تفسير سورة الحديد

  1. سور القرآن الكريم
  2. الحديد
57

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۖ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [الحديد:1]


نزَّهَ اللهَ وقدَّسَهُ كُلُّ المخلوقاتِ في السَّماواتِ والأرْض، وهوَ الغالِبُ الذي لا يُغلَب، الحكيمُ فيما يَشرَعُ ويُقدِّر.

فالمَخلُوقاتُ كلُّها مُسَبِّحةٌ مُقَدِّسَةٌ لذاتِهِ سُبحانَهُ وتَعالَى، قَولاً وفِعلاً، طَوْعًا وكَرْهًا، بلسانِ الحال، أو بلسانِ المَقال {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء: 44].

﴿لَهُۥ مُلۡكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۖ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ [الحديد:2]


لهُ كُلُّ ما في السَّماواتِ والأرْضِ مِنْ مَوجودات، خَلقًا، ومُلكًا، وتَدبيرًا، فيُحيي ويُميتُ بقُدرَتِهِ مَنْ شَاء، وهوَ القادِرُ على كُلِّ شَيء.

﴿هُوَ الۡأَوَّلُ وَالۡأٓخِرُ وَالظَّـٰهِرُ وَالۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد:3]


هوَ الأوَّلُ بلا ابتِداء، فليسَ قَبلَهُ شَيء، والآخِرُ بعدَ فَناءِ كُلِّ شَيء، فليسَ بعدَهُ شَيء، فلا انتِهاءَ له، ولا انقِضاءَ لوجودِه. وهوَ الظَّاهِرُ في وجودِهِ بالدَّلائلِ القَطعيَّة، فليسَ فوقَ ظُهورِهِ شَيء، لدلالَةِ الآياتِ الباهِرَةِ عليه. وهوَ الباطِنُ فليسَ دونَهُ شَيء، فلا أحدَ يُدرِكُ كُنهَهُ سُبحانَه، لا عَقلاً ولا حِسًّا. وقدْ أحاطَ عِلمُهُ بكُلِّ شَيء، فلا يَخفَى عَليهِ صَغيرٌ ولا كَبير، ولا ظاهِرٌ ولا باطِن.

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ اسۡتَوَىٰ عَلَى الۡعَرۡشِۖ يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ فِي الۡأَرۡضِ وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعۡرُجُ فِيهَاۖ وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ﴾ [الحديد:4]


هوَ اللهُ الذي خلقَ السَّماواتِ والأرْض، وما بينَهما، في ستَّةِ أيَّام، ثمَّ استوَى على العَرش، بالمَعنَى الذي أرادَهُ سُبحانَه. يَعلَمُ ما يَدخلُ في باطنِ الأرْض، مِنْ قَطْرِ الماء، وبُذورِ النَّباتِ والشجَر، والرِّمالِ والصُّخور، والموتَى مِنْ أصنافِ الحيَوان... وما يَخرُجُ منها، مِنَ النَّباتِ والمَعادنِ وغَيرِها: عَدَدِها، وكيفيَّتِها، ووَقتِها، وأينَ تَصير. ويَعلَمُ ما يَنزِلُ مِنَ السَّماء، منْ مَلائكة، وأرزَاق، وأمطَار، وأضوَاء... ونَحوِها. وما يَصعَدُ فيها مِنَ المَلائكة، والأروَاح، والأعمَالِ الصَّالحة... واللهُ عالِمٌ بكمْ أينَما كنتُم، بَصيرٌ بما تَعمَلونَ مِنْ خَيرٍ وشَرّ، في السرِّ والعَلَن.

﴿لَّهُۥ مُلۡكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرۡجَعُ الۡأُمُورُ﴾ [الحديد:5]


للهِ وحدَهُ مُلكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بينَهما، وإليهِ وحدَهُ تُرجَعُ الأمُورُ يَومَ القِيامَة، فيَقضي بالحقِّ والعَدل، ويَجزي كُلاًّ بما يَستَحِقّ.

﴿يُولِجُ الَّيۡلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيۡلِۚ وَهُوَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الحديد:6]


يُدخِلُ اللَّيلَ في النَّهار، ويُدخِلُ النَّهارَ في اللَّيل، ويأخذُ مِنْ طُولِ هذا فيَزيدُ على قِصَرِ هذا، كُلٌّ بمقدارٍ ومِيزان. وهوَ عالِمٌ بما تُخفي الصُّدورُ مِنْ سَرائر، وإنْ دقَّت.

﴿ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِيرٞ﴾ [الحديد:7]


آمِنوا باللهِ ورَسُولِه، واثبُتوا على إيمانِكمْ وداوِموا عَليه، وأنفِقوا مِنَ المَالِ الذي ملَّكَكُمْ إيَّاهُ واستَخلفَكمْ فيه، فقدْ كانَ لغَيرِكمْ ووَقعَ في أيدِيكم، وسيَخرجُ مِنْ مُلكِكمْ إلى غَيرِكم، فالذينَ آمَنوا وأخلَصوا في إيمانِهم، وأنفَقوا أموالَهمْ في طاعَةِ ربِّهم، لهمْ ثَوابٌ عَظيم.

﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُؤۡمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ لِتُؤۡمِنُواْ بِرَبِّكُمۡ وَقَدۡ أَخَذَ مِيثَٰقَكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [الحديد:8]


وما الذي يَمنَعُكمْ مِنَ الإيمَانِ باللهِ والرسُولُ يَدعوكمْ إلى ذلك، وقدْ أيَّدَهُ اللهُ بالحُجَجِ والمُعجِزات، ولا يَدعُوكمْ إلاّ إلى عِلمٍ ظاهرٍ نَفعُه، وحقٍّ باهرٍ أمرُه، وقدْ بايَعتُموهُ وأعطَيتُموهُ الميثاقَ على ذلك، إنْ كنتُمْ مؤمِنينَ به.

﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦٓ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لِّيُخۡرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِۚ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾ [الحديد:9]


هوَ اللهُ الرَّحيمُ بِكم، الذي يُنزِّلُ على عَبدِهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم القُرآنَ العَظيم، المُعجِزَ في بَيانِهِ وأحكامِه، ليُخرِجَكمْ مِنْ ظلُماتِ الجَهلِ والشِّركِ إلى نورِ الهُدَى والإيمَان. واللهُ كثيرُ الرَّحمَةِ بالنَّاس، وقدْ وَسِعَتْ رَحمَتُهُ كُلَّ شَيء، ولذلكَ أرسلَ الرسُل، وأنزلَ الكتُب، لهدايَتِكم، ولِما فيهِ خيرُكمْ ومَصلحَتُكم، في الحيَاةِ الدُّنيا وفي الآخِرَة.

﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ الۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ اللَّهُ الۡحُسۡنَىٰۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ [الحديد:10]


وما الذي يَصرِفُكمْ عنِ الإنفَاقِ فيما يُقرِّبُكمْ إلى الله، وأنتُمْ ميِّتونَ تارِكونَ أموالَكم، واللهُ يَرِثُ كُلَّ شَيءٍ ممَّا في السَّماواتِ والأرْض، فلا يَبقَى لأحدٍ مالٌ فيهما، فأنفِقوا ولا تَخشَوا فَقرًا، فإنَّ الذي أنفَقتُمْ في سَبيلِهِ هوَ مالِكُ الكونِ كُلِّه، وعندَهُ خَزائنُ السَّماواتِ والأرْض.

لا يَستوي عندَ اللهِ درجَةً مَنْ أنفقَ قَبلَ فَتحِ مكَّةَ وقاتلَ في سَبيلِ اللهِ معَ رسُولِه، فأولئكَ أعلَى درجَةً وأعظَمُ ثَوابًا مِنَ الذينَ أنفَقوا بَعدَ الفَتحِ وجاهَدوا في سَبيلِ الله، وكُلُّ واحدٍ مِنَ الفَريقَينِ وعدَهمُ اللهُ المَثوبةَ الحُسنَى، وهيَ الجنَّة. فالحالُ قَبلَ الفَتحِ كانَ شَديدًا، وبعدَ الفَتحِ ظهرَ الإسلامُ وقَوِيَ. واللهُ مُطَّلعٌ على أعمالِكم، خَبيرٌ بما تُظهِرونَ وما تُسِرُّون، ويُجازي كُلاًّ بما عَمِل.

﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقۡرِضُ اللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥ وَلَهُۥٓ أَجۡرٞ كَرِيمٞ﴾ [الحديد:11]


الذي يُنفِقُ مِنْ مالِهِ في سَبيلِ الله، مِنْ جِهادٍ وغيرِهِ مِنْ أعمَالِ البِرّ، بإخْلاصٍ وطِيبِ نَفس، فاللهُ يَقبَلُ منه، ويُضاعِفُ لهُ الأجرَ والثَّوابَ أضعافًا كثيرَة، ولهُ عندَ اللهِ جَزاءٌ كريمٌ مَرْضيّ.

﴿يَوۡمَ تَرَى الۡمُؤۡمِنِينَ وَالۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ الۡيَوۡمَ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِيمُ﴾ [الحديد:12]


في يَومِ القِيامَةِ بينَما يَكونُ الكافِرونَ في رُعبٍ وخَوف، ترَى المؤمِنينَ يَمشي نورُهمْ بينَ أيديهمْ وعنْ أيمانِهمْ إذا مشَوا، ويَكونُ ذلكَ بحسَبِ أعمَالِهم، ويَقولُ لهمُ المَلائكة: لكمُ البُشرَى جنَّاتٌ وقُصورٌ عاليَاتٌ تَجري مِنْ تَحتِها الأنهَار، ماكثينَ فيها أبدًا، وذلكَ هوَ الفَوزُ والفَلاح، والسَّعادَةُ الكبرَى.

