﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۖ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [الصف:1]
نزَّهَ اللهَ ووَحَّدَهُ كُلُّ المخلوقاتِ في السَّماواتِ والأرْض، وهوَ الغالِبُ الذي لا يُغلَب، الحكيمُ فيما يَشرَعُ ويُقدِّر.
فالمَخلوقاتُ كلُّها مُسَبِّحةٌ مُقَدِّسَةٌ لذاتِهِ سُبحانَهُ وتَعالَى، قَولاً وفِعلاً، طَوْعًا وكَرْهًا، بلسَانِ الحَال، أو بلسانِ المَقال {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء: 44].
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾ [الصف:2]
أيُّها المؤمِنون، لماذا تَقولونَ قَولاً، وتَعِدُونَ وَعدًا، ثمَّ لا تَفُونَ بهِ ولا تَلتَزِمون؟
كانَ ناسٌ مِنَ المؤمِنينَ قَبلَ أنْ يُفرَضَ الجِهادُ يَقولون: لوَدِدْنا أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ دَلَّنا على أحَبِّ الأعمَالِ إليهِ فنَعمَلَ به، فأخبرَ اللهُ نبيَّهُ أنَّ أحبَّ الأعمال: إيمانٌ بهِ لا شَكَّ فيه، وجِهادُ أهلِ مَعصيَتِهِ الذينَ خالَفوا الإيمَانَ ولم يُقِرُّوا به. فلمَّا نزلَ الجِهادُ كَرِهَ ذلكَ ناسٌ مِنَ المؤمِنينَ وشَقَّ عَليهمْ أمرُه. فنزَلَتِ الآيات. قالَهُ ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهما. (والجوابُ في الآيةِ العاشِرة، فما بعدها).
﴿كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾ [الصف:3]
إنَّ اللهَ يَبغُضُ بُغضًا شَديدًا أنْ تَعِدوا بشَيءٍ مِنْ عندِ أنفُسِكمْ ثمَّ لا تَفُونَ به.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ﴾ [الصف:4]
إنَّ اللهَ يُحِبُّ الذينَ يَصُفُّونَ أنفُسَهمْ عندَ القِتالِ صَفًا مُستَقيمًا، مُتكامِلاً ومُتَناسِقًا، كأنَّهمْ بُنيانٌ مُلتَصِقٌ بَعضُهُ ببَعض، قدْ رُصَّ وأُحكِمَ في بِنائهِ فليسَ فيهِ فُرجَةٌ ولا خَلَل.
﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِي وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيۡكُمۡۖ فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الۡفَٰسِقِينَ﴾ [الصف:5]
واذكُرْ لأصحابِكَ أيُّها الرسُول، ممَّنْ كَرِهَ الجِهاد، قَولَ نَبيِّ اللهِ موسَى لقَومِه، وقدْ دَعاهُمْ إلى قِتالِ الجبابِرَة: يا قَوم، لمَ تؤذُونَني بالمُخالفَةِ والعِصيانِ وأنتُمْ تَعلَمونَ عِلمًا قَطعيًّا أنِّي مُرسَلٌ مِنَ اللهِ إليكم، والرسُولُ يُصَدَّقُ ويُطَاع. وكانوا قدْ قالوا لهُ عليهِ السَّلام: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}! [سورة المائدة: 24]. فلمَّا عصَوا ومالُوا عنِ اتِّباعِ الحقِّ وهمْ يَعرِفونَه، وآذَوا نبيَّهمْ بذلك، صرَفَ اللهُ قُلوبَهمْ عنِ الهُدَى وخذلَهم، لاختيارِهمُ العَمَى والضَّلال، واللهُ لا يوفِّقُ لإصابَةِ الحقِّ مَنْ خَرَجَ عنِ الطَّاعَة، وأصرَّ على الضَّلال، ولم يَسلُكْ مَسالِكَ الهُدَى.
