تفسير سورة الحديد

  1. سور القرآن الكريم
  2. الحديد
57

﴿سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ السَّمَآءِ وَالۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ اللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَاللَّهُ ذُو الۡفَضۡلِ الۡعَظِيمِ﴾ [الحديد:21]


تَنافَسوا في عمَلِ الخَيرات، وسارِعوا إلى ما يُقرِّبُكمْ إلى اللهِ ويَغفِرُ بهِ ذُنوبَكم، وإلى جنَّةٍ عَظيمَةٍ واسِعَة، عَرضُها كعَرضِ السَّماواتِ السَّبعِ والأرْض، هُيِّئتْ للمؤمِنينَ باللهِ ورسُلِه، وهذا فَضلٌ مِنَ اللهِ وعَطاءٌ منه، يُعطيهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ المؤمِنين، واللهُ فَضلُهُ عَظيم، وخَيرُهُ عَميم.

﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي الۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٞ﴾ [الحديد:22]


ما حدَثَ في الأرْضِ مِنْ مُصيبَة، كقَحط، وطُوفان، وزِلزال، وغَيرِه، وفي أنفُسِكم: كهَمٍّ، ومرَضٍ، وفَقدِ أولاد، وغَيرِه، إلاّ وهيَ مَكتوبَةٌ في اللَّوحِ المحفوظِ قَبلَ أنْ نَخلُقَ الخَلق. وهذا سَهلٌ يَسيرٌ على الله، فعِلمُهُ مُحيطٌ بكلِّ شَيء، ما كان وما يَكون.

﴿لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ﴾ [الحديد:23]


أعلَمناكمْ بذلكَ حتَّى لا تَحزَنوا وتأسَفوا على شَيءٍ فاتَكمْ مِنْ نَعيمِ الدُّنيا، فإنَّهُ لو قُدِّرَ لكمْ أمرٌ لكان، وحتَّى لا تَفرَحوا وتَبطَروا بما أعطَيناكمْ منها، فإنَّما هوَ ممَّا قدَّرَهُ اللهُ لكمْ مِنْ رِزق، فاشكُروهُ على ذلك، ولا تَفخَروا ولا تأشَروا، فإنَّ اللهَ يبَغَضُ المُتَكبِّرَ في نَفسِه، المُفتَخِرَ على غَيرِهِ بمالِهِ وجاهِه.

ذُكِرَ عنِ ابنِ عباسٍ رَضيَ اللهُ عَنهما قَولُه: ليسَ مِنْ أحدٍ إلاّ وهوَ يَحزَنُ ويَفرَح، ولكنَّ المؤمِنَ يَجعَلُ مُصيبتَهُ صَبرًا، وغَنيمتَهُ شُكرًا.

﴿الَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ النَّاسَ بِالۡبُخۡلِۗ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الۡغَنِيُّ الۡحَمِيدُ﴾ [الحديد:24]


المُختالونَ بالمالِ يبَخَلونَ بالنفقَةِ في سَبيلِ الله، حتَّى يَتجمَّعَ عندَهمُ المالُ أكثَر، فيَزدَادونَ بطَرًا وطُغيانًا، ويَحُضُّونَ النَّاسَ على البُخلِ كذلك، ويَصرِفونَهمْ عنْ فعلِ الخَير، ومَنْ يُعرِضْ عنِ الإنفَاق، فإنَّ اللهَ غَنيٌّ عنْ نفقَتِه، ولا يَضرُّهُ الإعراضُ عنْ شُكرِه، وهوَ مَحمودٌ في ذاتِه، غَنيٌّ عنْ حَمدِ النَّاس.

﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِالۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ الۡكِتَٰبَ وَالۡمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا الۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِالۡغَيۡبِۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ﴾ [الحديد:25]


لقدْ أرسَلنا رسُلَنا بالحُجَجِ والمُعجِزات، والأدلَّةِ القاطِعات، وأنزَلنا الكتُبَ موحًى بها مِنْ عندِ الله، والعَدلَ، ليَحكُمَ النَّاسُ بالحقِّ والعَدل.

وأنزَلنا الحَديدَ مِنَ السَّماء، فيهِ قوَّةٌ شَديدَة، تُصنَعُ منهُ آلاتُ الحَربِ القويَّة، وفيهِ مَنافِعُ أُخرَى للنَّاسِ في مَعايشِهمْ ومَصالحِهم، فيَدخُلُ في صِناعَةِ أشياءَ كثيرَة. وليَعلَمَ اللهُ مَنْ يَنصُرُ دينَهُ ورَسُولَه، ويُجاهِدُ أعداءَه، باستِعمالِ آلاتِ الحَربِ وغَيرِها، فهمْ يَمتَثِلونَ أمرَهُ ولو لم يَرَوهُ تَعالَى، وهوَ القويُّ الذي لا يُغالَب، يَنصرُ مَنْ نَصَرَه.

