﴿اقۡتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الۡقَمَرُ﴾ [القمر :1]
دَنا يَومُ القِيامَةِ وانشقَّ القمَرُ فِلقتَين. فانشِقاقُ القمَرِ مِنْ عَلاماتِ السَّاعَة.
في صَحيحِ البخاريِّ وغَيرِه، أنَّ أهلَ مكَّةَ سألوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ أنْ يُرِيَهمْ آيَة، فأراهمُ القمرَ شِقَّتَين، حتَّى رأَوا حِرَاءَ بينَهما.
وعندَما رأى المشرِكونَ ذلكَ قالوا: سحَرَنا محمَّد! فقالَ بَعضُهم: لئنْ كانَ سحرَنا ما يَستَطيعُ أنْ يَسحرَ النَّاسَ كُلَّهم. وقدْ روَى هذا الترمِذيُّ بإسنادٍ صَحيح.
وذكرَ ابنُ كثيرٍ أنَّ أحاديثَ انشِقاقِ القمَرِ مُتواتِرَةٌ بأسانيدَ صَحيحَة.
وقدْ كُشِفَ عنْ مَخطوطاتٍ وكتاباتٍ تاريخيَّةٍ قَديمَةٍ تؤرِّخُ لهذهِ المُعجِزَةِ في غَيرِ بِلادِ المسلِمين.
والذينَ صعَدوا إلى القمَرِ رأوا آثارَ هذا الانشِقاقَ فيه، وقالوا إنَّهُ انشَقَّ منذُ زمَنٍ قَديمٍ إلى قِسمَينِ مُنفَصِلَينِ ثمَّ التَحَما، بدَليلِ وجودِ شُقوقٍ صَخريَّةٍ مُتعَرِّجَةٍ وطَويلَةٍ تُمَزِّقُ القمرَ مِنْ سَطحِهِ إلى جَوفِه. وقدْ وُضِعَتْ أجهِزَةٌ خاصَّةٌ بالرَّصدِ الزِّلزاليِّ للتَّاكُّدِ مِنْ ذلك...
﴿وَإِن يَرَوۡاْ ءَايَةٗ يُعۡرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحۡرٞ مُّسۡتَمِرّٞ﴾ [القمر :2]
وإنْ يرَوا مُعجِزَةً ودَليلاً مِنْ عندِ رَبِّهمْ لا يأبَهونَ به، ولا يَعتَبِرونَهُ حُجَّةً وبُرهانًا على صِدقِ نَبيِّه، بلْ يَقولون: هذا سِحرٌ سحَرَنا بهِ محمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم)، وأنَّهُ زائلٌ سيَضمَحِلُّ معَ الزَّمَن!
﴿وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُوٓاْ أَهۡوَآءَهُمۡۚ وَكُلُّ أَمۡرٖ مُّسۡتَقِرّٞ﴾ [القمر :3]
وكذَّبوا النبيَّ عليهِ الصّلاَةُ والسَّلامُ وما أيَّدَهُ اللهُ بهِ مِنَ المُعجِزات، واتَّبَعوا أهواءَهمُ الباطِلَة، وأفكارَهمُ المُنحَرِفَة. وكُلُّ أمرٍ مِنَ الأُمورِ يَنتَهي إلى غايَةٍ يَستَقِرُّ عَليها، وعندَئذٍ يَتبيَّنُ لكُلٍّ عاقِبَتُه، إنْ خَيرًا فخَير، وإنْ شَرًّا فشَرّ.
﴿وَلَقَدۡ جَآءَهُم مِّنَ الۡأَنۢبَآءِ مَا فِيهِ مُزۡدَجَرٌ﴾ [القمر :4]
ولقدْ جاءَهمْ في القُرآنِ مِنْ أخبَارِ القُرونِ الماضيَة، وقَصَصِ الأُمَمِ المُكذِّبَةِ لرسُلِها وما حَلَّ بهمْ مِنَ العَذاب، ما فيهِ زَجرٌ لهمْ مِنَ التَّمادي في الكُفرِ والتَّكذِيب.
﴿حِكۡمَةُۢ بَٰلِغَةٞۖ فَمَا تُغۡنِ النُّذُرُ﴾ [القمر :5]
وأمرُ اللهِ مُحكَمٌ لا خلَلَ فيه، ولا يَضِلُّ عنْ هُداهُ إلاّ جاحِدٌ مُتعَنِّت، فأيُّ شَيءٍ تُغني الآياتُ والنُّذُرُ الواضِحَةُ عنْ شَقيٍّ عَنيد، وجاهِلٍ يَتَّبِعُ هوَاه؟
﴿فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡۘ يَوۡمَ يَدۡعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيۡءٖ نُّكُرٍ﴾ [القمر :6]
فأعرِضْ عَنهمْ ولا تُبالِ بهمْ مادامُوا كذلك. يَومَ يُنادِي المُنادِي ويَدعو إلى شَيءٍ مُنكَرٍ فَظيعٍ ومَهولٍ لا مَثيلَ له، هوَ يَومُ الجَزاءِ والحِساب، الشَّديدِ على الكافِرين.
﴿خُشَّعًا أَبۡصَٰرُهُمۡ يَخۡرُجُونَ مِنَ الۡأَجۡدَاثِ كَأَنَّهُمۡ جَرَادٞ مُّنتَشِرٞ﴾ [القمر :7]
ذَليلةً أبصارُهمْ مِنَ الخَوفِ والهَول، يَخرجُونَ مِنَ القُبورِ كأنَّهمْ جَرادٌ في كثرَتِهمْ وتمَوُّجِهم، وانتِشارِهمْ وسُرعَتِهم، وحَيرَتِهمْ وفزَعِهم.