﴿يَوۡمَ يَقُولُ الۡمُنَٰفِقُونَ وَالۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ارۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَالۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ الرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ الۡعَذَابُ﴾ [الحديد:13]


في ذلكَ اليَومِ العَصيب، يَقولُ المُنافِقونَ والمُنافِقاتُ للمؤمِنين: انتَظِرونا نَستَضِئْ مِنْ نورِكمْ لنَلحقَ بكم. فيُقالُ لهم: ارجِعوا مِنْ حيثُ جئتُم، مِنَ المكانِ الذي قُسِمَ فيهِ النُّور، فاطلبوهُ لأنفُسِكمْ مِنْ هُناك. فلمْ يَجِدوا شَيئًا، فضُرِبَ بينَ الفَريقَينِ بحاجِزٍ لهُ باب، باطنُهُ الذي يَلي جانِبَ المؤمِنينَ فيهِ الجنَّةُ والنَّعيم، وظاهِرُهُ مِنَ الخارجِ في جهَةِ المُنافِقينَ العَذابُ والنَّار.

﴿يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَارۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ الۡأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الۡغَرُورُ﴾ [الحديد:14]


يُنادي المُنافِقونَ المؤمِنينَ مِنْ وراءِ السُّور: أمَا كنَّا معَكمْ في الدُّنيا، نُصلِّي معَكمْ ونَصوم، ونَحضرُ الجمُعَة، ونُشارِكُ في القِتال...؟ فقالَ لهمُ المؤمِنون: بلَى، كنتُمْ معَنا، ولكنَّكمْ أهلَكتُمْ أنفَسَكمْ بالنِّفاق، والمَعاصي والشَّهوات، وصرَفتُموها عنِ الهُدَى، ولم تَعزِموا على الحقِّ ولم تَثبُتوا عَليه، وشَكَكتُمْ في النبوَّةِ والبَعث، وغرَّكمْ طولُ الأمَلِ وحبُّ الدُّنيا، ومازِلتُمْ على ذلكَ حتَّى جاءَكمُ الموت، وقدْ غرَّكمُ الشَّيطانُ وخدعَكمْ عندَما زيَّنَ لكمْ مَوقِفَكمْ هذا في نُفوسِكم، حتَّى قُذِفَ بكمْ في النَّار.

﴿فَالۡيَوۡمَ لَا يُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡيَةٞ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْۚ مَأۡوَىٰكُمُ النَّارُۖ هِيَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَبِئۡسَ الۡمَصِيرُ﴾ [الحديد:15]


ففي يَومِ الجزاءِ هذا، لا يُقبَلُ منكمْ بَذْلٌ وعِوَضٌ لتُنقِذوا بهِ أنفُسَكمْ مِنَ النَّار، وقدْ آمَنتُمْ ظاهِرًا وكفَرتُمْ باطِنًا، ولا مِنَ الذينَ كفَروا ظاهِرًا وباطِنًا، ومَصيرُكمْ جَميعًا الجَحيم، فهوَ سنَدُكمْ وأولَى بكمْ مِنْ كُلِّ مَكان، وبئسَ هذا المَرجِعُ والمآب، الذي ليسَ فيهِ سِوَى العَذابِ والهَوان.

﴿۞أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ الۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ﴾ [الحديد:16]


ألمْ يَحِنْ للمؤمِنينَ أنْ تَلينَ وتَرِقَّ قُلوبُهمْ لذكرِ اللهِ ومَواعِظِه، وعندَ سَماعِ القُرآنِ والإنصاتِ له، فيُطيعوا ربَّهم، ولا يَكونوا كاليَهودِ والنَّصارَى، الذينَ طالَ الزَّمانُ بينَهمْ وبينَ أنبِيائهم، فبدَّلوا كتُبَهم، واشترَوا بآياتِها ثَمنًا قَليلاً، ومالُوا إلى الدُّنيا، واتَّبَعوا أهواءَهم، وأعرَضوا عنِ المَوعِظَة، فقسَتْ قُلوبُهمْ فلمْ تَقبَلِ التَّذكير، ولم تَلِنْ بوَعدٍ ووَعيد، وكثيرٌ منهمْ خارِجونَ عنْ حُدودِ دينِهم، بَعيدونَ عنْ طاعَةِ ربِّهم، فقُلوبُهمْ فاسِدَة، وأعمالُهمْ باطِلَة.

