﴿۞وَاذۡكُرۡ أَخَا عَادٍ إِذۡ أَنذَرَ قَوۡمَهُۥ بِالۡأَحۡقَافِ وَقَدۡ خَلَتِ النُّذُرُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦٓ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا اللَّهَ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ﴾ [الأحقاف :21]
واذكُرْ لقَومِكَ نَبيَّ اللهِ هُودًا، أخا عادٍ في النَّسَب، عندَما أنذَرَ قَومَهُ بالأحقَاف - وهيَ جِبالٌ رَمليَّةٌ بينَ عُمانَ والرُّبعِ الخالي واليَمن، واكتُشِفَتْ آثارٌ لهمْ في عُمَان - فخَوِّفْهمْ مِنْ عِقابِ اللهِ وانتِقامِه، إنْ همْ تَمادَوا في كُفرِهمْ وتَكذيبِهم. وقدْ مضَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبلِ هُودٍ ومِنْ بَعدِه، فأنذَرَهمْ بما أنذَروا همْ بهِ أقوامَهم، وهوَ ألاّ تَعبُدوا إلاّ اللهَ ولا تُشرِكوا بهِ شَيئًا، إنِّي أخافُ عَليكمْ عَذابًا شَديدًا في يَومٍ مَهُول.
﴿قَالُوٓاْ أَجِئۡتَنَا لِتَأۡفِكَنَا عَنۡ ءَالِهَتِنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـٰدِقِينَ﴾ [الأحقاف :22]
فأجابَهُ قَومُهُ قائلين: أجِئتَنا لتَصرِفَنا عنْ عِبادَةِ آلهَتِنا؟ فَأتِنا بما تَعِدنا مِنَ العَذابِ إنْ كنتَ صادِقًا في وَعيدِك.
﴿قَالَ إِنَّمَا الۡعِلۡمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّآ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦ وَلَٰكِنِّيٓ أَرَىٰكُمۡ قَوۡمٗا تَجۡهَلُونَ﴾ [الأحقاف :23]
فقالَ لهمْ هودٌ عَليهِ السَّلام: إنَّ علمَ ذلكَ عندَ الله، فإنْ كنتُمْ مُستَحقِّينَ ذلكَ نزلَ بكمْ عَذابُه، في الوقتِ الذي يُريدُه، وما أنا إلاّ مُبَلِّغٌ ما يُوحي بهِ إليَّ رَبِّي، ولكنِّي أراكمْ قَومًا لا تَعقِلون.
﴿فَلَمَّا رَأَوۡهُ عَارِضٗا مُّسۡتَقۡبِلَ أَوۡدِيَتِهِمۡ قَالُواْ هَٰذَا عَارِضٞ مُّمۡطِرُنَاۚ بَلۡ هُوَ مَا اسۡتَعۡجَلۡتُم بِهِۦۖ رِيحٞ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [الأحقاف :24]
فلمَّا رَأوا سَحابًا يَبدو مِنْ ناحيَةِ السَّماءِ مُقابِلَةً لأوديَتِهم، وفيها بَساتينُ لهمْ وزُروع، استَبشَروا وفَرِحوا، وقالوا: هذا سَحابٌ يُمطِرُ زُروعَنا وأشجارَنا. بلْ هوَ ما استَعجَلتُمْ بهِ مِنَ العَذاب، هذهِ عاصِفَةٌ شَديدَةٌ تَحمِلُ لكمْ عَذابًا مُؤلِمًا فَظيعًا،
﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيۡءِۭ بِأَمۡرِ رَبِّهَا فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي الۡقَوۡمَ الۡمُجۡرِمِينَ﴾ [الأحقاف :25]
تُخَرِّبُ كُلَّ شَيءٍ ممَّا أُمِرَتْ بتَدميرِهِ بإذنِ رَبِّها. فأُهلِكوا جَميعًا، ولم يَبقَ منهمْ أحَد، وأصبَحوا لا يُرَى شَيءٌ منهمْ إلاّ مساكنُهم. وبمثلِ هذا العِقابِ الشَّديدِ نَجزي القَومَ الكافِرينَ المُكذِّبينَ لرسُلِنا، المُخالِفينَ لأمرِنا.