﴿وَإِذۡ قَالَ عِيسَى ابۡنُ مَرۡيَمَ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيۡكُم مُّصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٖ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي اسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَآءَهُم بِالۡبَيِّنَٰتِ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ﴾ [الصف:6]
واذكُرْ قَولَ نَبيِّ اللهِ عيسَى بنِ مَريمَ - آخِرِ أنبِياءِ بَني إسرَائيل -: يا بَني إسرَائيل، إنِّي نَبيٌّ مُرسَلٌ إليكمْ مِنْ عندِ الله، مُصَدِّقًا بذلكَ لِما بينَ يَديَّ مِنَ التَّوراة، التي بشَّرَتْ بي، وأنا أُبَشِّرُ برَسُولٍ يأتي مِنْ بَعدي اسمُهُ أحمَد. فلمَّا جاءَهمْ بالمُعجِزاتِ كفَروا بها، وقالوا: إنَّ هذا الذي جاءَ بهِ سِحرٌ ظاهِر، وليسَ مُعجِزَةً تدلُّ على صِدقِ نبوَّتِه!
وللرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أسماء، قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: "إنَّ لي أسمَاء، أنا مُحَمَّد، وأنا أحمَد، وأنا الماحي الذي يَمحو اللهُ بيَ الكُفر، وأنا الحاشِرُ الذي يُحشَرُ النَّاسُ على قدَمي، وأنا العاقِبُ". رَواهُ الشَّيخانِ في صَحِيحَيهما واللَّفظُ للبخاريّ. والعاقِب: الذي ليسَ بعدَهُ نَبيّ.
والأنبياءُ حَمَّادُون، ونَبيُّنا أحمَدُهم، أي أكثَرُهمْ حَمدًا، وأعظَمُهمْ في صِفَةِ الحَمد. عَليهمُ الصَّلاةُ والسَّلام.
كما ثبَتَ في الصَّحيحِ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُفتَحُ عَليهِ في المَقامِ المَحمودِ - يَومَ القيامَةِ - بمَحامِدَ لم يُفتَحْ بها على أحَدٍ قَبلَه.
﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ افۡتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الۡكَذِبَ وَهُوَ يُدۡعَىٰٓ إِلَى الۡإِسۡلَٰمِۚ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [الصف:7]
وليسَ هُناكَ أظلَمُ ممَّنْ يَكذِبُ على الله، بتَكذيبِ رسُلِهِ وتَسميَةِ آياتِهِ سِحرًا، وعِبادَةِ شُرَكاءَ معَهُ وهوَ يُدْعَى إلى التَّوحيدِ والإخْلاص. واللهُ لا يُرشِدُ هؤلاءِ الظَّالِمينَ، الذينَ تَجاوَزوا الحقَّ واتَّبَعوا الباطِل، وأمثالَهم، إلى ما فيهِ هُداهُم؛ لعدَمِ استِعدادِهمْ لذلك، وعدَمِ تَوجُّهِهمْ إليه.
﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفِـُٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ الۡكَٰفِرُونَ﴾ [الصف:8]
يُحاوِلونَ أنْ يُبطِلوا الحقّ، وأنْ يوقِفوا انتِشارَ الإسْلام، كمَنْ يَنفُخُ بفَمِهِ الشَّمسَ ليُطفِئَ شُعاعَها! وسَوفَ يَنشُرُ اللهُ دِينَه، وتَصِلُ أنوارُهُ إلى أنحَاءِ الأرْض، كما تَصِلُ إليها أشِعَّةُ الشَّمس، ولو كَرِهَ الكافِرون، وحاوَلوا مَنعَهُ بكُلِّ ما يَستَطيعونَ مِنْ مَالٍ وإعْلام، وجُندٍ وسِلاح.
﴿هُوَ الَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِالۡهُدَىٰ وَدِينِ الۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ الۡمُشۡرِكُونَ﴾ [الصف:9]
هوَ اللهُ الحقّ، الذي بعثَ نبيَّهُ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم بالقُرآنِ ليَهتَديَ بهِ النَّاس، وبالدِّينِ الثَّابتِ الصَّحيحِ ليُظهِرَهُ على سائرِ الأديَان، بنَسخِهِ إيَّاها، والإبقَاءِ عَلى دِينِ الإسْلام.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ﴾ [الصف:10]
هذا جَوابٌ عمَّا سألَهُ الصَّحابَةُ عنْ أحَبِّ الأعمالِ إلى اللهِ تَعالَى ليَفعَلوه.