هذا، وقدْ ثبتَ لدَى العُلَماءِ في هذا العَصرِ أيضًا، أنَّ الحديدَ أُنزِلَ إلى الأرْضِ مِنَ السَّماءِ إنزالاً كما وردَ في النصِّ القُرآنيّ، وليسَ هوَ مِنْ مُكوَّناتِ الأرضِ الأصليَّة.

﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحٗا وَإِبۡرَٰهِيمَ وَجَعَلۡنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالۡكِتَٰبَۖ فَمِنۡهُم مُّهۡتَدٖۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ﴾ [الحديد:26]


ولقدْ أرسَلنا نُوحًا وإبراهيمَ إلى قَومِهما، وجعَلنا في نَسلِهما النبوَّة، وأنزَلنا عَليهمُ الكتُب، فمِنْ هذهِ الذرِّيَّةِ مَنْ هوَ مُهتَدٍ سالِكٌ طَريقَ الحقّ، وكثيرٌ منهمْ خارِجونَ عنِ الطَّريقِ المستَقيم.

﴿ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ابۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ الۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ابۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ابۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ اللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ﴾ [الحديد:27]


ثمَّ أرسَلنا بَعدَهمْ رَسُولاً بعدَ رَسُول، وأتْبَعناهمْ بعيسَى عَليهِ السَّلام، وأنزَلنا عَليهِ الإنجيلَ - وليسَ هوَ الذي بينَ يدَي النَّصارَى اليَوم، فقدْ بدَّلوهُ وحرَّفوهُ - وجعَلنا في قُلوبِ الذينَ اتَّبَعوهُ مِنَ الحَواريِّينَ رِقَّةً وخَشيَة، ورَحمَةً بالخَلق، ورَهبانيَّةً اخترَعوها مِنْ عندِ أنفُسِهم، وهيَ المُبالغَةُ في العِبادَةِ والانقِطاعُ عنِ النَّاسِ والزُّهدُ في الدُّنيا، ما فرَضناها عَليهم، ولكنَّهمْ أَلزَموا بها أنفُسَهمْ يَبتَغونَ بذلكَ رِضوانَ الله، فما حافَظوا عَليها، ولا قاموا بحقِّها، بلْ ضيَّعُوها، وضَلُّوا وأشرَكوا، ومنهمْ مَنْ أقامَ على الدِّينِ الحقّ، حتَّى جاءَ الإسلامُ فآمَنوا به، فآتَينا الذينَ آمَنوا منهمْ إيمانًا صَحيحًا وثبَتوا عَليهِ ثَوابَ إيمانِهم، وكثيرٌ منهمْ خارِجونَ عنِ الدِّينِ الحقّ، ممَّنْ ضَلُّوا سابِقًا وأشرَكوا، ومَنْ لم يؤمِنْ بنبوَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِۦ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [الحديد:28]


أيُّها المؤمِنون، اخشَوا اللهَ ولا تُخالِفوا أمرَه، واثبتُوا على الإيمَانِ بالرَّسُولِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الذي أرسَلَهُ اللهُ إليكم، يؤتِكمْ أجرَينِ مِنْ عندِه: لإيمانِكمْ بالرسُلِ المتقَدِّمين، وبخاتَمِهمْ محمدٍ صلى الله عليهمْ أجمَعين، ويَزِدْكمْ نُورًا يَسعَى بينَ أيديكمْ تَمشُونَ بهِ يَومَ القيامَة، ويَغفِرْ لكم، واللهُ غَفورٌ لذُنوبِ عِبادِهِ التَّائبين، رَحيمٌ بالمؤمِنين.

﴿لِّئَلَّا يَعۡلَمَ أَهۡلُ الۡكِتَٰبِ أَلَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّن فَضۡلِ اللَّهِ وَأَنَّ الۡفَضۡلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَاللَّهُ ذُو الۡفَضۡلِ الۡعَظِيمِ﴾ [الحديد:29]


لكي يَعلمَ أهلُ الكِتابِ الذينَ لم يؤمِنوا أنَّهمْ لا يَقدِرونَ على رَدِّ ما منحَهُ اللهُ عِبادَهُ المؤمِنين، وأنَّهُ لا أجرَ لهمْ ولا نَصيبَ في فَضلِ اللهِ ورَحمَتِهِ ما لم يُؤمِنوا برَسُولِهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الرَّحمَةَ والخَيرَ كُلَّهُ بيدِهِ سُبحانَه، يؤتيهِ مَنْ يَشاءُ، واللهُ ذو الفَضلِ الكبير، والخَيرِ العَميم، والرَّحمَةِ الواسِعة.