﴿وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰهُمۡ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّـٰكُمۡ فِيهِ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ سَمۡعٗا وَأَبۡصَٰرٗا وَأَفۡـِٔدَةٗ فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُمۡ سَمۡعُهُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُهُمۡ وَلَآ أَفۡـِٔدَتُهُم مِّن شَيۡءٍ إِذۡ كَانُواْ يَجۡحَدُونَ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [الأحقاف :26]
وقدْ أعطَيناهُمْ مِنَ القوَّةِ والمالِ والأولادِ وسبُلِ العَيشِ وطُولِ العمُر، ما لم نُعطِكمْ مِثلَه، وجعَلنا لهمُ السَّمعَ والأبصَارَ والأفئدَةَ مثلَما جعَلناها لكم، فلمْ يَستَعمِلوها لِما خُلِقَتْ له، بلْ قَصَّروا مَنفَعَتَها على الأمورِ الدُّنيويَّة، وتَقليدِ الآباء، فلمْ يَستَعمِلوا سَمعَهمْ لسَماعِ الحقِّ مِنَ الرسُل، ولا أبصارَهمْ للتفَكُّرِ في آياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على قُدرَتِهِ وعَظمَتِه، ولا أفئدَتَهمْ في مَعرِفَةِ رَبِّهمْ وصِفاتِهِ الجَليلَة، فلمْ تَنفَعْهُمْ شَيئًا عندَ رَبِّهم، وأحاطَ بهمْ ما كانوا يَسخَرونَ منهُ مِنَ العَذابِ الذي كانوا يَستَعجِلونَه. فكونوا على حذَرٍ أنتُمْ مِنْ ذلك.
﴿وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَا مَا حَوۡلَكُم مِّنَ الۡقُرَىٰ وَصَرَّفۡنَا الۡأٓيَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ [الأحقاف :27]
ولقدْ أهلَكنا ما حَولَكمْ مِنَ القُرَى والمُدُنِ يا أهلَ مكَّة، كمَدائنِ صالح، وحِجْرِ ثَمود، والأحقاف، وسَبأ، وكرَّرنا الحُجَج، وبيَّنَّا الآيات، ونَوَّعنا المُعجِزات، لعلَّهمْ يَرجِعونَ عنِ الكُفرِ إلى الإيمَان.
﴿فَلَوۡلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرۡبَانًا ءَالِهَةَۢۖ بَلۡ ضَلُّواْ عَنۡهُمۡۚ وَذَٰلِكَ إِفۡكُهُمۡ وَمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾ [الأحقاف :28]
فهلاَّ مَنعَهمْ مِنَ العَذابِ الأوثانُ التي اتَّخَذوها آلهَةً يتقَرَّبونَ بها إلى اللهِ وهمْ في أشَدِّ الحاجَةِ إلى النُّصرَةِ والنَّجاة؟ بلْ غابُوا عَنهم، وذلكَ كَذِبُهمُ الذي كانوا يَقولونَ إنَّهمْ يُقَرِّبُونَهمْ إلى الله، ويَدفَعُونَ عنهمُ السُّوء، فليَعتَبِرْ مُشرِكو قَومِك.
﴿وَإِذۡ صَرَفۡنَآ إِلَيۡكَ نَفَرٗا مِّنَ الۡجِنِّ يَسۡتَمِعُونَ الۡقُرۡءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوۡاْ إِلَىٰ قَوۡمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ [الأحقاف :29]
وإذْ وَجَّهنا لكَ عَددًا مِنَ الجِنِّ - وكانوا تِسعَةً - يَستَمِعونَ إلى القُرآن، فلمَّا حضَروهُ عندَ تِلاوَتِكَ له، قالَ بَعضُهمْ لبَعض: اسكتُوا لنَسمعَه. فلمَّا فُرِغَ مِنَ التِّلاوَةِ انصرَفوا إلى قَومِهمْ في البِلاد، ودعَوهمْ وأنذَروهمْ ممَّا سَمِعوهُ مِنَ القُرآن.