﴿مُّهۡطِعِينَ إِلَى الدَّاعِۖ يَقُولُ الۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَسِرٞ﴾ [القمر :8]
مُسرِعينَ إلى مُنادِيهم، مُقبِلينَ عَليه، وقدْ شخَصَتْ أبصارُهمْ إلى السَّماء، يَقولُ الكافِرون: هذا يَومٌ صَعبٌ شَديد.
﴿۞كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ فَكَذَّبُواْ عَبۡدَنَا وَقَالُواْ مَجۡنُونٞ وَازۡدُجِرَ﴾ [القمر :9]
كذَّبَ قَبلَ قَومِكَ أيُّها الرسُولُ، قَومُ نوح، أرسَلناهُ إليهمْ ليُطيعوهُ ويَهتَدوا به، فكذَّبوا عَبدَنا نُوحًا وقالوا: هوَ مَجنون، وزجَروهُ وهدَّدوهُ إنْ لم يَنتهِ عنْ دَعوَتِهمْ إلى التَّوحيد، وقالوا: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}! [سورة الشعراء: 116].
﴿فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَغۡلُوبٞ فَانتَصِرۡ﴾ [القمر :10]
فلم يَستَجيبوا لدَعوَتِه، وقدْ بقيَ بينَهمْ ألفًا إلاّ خَمسينَ عامًا. ولمَّا يَئِسَ مِنْ إيمانِهمْ دعَا رَبَّهُ قائلاً: اللهمَّ إنِّي ضَعيفٌ مَقهور، لا أقوَى على مُقاوَمَتِهمْ والانتِقامِ منهم، فانتَقِمْ لدِينِك.
﴿فَفَتَحۡنَآ أَبۡوَٰبَ السَّمَآءِ بِمَآءٖ مُّنۡهَمِرٖ﴾ [القمر :11]
فأمَرنا السَّماءَ بأنْ يَتدَفَّقَ منها المطَرُ ويَنصَبَّ انصِبابًا شَديدًا.
﴿وَفَجَّرۡنَا الۡأَرۡضَ عُيُونٗا فَالۡتَقَى الۡمَآءُ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ قَدۡ قُدِرَ﴾ [القمر :12]
وفجَّرنا يَنابيعَ الأرْضِ كُلَّها، فالتقَى ماءُ السَّماءِ وماءُ الأرْض، على أمرٍ قدَّرَهُ الله.
﴿وَحَمَلۡنَٰهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلۡوَٰحٖ وَدُسُرٖ﴾ [القمر :13]
وحمَلنا نُوحًا على سَفينَةٍ كبيرَةٍ ذاتِ أخشابٍ عَريضَةٍ ومَساميرَ تُشَدُّ بها.
﴿تَجۡرِي بِأَعۡيُنِنَا جَزَآءٗ لِّمَن كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر :14]
تَجري بمَرأىً منَّا وبحِفظِنا وتَيسيرِنا، جَزاءً لنبيِّنا نُوحٍ عَليهِ السَّلام، الذي كفرَ بهِ قَومُه، وجحَدوا رسالةَ رَبِّهم.
﴿وَلَقَد تَّرَكۡنَٰهَآ ءَايَةٗ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ﴾ [القمر :15]
ولقدْ أبقَينا آثارَ السَّفينةِ عَلامَةً ودَليلاً على ما ذُكِر، فهلْ مِنْ مُتذَكِّرٍ ومُعتَبِر؟
ذكرَ المفسِّرونَ أنَّ أوائلَ هذهِ الأمَّةِ رأوا أخشابَها على جبلِ الجُوديّ.
وقدِ التُقِطَتْ صُورَةٌ لمَوقِعِ مَهبِطِ السَّفينَةِ على الجبَلِ بولايةِ شِرْناق في تُركيَّا منَ الفضَاء، وبدا فيها بقايا السَّفينَةِ المُتحَجِّرَةِ واضِحةً. واللهُ أعلَم.
﴿فَكَيۡفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر :16]
فكيفَ كانَ إنذَاري لهم، وعَذابيَ الذي أحاطَ بهمْ فأهلكَهمْ جَميعًا؟
﴿وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا الۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ﴾ [القمر :17]
ولقدْ سهَّلنا القُرآنَ تِلاوةً، وحِفظًا، وتَفسيرًا، ليَتذكَّرَ الناسُ بهِ ويَعتَبِروا، فهلْ مِنْ مُتذَكِّرٍ به، ومُتَّعِظٍ بمَواعظِه، ومُعتَبِرٍ مِنْ أخبارِهِ ونذُرِه؟
﴿كَذَّبَتۡ عَادٞ فَكَيۡفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر :18]
كذَّبَتْ قَبيلَةُ عادٍ نبيَّها هُودًا، وأصرَّتْ على الكُفرِ والتَّكذيب، فانظُرْ كيفَ كانَ إنذَاري لهم، وعَذابيَ الشَّديدُ الذي أصابَهم.
﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِي يَوۡمِ نَحۡسٖ مُّسۡتَمِرّٖ﴾ [القمر :19]
لقدْ أرسَلنا عَليهمْ عاصِفَةً قَويَّةً شَديدَةَ الهُبوب، في يَومٍ نَكِدٍ مَشؤوم، استمرَّتْ حتَّى أُهلِكوا جَميعًا.
﴿تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٖ مُّنقَعِرٖ﴾ [القمر :20]
تَقْلَعُ النَّاسَ وتَرفَعُهمْ إلى أعلَى، ثمَّ تَرمي بهمْ على رُؤوسِهم، فإذا همْ صَرعَى كأنَّهمْ بَقايا شَجرَةِ نَخلٍ مُنقَلِعَةٍ عنْ مَغارسِها، ساقِطَةٍ على الأرْض.