدَّ لها مِنْ خالِق.

﴿وَفِي خَلۡقِكُمۡ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٞ لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ﴾ [الجاثية:4]


وفي خَلقِكمْ وتَكوينِكمُ العُضويِّ والنفسيِّ، الدَّقيقِ، والمُتوازِنِ، والمُتَناسِق، وما لهُ مِنْ خَصائص، وما يَقومُ بهِ مِنْ وَظائف، وما يَخلقُهُ اللهُ ويَنشرُهُ مِنْ مَخلوقاتٍ على الأرْض، مِنْ أنعَام، وسِباعٍ، وطُيور، وأسمَاك، وحشَرات... آياتٌ وأدِلَّةٌ على عَظمَةِ اللهِ وقُدرَتِهِ كذلك، لمَنْ عرَفَ الأشياءَ على حَقيقَتِها، وأيقنَ أنْ لا بُدَّ لها مِنْ خالِق.

﴿وَاخۡتِلَٰفِ الَّيۡلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزۡقٖ فَأَحۡيَا بِهِ الۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَتَصۡرِيفِ الرِّيَٰحِ ءَايَٰتٞ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ﴾ [الجاثية:5]


وفي تَفاوتِ اللَّيلِ والنَّهارِ طُولاً وقَصْرًا، وتَعاقُبِهما المُتَتالي، هذا بظَلامِهِ وهذا بضِيائه، وفيما أنزلَ اللهُ مِنَ السَّحابِ مِنْ مطَر، فسقَى بهِ أرْضًا يابسَةً قاحِلةً لا حَياةَ فيها، فأخرجَ منها أصنافَ الزَّرعِ والنَّبات، والزَّهرِ والثَّمَر، وفي تَصريفِ الرِّياح، للمطَرِ أو للِّقاح، للرَّحمَةِ أو للعَذاب، دافِئةً وبارِدَة، شَرقًا وغَربًا... كُلُّ ذلكَ آياتٌ وأدلَّةٌ على قُدرَةِ اللهِ العَظيمَة، وأنَّهُ الخالِقُ والمُتصَرِّفُ في هذا الكَون، لمَنْ تفكَّرَ في ذلك، وكانَ مِنَ العُقلاءِ الأسْوياء.

﴿تِلۡكَ ءَايَٰتُ اللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِالۡحَقِّۖ فَبِأَيِّ حَدِيثِۭ بَعۡدَ اللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ يُؤۡمِنُونَ﴾ [الجاثية:6]


تلكَ هيَ آياتُ اللهِ المُحكَمَة، بما فيها مِنْ حُجَجٍ وبَيِّنات، نَتلوها عَليكَ مِنَ القُرآن، مُتضَمِّنةً الحقَّ والصِّدق، الذي يَجبُ أنْ يُتَّبَع، فبأيِّ حَديثٍ بعدَ هذهِ الآياتِ المَتلوَّةِ بالحقِّ، والحُجَجِ والبَراهينِ التي فيها، يُصَدِّقونَ ويُسَلِّمون؟

﴿وَيۡلٞ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٖ﴾ [الجاثية:7]


الهَلاكُ والعَذابُ لمَنْ كانَ كذَّابًا في قَولِه، آثِمًا عاصيًا لرَبِّه.

﴿يَسۡمَعُ ءَايَٰتِ اللَّهِ تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسۡتَكۡبِرٗا كَأَن لَّمۡ يَسۡمَعۡهَاۖ فَبَشِّرۡهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٖ﴾ [الجاثية:8]


يَسمَعُ آياتِ القُرآنِ تُقرَأُ عَليه، ثمَّ يُصِرُّ على الكُفرِ بها، عِنادًا واستِكبارًا، ويَتوَلَّى وكأنَّهُ لم يَسمَعْها، فأَعلِمْهُ بعُقوبَةٍ شَديدَةٍ تَنالُهُ يَومَ القِيامَة.

﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنۡ ءَايَٰتِنَا شَيۡـًٔا اتَّخَذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾ [الجاثية:9]


وإذا بلَغَهُ شَيءٌ مِنْ آياتِ كتابِنا، استَهزَأَ بها وجعلَها محلَّ سُخريَةٍ وتهَكُّم، فأولئكَ المتَّصِفونَ بتلكَ الصِّفات، أُعِدَّ لهمْ عَذابُ شَديدٌ يُذِلُّهمْ ويُهينُهم، جَزاءَ استِكبارِهمْ واستِهزائهمْ بآياتِنا.

﴿مِّن وَرَآئِهِمۡ جَهَنَّمُۖ وَلَا يُغۡنِي عَنۡهُم مَّا كَسَبُواْ شَيۡـٔٗا وَلَا مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوۡلِيَآءَۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الجاثية:10]


ومِنْ أمامِهمْ جهنَّمُ تَنتَظِرُهمْ ليَكونوا مِنْ أهلِها الخالدِينَ فيها، ولا يَدفَعُ عنهمُ العَذابَ ما حصَّلوهُ في الدُّنيا مِنْ مالٍ وجَاه، ولا يَنفَعُهمْ ما اتَّخَذوهُ مِنْ آلهَةٍ وعبَدوها، ولهمْ في جهنَّمَ عَذابٌ فَظيعٌ دَائم، لا يَنقَطِعُ عنهم.

﴿هَٰذَا هُدٗىۖ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ عَذَابٞ مِّن رِّجۡزٍ أَلِيمٌ﴾ [الجاثية:11]


هذا القُرآنُ هِدايَةٌ للنَّاسِ مِنَ الضَّلال، والذينَ كفَروا بآياتِهِ الواضِحَةِ المُحكَمَة، لهمْ أشَدُّ العَذابِ وآلمُه.

﴿۞اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الۡبَحۡرَ لِتَجۡرِيَ الۡفُلۡكُ فِيهِ بِأَمۡرِهِۦ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [الجاثية:12]


اللهُ القادِرُ العَليم، الذي ذلَّلَ لكمُ البَحرَ وجعلَ فيهِ مَوازينَ لتَطفوَ عَليهِ السُّفُنُ بالرَّغمِ مِنْ ثِقْلِها، فتَجري فيهِ بإذنِهِ ومَشيئتِه، لتَطلبوا رِزقَكمْ مِنْ فَضلِه، بالتِّجارَةِ والصَّيدِ وغَيرِه، ولتَشكروهُ على ما يَسَّرَهُ لكمْ وأنعَمَ بهِ عَليكم.

﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية:13]


وخلقَ اللهُ لمَنافعِكمْ ما في السَّماواتِ والأرْضِ مِنْ مَوجُوداتٍ فيما يَخصُّكم، وجَميعُها مِنْ فَضلِهِ ونِعمَتِهِ عَليكم، وفي ذلكَ كُلِّهِ آياتٌ وأدِلَّةٌ على قُدرَتِهِ وعظمَتِه، لمَنْ يَتفَكَّرُ في خَلقِهِ وبَديعِ صُنعِه.

﴿قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغۡفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجۡزِيَ قَوۡمَۢا بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾ [الجاثية:14]


قُلْ أيُّها الرسُولُ لمَنِ اتَّبعَكَ مِنَ المؤمِنين، يَعفوا ويَتحمَّلوا الأذَى مِنَ الكافِرينَ الذينَ لا يَتوَقَّعونَ نِقمةَ اللهِ وعَذابَه؛ ليَجزيَ المؤمِنينَ خَيرًا على عَفوِهمْ وصَفحِهمْ يَومَ الدِّين.

وجُمهورُ المفَسِّرينَ على أنَّها مَنسوخَةٌ بآياتٍ في القِتال. وقالَ بَعضُهم: لا نَسخَ، لأنَّ المُرادَ هُنا تَركُ النَّزاعِ في المُحَقَّرات، والتَّجاوزُ عنْ بَعضِ ما يؤذي ويوحِش.

﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ تُرۡجَعُونَ﴾ [الجاثية:15]


مَنْ عَمِلَ عمَلاً صالحًا فإنَّ نَفعَ ذلكَ يَعودُ على نَفسِه، ومَنْ أساءَ العملَ فإنَّ وَبالَ عمَلِهِ يَعودُ على نَفسِهِ كذلك، ثمَّ مَرجِعُكمْ إلى رَبِّكمْ بعدَ المَوت، ليُجازِيَكمْ على أعمالِكم، إنْ خَيرًا أو شَرًّا.

﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ الۡكِتَٰبَ وَالۡحُكۡمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَى الۡعَٰلَمِينَ﴾ [الجاثية:16]


وقدْ أنعَمنا على بَني إسرَائيلَ فآتَيناهُمْ التَّوراةَ العَظيمةَ الشَّأن، والقَضاءَ والفَصلَ بينَ النَّاس، والنبوَّة، فقدْ كَثُرَ فيهمُ الأنبِياء، وحكَموا بالتَّوراة، ورَزقناهمُ المآكِلَ والمَشارِبَ الطيِّبَة، وفضَّلناهُمْ على النَّاسِ في زَمانِهم، فكانوا أحسنَ المَوجودينَ آنَذاك.

﴿وَءَاتَيۡنَٰهُم بَيِّنَٰتٖ مِّنَ الۡأَمۡرِۖ فَمَا اخۡتَلَفُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ الۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ الۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ﴾ [الجاثية:17]


وآتَيناهُمْ مُعجِزاتٍ ظاهِرات، وأدلَّةً قاطِعاتٍ في أمرِ الدِّين، فما اختلَفوا بعدَ ذلكَ إلاّ بعدَ قيامِ الحُجَّةِ عَليهم، ووضوحِ الطَّريقِ أمامَهم، بإرسَالِ الرسُلِ إليهم، وإنزَالِ الكتُبِ عَليهم، فترَكوا الدَّليل، ولازَموا الخِلافَ والجِدال، حَسدًا وتَباغُضًا، وعِنادًا واستِكبارًا، واللهُ يَقضي بينَهمْ يَومَ القِيامَةِ بالعَدل، فيما كانوا يَختَلِفونَ فيهِ مِنْ أمرِ الدِّين، ويُمَيِّزُ بينَ المُحِقِّ والمُبطِلِ منهم.

﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ الۡأَمۡرِ فَاتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ الَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الجاثية:18]


ثمَّ جعَلناكَ أيُّها النبيُّ على طَريقةٍ ثابِتَةٍ وبَيِّنةٍ مِنَ الدِّينِ بعدَ أنبِياءِ بَني إسرَائيل، فالتَزِمْها، وأعرِضْ عنِ المشرِكين، وابتَعِدْ عنْ آرائهمُ الضالَّةِ وأهوائهمُ الزَّائغَة، فإنَّهمْ جاهِلون.

﴿إِنَّهُمۡ لَن يُغۡنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيۡـٔٗاۚ وَإِنَّ الظَّـٰلِمِينَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الۡمُتَّقِينَ﴾ [الجاثية:19]


إنَّهمْ لنْ يَدفَعوا عنكَ مِنْ عَذابِ اللهِ شَيئًا إنِ اتَّبَعْتَ أهواءَهم، والكافِرونَ بَعضُهمْ أنصَارُ بَعض، لا يَتعاوَنونَ إلاّ معَ مَنْ كانَ مثلَهم، واللهُ تَعالَى مُعينُ عِبادِهِ المؤمِنينَ المُلتَزِمينَ طاعَتَه، وأنتَ قُدوتُهم.

﴿هَٰذَا بَصَـٰٓئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ﴾ [الجاثية:20]


هذا القُرآنُ مَعالِمُ للنَّاسِ ودَلائلُ لهمْ في الحقّ، يُبَيِّنُ لهمُ الأمُورَ على حَقيقَتِها، ويَهديهمْ إلى ما فيهِ فَوزُهمْ وفَلاحُهم، ورَحمَةٌ عَظيمَةٌ لهم، لمَنْ صدَّقَ به، وتيَقَّنَ أنَّهُ مِنْ عندِ اللهِ العَليمِ الحَكيم.