﴿اعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّهَ يُحۡيِ الۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ الۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ [الحديد:17]


اعلَموا أيُّها النَّاس، أنَّ اللهَ قادِرٌ على إحياءِ الأرْضِ بالمطَر، بعدَ أنْ كانتْ يابِسةً هامِدَة، وكذلكَ هوَ قادِرٌ على أنْ يَهديَ القُلوبَ بَعدَ مَوتِها، ويُليِّنَها بعدَ قَسوَتِها، ويَبعثَ فيها الإيمَانَ والخُشوع. قدْ أوضَحنا لكمُ الآيَات، لتَعلَموا الحقَّ وتَعقِلوه، وتَرجِعوا عنِ الباطِلِ وتَجتَنِبوه، وتَتوبوا إلى ربِّكم، فهوَ خَيرٌ لكم.

﴿إِنَّ الۡمُصَّدِّقِينَ وَالۡمُصَّدِّقَٰتِ وَأَقۡرَضُواْ اللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا يُضَٰعَفُ لَهُمۡ وَلَهُمۡ أَجۡرٞ كَرِيمٞ﴾ [الحديد:18]


إنَّ المتصَدِّقينَ والمُتصَدِّقاتِ بأموالِهمْ على الفُقَراءِ وأهلِ الحاجَة، بإخْلاصٍ وطِيبِ نَفس، يُضاعَفُ لهمُ الأجرُ والثَّوابُ أضعافًا كثيرَة، ولهمْ عندَ ربِّهمْ جَزاءٌ حسَنٌ وثَوابٌ مَرضيّ.

﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَۖ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ الۡجَحِيمِ﴾ [الحديد:19]


والذينَ آمَنوا بالله، وجَميعِ رسُلِه، وثبَتوا على إيمانِهم، فأولئكَ همُ الصدِّيقونَ والشُّهداءُ مِنْ عِبادِ اللهِ الأخيار، الذينَ أكرَمَهمُ الله، لهمْ ثَوابٌ عَظيمٌ بما عَمِلوا مِنَ العمَلِ الصَّالح، ونورُهمْ يَسعَى بينَ أيديهمْ يَومَ القِيامَة، والذينَ كفَروا بآياتِنا وما أيَّدْنا بهِ رسُلَنا مِنَ الآيَاتِ والمُعجِزات، همْ مِنْ أهلِ جهنَّم، يُعَذَّبونَ فيها بأنوَاعِ العَذاب.

﴿اعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا الۡحَيَوٰةُ الدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي الۡأَمۡوَٰلِ وَالۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ الۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمٗاۖ وَفِي الۡأٓخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ اللَّهِ وَرِضۡوَٰنٞۚ وَمَا الۡحَيَوٰةُ الدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ الۡغُرُورِ﴾ [الحديد:20]


اعلَموا أيُّها النَّاس، أنَّ حاصِلَ أمرِ هذهِ الدُّنيا عندَ أهلِها المَفتونينَ بها، أنَّها لَعِبٌ باطِلٌ لا يُرتَجَى منهُ ثمرَةُ حقٍّ وجِدّ، ولَهوٌ وفرَحٌ يَشغَلُ المَرءَ عنِ المهمِّ والأصلَح، وزِينَةٌ ومَظهَرٌ لا يَدومان، وافتِخارٌ بأنسَابٍ ومَناصِبَ لا تَبقَى، ومُباهاةٌ بكثرَةِ أموَالٍ وأولاد، وكلُّ ذلكَ وَشيكُ الزَّوال، كمثَلِ مطَرٍ أعجبَ المُزارِعينَ لِما يَحصُلُ بهِ مِنَ الإنبَاتِ والنمُوّ، كما يُعجِبُ الكفَّارَ المَفتونينَ بزَهرَةِ الحياةِ الدُّنيا، ثمَّ يَتحرَّكُ ويَتَماوَجُ هذا الزَّرعُ حتَّى يَكبَرَ ويَشتَدّ، ثمَّ يَجِفّ، فتَراهُ مُصفَرًّا بعدَ اخضِرارٍ ونَضارَة، ثمَّ يَكونُ هَشيمًا يابِساً تَذرُوهُ الرِّياح، كما يَكونُ الإنسَانُ غَضًّا نَضِرًا في أوَّلِ عُمُرِه، ثمَّ يَكتَهِلُ ويَشِيخُ ويَضعُفُ حتَّى يَموت.

ويَنتَهي أمرُ النَّاسِ في اليَومِ الآخِرِ إلى نَتيجَتين: إمَّا عَذابٌ مُؤلِمٌ شَديد، لمَنْ غفَلَ عنْ أمرِ ربِّه، فالتهَى بالدُّنيا وكفَر، وإمَّا مَغفِرَةٌ ورَحمَةٌ مِنَ اللهِ ورِضوان، لمَنْ آمنَ باللهِ وأطاعَه. وما الحياةُ الدُّنيا إلاّ مُتعَةٌ وغُرور، لمَنْ ركنَ إليها واغتَرَّ بها.