تفسير سورة الفتح

  1. سور القرآن الكريم
  2. الفتح
48

﴿وَأُخۡرَىٰ لَمۡ تَقۡدِرُواْ عَلَيۡهَا قَدۡ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَاۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا﴾ [الفتح:21]


وغَنيمَةً أُخرَى كبيرَة، لم تَقدِروا عَليها - لعلَّها فَتحُ مكَّة - قدْ حَفِظَها اللهُ لكم، ومنعَها مِنْ غَيرِكمْ حتَّى يَفتحَها لكم، ولا يَصعُبُ على اللهِ شَيء، فهوَ القادِرُ على ما يَشاء.

﴿وَلَوۡ قَٰتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الۡأَدۡبَٰرَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا﴾ [الفتح:22]


ولو قاتلَكمْ كُفَّارُ أهلِ مكَّةَ ولم يُصالِحوكم، لانتصَرتُمْ عَليهم، وانهزَموا شرَّ هَزيمَة، ثمَّ لا يَجِدونَ مِنْ يَلي الحَربَ عنهم، ولا مَنْ يَساعِدُهم.

﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبۡدِيلٗا﴾ [الفتح:23]


وهذهِ سُنَّةُ اللهِ في الأُمَمِ السَّابقَةِ كذلك، بأنْ يَنصُرَ أنبياءَهُ وعِبادَهُ المؤمِنين، ويَرفعَ الحقَّ ويَضَعَ الباطِل، ولنْ تَجِدَ لهذهِ السنَّةِ تَغييرًا. وقدْ يَتأخَّرُ النَّصرُ لأسبَاب...

﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الفتح:24]


وهوَ الذي مَنعَ مُشرِكي مكَّةَ مِنْ حَربِكم، فلمْ يَنَلْكمْ منهمْ سُوء، ومَنعَكمْ مِنْ حَربِهمْ عندَ المَسجدِ الحَرام، مِنْ بعدِ أنْ أظفرَكمْ على بَعضِ المشرِكينَ الذينَ أرادوا إيذاءَكم، وكانَ اللهُ بَصيرًا بجَميعِ ما تَعمَلون، ومنهُ عَفوكُمْ عمَّنْ ظَفِرتُمْ بهمْ مِنَ الأعدَاء.

وقدْ روَى أنسٌ رَضيَ اللهُ عنه "أنَّ ثَمانينَ رَجُلاً مِنْ أهلِ مكَّةَ هبَطوا على رَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم مِنْ جبَلِ التَنعيمِ مُتسَلِّحين، يُريدونَ غِرَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، فأخذَهمْ سِلمًا، فاستَحياهُم، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ الآيَة". رواهُ مُسلم. ومعنَى استَحياهم: عَفا عنهم.

﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ الۡمَسۡجِدِ الۡحَرَامِ وَالۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ اللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح:25]


همُ الذينَ كفَروا باللهِ ورَسُولِه، ومنَعوكمْ مِنَ الوصولِ إلى المَسجدِ الحَرامِ لتَعتَمِروا، كما منَعوا الهَديَ مِنْ بُلوغِ المَكانِ الذي يُنحَرُ فيه - وهوَ مِنىً - وهوَ مَحبوسٌ لِما أُهديَ له، وهوَ البَيتُ الحَرام، الذي يُوَزَّعُ على فُقَرائه. وما فعَلوهُ أمرٌ كبيرٌ في عَقيدَتِهمْ وفي عَقيدَةِ المؤمِنين.