أيُّها المؤمِنون، هلْ أُرشِدُكمْ إلى تِجارَةٍ جَليلَةِ الشَّأن، تَربَحونَ فيها رِضَى الله، وتَنجُونَ بها مِنْ عَذابِ النَّار؟
﴿تُؤۡمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [الصف:11]
تُؤمِنونَ باللهِ ورَسُولِهِ بصِدقٍ وإخْلاص، لا شِركَ فيهِ ولا رِياء، وتُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ بأموالِكمْ وأنفُسِكمْ لإعْلاءِ كَلمتِه، فالإيمانُ والجِهادُ خَيرٌ لكمْ على الإطْلاق، إنْ كنتُمْ مِنْ أهلِ العِلمِ والإيقَان.
﴿يَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ وَيُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّـٰتِ عَدۡنٖۚ ذَٰلِكَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِيمُ﴾ [الصف:12]
فإنْ آمَنتُمْ وجاهَدتُم، يَغفِرِ اللهُ ذُنوبَكم، ويَرحَمْكم، ويُسكِنْكُمْ جنَّاتٍ واسِعات، تَجري مِنْ خِلالِ أشجارِها الأنهَارُ بأنواعِها، وقُصورًا عاليةً طَيِّبةً في جَنَّاتِ إقامَةٍ دائمَة، وذلكَ هوَ الفَوزُ والفَلاحُ، والسَّعادَةُ الدَّائمَة.
﴿وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرٞ مِّنَ اللَّهِ وَفَتۡحٞ قَرِيبٞۗ وَبَشِّرِ الۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الصف:13]
ونِعمَةٌ أُخرَى تُحِبُّونَها، هيَ بُشرَى لكم: نَصرٌ مِنَ اللهِ على المُشرِكين، وفَتحٌ مِنْ عندِه، في القَريبِ العاجِل، وبَشِّرِ المؤمِنينَ أيُّها الرسُولُ بالنَّصرِ في الدُّنيا، وبالمَثوبَةِ الحُسنَى في الآخِرَة.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابۡنُ مَرۡيَمَ لِلۡحَوَارِيِّـۧنَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى اللَّهِۖ قَالَ الۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ اللَّهِۖ فَـَٔامَنَت طَّآئِفَةٞ مِّنۢ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٞۖ فَأَيَّدۡنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ فَأَصۡبَحُواْ ظَٰهِرِينَ﴾ [الصف:14]
أيُّها المؤمِنون، كونُوا نُصرَةً لدِينِ اللهِ في جَميعِ أحوالِكم، بأنفُسِكمْ وأموالِكم، كما قالَ نَبيُّ اللهِ عيسَى بنُ مَريمَ لصَفوَةِ أتْباعِهِ الحوَاريِّين: مَنْ أعوَاني وجُنودِي الذينَ يُعينوننَي في الدَّعوَةِ إلى الله؟
قالَ الحوَاريُّون: نحنُ أنصارُكَ على ما أُرسِلْتَ به، ومُؤازِروكَ على تَبليغِ دِينِ الله.
ولمَّا دَعا معَ أتباعِهِ إلى الدِّين، اهتدَتْ جَماعَةٌ مِنْ بَني إسرَائيلَ واتَّبَعوه، وضَلَّتْ جَماعَةٌ أُخرَى، ورَمَوهُ وأُمَّهُ الصِّدِّيقةَ بالعَظائم، وهمُ اليَهودُ عَليهمْ لَعنَةُ الله، وغَلَتْ فيهِ طَوائفُ مِنْ بَعد، فاعتبَروهُ ابنًا لله، تَعالَى اللهُ عنْ ذلكَ وتقدَّس. فنَصَرْنا المؤمِنينَ على أعدَائهم، فصَاروا غالِبينَ عَليهم، وذلكَ ببِعثَةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.