﴿قَالُواْ يَٰقَوۡمَنَآ إِنَّا سَمِعۡنَا كِتَٰبًا أُنزِلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ يَهۡدِيٓ إِلَى الۡحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [الأحقاف :30]
قالوا لهم: يا قَومَنا، إنَّنا سَمِعنا كتابًا جَليلَ القَدْرِ أُنزِلَ مِنْ بَعدِ موسَى، الذي أُوتيَ التَّوراةَ –وكانتْ عُمدَةَ عيسَى أيضًا عليهِ السَّلامُ- مُصَدِّقًا لِما أُنزِلَ مِنَ الكتُبِ الإلهيَّةِ السَّابقَة، يَهدي إلى الحقِّ في الاعتِقاد، وإلى نَهجٍ صادِقٍ مُستَقيمٍ في الدِّينِ كلِّه.
﴿يَٰقَوۡمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِۦ يَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُجِرۡكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ﴾ [الأحقاف :31]
يا قَومَنا أَجيبُوا داعيَ اللهِ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم - فهوَ مَبعوثٌ إلى الثَّقَلَين -، وآمِنوا بنبوَّتِهِ ورسَالَتِه، يَغفِرِ اللهُ ما تَقدَّمَ مِنْ ذُنوبِكم، ويُنَجِّكمْ مِنْ عَذابٍ شَديد.
﴿وَمَن لَّا يُجِبۡ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيۡسَ بِمُعۡجِزٖ فِي الۡأَرۡضِ وَلَيۡسَ لَهُۥ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءُۚ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ﴾ [الأحقاف :32]
ومَنْ لم يَستَجِبْ لدَعوَةِ الرسُول، ولم يَلتَزِمْ بالدِّينِ الحقّ، فلنْ يَقدِرَ على الهرَبِ مِنَ الله، ولو تحصَّنَ في أيَّةِ بُقعَةٍ مِنَ الأرض، وليسَ لهُ أنصَارٌ يَمنَعونَهُ مِنَ الله، فأولئكَ الذينَ أبَوا اتِّباعَ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم في ضَلالٍ بَيِّن، وبُعدٍ عنِ الحقِّ ظاهِر.
﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ وَلَمۡ يَعۡيَ بِخَلۡقِهِنَّ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ الۡمَوۡتَىٰۚ بَلَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [الأحقاف :33]
ألمْ يَعلَمِ المُنكِرونَ للبَعثِ أنَّ اللهَ الذي خلقَ السَّماواتِ العَظيمَة، والأرْضَ ومَنْ فيها، ولم يَتعَبْ مِنْ خَلقِهنَّ، ولا عَجَزَ عنْ إبداعِهنَّ، قادِرٌ على إحياءِ المَوتَى مِنْ قُبورِهم؟ بلَى هوَ قادِرٌ على ذلك، وقادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ يُريدُه.
﴿وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيۡسَ هَٰذَا بِالۡحَقِّۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَاۚ قَالَ فَذُوقُواْ الۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ﴾ [الأحقاف :34]
ويُقالُ للكافِرينَ وهمْ يُعَذَّبونَ في النَّار: أليسَ هذا العَذابُ الذي تَذوقُونَهُ حقًّا، وليسَ كذِبًا وسِحرًا وخُرافَة؟ قالوا في ذُلٍّ مُعتَرِفين: بلَى ورَبِّنا إنَّهُ الحقّ. فيُقالُ لهم: فَذوقُوا العَذابَ الذي كنتُمْ تَجحَدونَه، بسبَبِ كُفرِكم.
﴿فَاصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الۡعَزۡمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا الۡقَوۡمُ الۡفَٰسِقُونَ﴾ [الأحقاف :35]
فاصبِرْ أيُّها الرسُولُ على ما يُصيبُكَ مِنْ جِهَةِ قَومِك، كما صبرَ أُولو العَزمِ مِنَ الرسُلِ على إيذاءِ قَومِهمْ وسُخريَتِهمْ منهم، ولا تَستَعجِلْ حُلولَ العُقوبَةِ بهم، ولا تَدْعُ عَليهمْ بذلك، فكأنَّهمْ يَومَ يَرونَ ما يُوعَدونَ مِنَ العَذابِ في الآخِرَة، لم يَلبَثوا في الدُّنيا إلاّ ساعَةً يَسيرَةً مِنَ النَّهار؛ لشدَّةِ ما يَنزِلُ بهم. وهذا القُرآنُ بَلاغٌ مِنَ اللهِ إليكم، ولا يُهلَكُ إلاّ الخارِجونَ عنْ طاعَتِه، ولا يُعَذَّبُ إلاَّ مَنِ استَحقَّ العَذاب.