ولولا رِجالٌ مؤمِنونَ مُستَضعَفون، ونِساءٌ مؤمِناتٌ بينَ أظهُرِ المشرِكينَ لا تَعرِفونَهم، لاختِلاطِهمْ بهم، فتَقتُلونَهمْ عندَ حَربِكمْ معَ الكفَّارِ دونَ عِلمٍ منكمْ بإيمانِهم، فيَنالُكمْ منهمْ مَكروهٌ ومَشقَّة، وألَمٌ وحَسرَةٌ كبيرَة، وسُبَّةٌ، عندَما يُعيِّرُكمُ المشرِكونَ بقَتلِ المسلِمين، لولا ذلكَ لأَذِنَ لكمْ بفَتحِ مكَّة. ليُدْخِلَ اللهُ بهذا الصُّلحِ مَنْ يَشاءُ في رَحمَتِه، فيُسلِموا، أو يُظهِرَ الضُّعَفاءُ إيمانَهم. ولو تميَّزَ الكافِرونَ مِنَ المؤمِنينَ الذينَ بينَهم، لأمَرناكَ بقِتالِهم، فقتَلتَ منهمْ وأسَرْتَ بجَيشِكَ المؤمِن.

﴿إِذۡ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الۡحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الۡجَٰهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى الۡمُؤۡمِنِينَ وَأَلۡزَمَهُمۡ كَلِمَةَ التَّقۡوَىٰ وَكَانُوٓاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهۡلَهَاۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا﴾ [الفتح:26]


إذْ جعلَ الكافِرونَ في قُلوبِهمُ الأنفَةَ والعَصبيَّةَ النَّاشِئةَ مِنَ الجاهليَّةِ المَمقوتَة، تَكبُّرًا وتَعنُّتًا، أثناءَ عَقدِ الصُّلح، فاستَكبَروا عنْ قَولِ "لا إلهَ إلاّ الله"، ورفَضوا كتابَةَ "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ" في أوَّلِ الوَثيقَة، ولم يَقبَلوا كتابةَ "رَسُولِ اللهِ" بعدَ اسمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وحالُوا بينَهُ وبينَ بيتِ اللهِ الحرَام، خَوفًا مِنْ أنْ يُعيِّرَهمُ العرَبُ ويَقولوا: إنَّهمْ قتَلوا أبناءَكمْ ثمَّ دخَلوا عَليكمْ مكَّةَ واعتمَروا رَغمًا عنكم!

فأنزلَ اللهُ الطُّمأنينةَ والرِّضا على رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمِنينَ الحاضِرينَ معَه، وألزمَهمْ كلمةَ التَّقوَى، وهي "لا إلهَ إلاَّ الله"، فاستَكبَرَ عَنها المشرِكونَ يَومَ الحُديبيَة، وكانَ المُسلِمونَ أحقَّ بها منهمْ في عِلمِ اللهِ تَعالَى، ولذلكَ فازُوا بها، فكانوا أهلَها، واللهُ عَليمٌ بكُلِّ شَيء، فيَعلَمُ مَنْ يَستَحِقُّ الهِدايَة، ومَنْ هوَ أهلٌ للكُفرِ والضَّلال.

﴿لَّقَدۡ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءۡيَا بِالۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ الۡمَسۡجِدَ الۡحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا﴾ [الفتح:27]


لقدْ صدقَ اللهُ رَسُولَهُ فيما أراهُ في مَنامِهِ مِنَ الرُّؤيا الصَّالحَة، مِنْ أنَّكمْ ستَدخُلونَ المسجِدَ الحَرامَ إنْ شَاءَ الله، آمِنينَ مِنَ العَدوِّ عندَ دُخولِكم، منكمْ مَنْ يَحلِقُ رأسَه، ومنكمْ مَنْ يُقَصِّر، لا تَخافُونَ وأنتُمْ مُقيمُونَ في مكَّةَ تُؤدُّونَ مَناسِكَ العُمرَة، فعَلِمَ اللهُ أنَّ مِنَ الخَيرِ والمَصلحَةِ لكمْ أنْ تَنصَرِفوا عنْ مكَّةَ وتَعقِدوا صُلحًا، وهوَ ما لم تَعلَموهُ أنتُم، فجعَلَ مِنْ قَبلِ دُخولِكمُ المَسجِدَ الحرامَ فَتحًا قَريبًا، وهوَ صُلحُ الحُدَيبيَة.

وقدِ اعتمَرَ المسلِمونَ في العامِ التَّالي. وفي ذلكَ سياسَةٌ وصَبر، وفائدَةٌ وأَجر.

﴿هُوَ الَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِالۡهُدَىٰ وَدِينِ الۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِۦۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدٗا﴾ [الفتح:28]


هوَ الذي أرسَلَ رَسُولَهُ بالعِلمِ النَّافِع، ودِينِ الإسْلامِ الحقّ، الذي هوَ نِظامٌ للإنسانيَّةِ كُلِّها، ليُعلِيَهُ على المِلَلِ والأدْيانِ جَميعِها، ويَكونَ ناسِخًا لها وحاكِمًا عَليها، وكفَى باللهِ شَهيدًا أنَّكَ رَسولُه.

﴿مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اللَّهِۚ وَالَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى الۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ اللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ السُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي التَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي الۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَاسۡتَغۡلَظَ فَاسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الۡكُفَّارَۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا﴾ [الفتح:29]


محمَّدٌ رَسُولُ اللهِ حقًّا، والذينَ معَهُ مِنْ صَحابَتِهِ رِضوانُ اللهِ عَليهم، أشِدَّاءُ عَنيفُونَ على الكُفَّارِ أعداءِ الدِّين، رُحَماءُ مُتوادُّونَ معَ إخوانِهمُ المؤمِنين، تَراهمْ راكِعينَ ساجِدينَ لكثرَةِ صَلاتِهمْ ومُداوَمَتِهمْ عَليها، يَطلُبونَ الثَّوابَ والرِّضا مِنَ الله، عَلامَةُ الخُشوعِ والتَّواضُعِ ظاهِرَةٌ على وجوهِهمْ مِنْ أثَرِ السُّجود، فالشَّيءُ الكامِنُ في النَّفسِ يَظهَرُ أثَرُهُ على صَفَحاتِ الوَجه. كانَ ذلكَ وَصفَهمْ في التَّوراة.

وصِفَتُهمْ في الإنجيل: كزَرعٍ تفَرَّعَ منهُ ورَقُهُ على جانِبَيه، فشَدَّهُ بذلكَ وقَوَّاه، فغَلَظَ وطَال، فتَمَّ واستَقامَ على أُصولِه، يُعجِبُ الزَّارِعينَ بوَصفِهِ المَذكورِ وجَمالِ مَنظَرِه.

وهذا مَثَلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، فقدْ قامَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بالدَّعوَةِ وَحدَه، ثمَّ قَوَّاهُ أصحابُه، فآزَروهُ ونصَروه.

ليَغيظَ اللهُ بهمُ الكافِرين، بجِهادِهمْ وشِدَّتِهمْ عَليهم، وإخلاصِهمْ لهذا الدِّين.

وعدَ اللهُ الذينَ أخلَصوا منهمْ في إيمانِهم، وعَمِلوا حسَنًا، أنْ يَغفِرَ لهمْ ذُنوبَهم، ويُؤتيَهمْ ثَوابًا كبيرًا ورِزقًا كريمًا، واللهُ لا يُخلِفُ الميعاد.

قالَ ابنُ كثيرٍ رَحِمَهُ الله: وكُلُّ مَنِ اقتَفَى أثرَ الصَّحابَةِ فهوَ في حُكمِهم، ولهمُ الفَضلُ والسَّبْقُ والكمالُ الذي لا يَلحَقُهمْ فيهِ أحَدٌ مِنْ هذهِ الأمَّة.

روَى عمرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قولَه: "لقدْ أُنزِلَتْ عليَّ اللَّيلةَ سُورَةٌ لهيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلعَتْ عليهِ الشَّمس. ثمَّ قرَأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}". رواهُ البخاريُّ وغَيرُه.