﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِ الۡمَلِكِ الۡقُدُّوسِ الۡعَزِيزِ الۡحَكِيمِ﴾ [الجمعة:1]
يُنزَّهُ اللهَ ويوَحَّدُهُ كُلُّ ما في السَّماواتِ والأرْضِ مِنْ مَخلوقات، ناطِقُها وجامِدُها، قَولاً وفِعلاً، طَوْعًا وكَرْهًا، بلسَانِ الحال، أو بلسانِ المَقَال، وإنْ لم نَفقَهْ تَسبيحَ بَعضِها. اللهُ خالِقُهما، ومالِكُهما، والمُتصَرِّفُ فيهما، المُنَزَّهُ مِنَ النَّقائصِ والعُيوب، العَزيزُ الذي لا يُغلَب، الحَكيمُ في أقوالِهِ وأفعالِه.
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ الۡكِتَٰبَ وَالۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ﴾ [الجمعة:2]
هوَ الذي بعثَ في العرَبِ الذينَ اشتُهِرَتْ فيهمُ الأمِّيِّةُ ولا كتابَ لهم - فلا يَقرَؤونَ ولا يَكتُبونَ - رسُولاً مِنْ جُملَتِهمْ وأُمِّيًّا مثلَهم، يَقرَأُ عَليهمْ آياتٍ مُوحًى بها مِنْ عندِ الله، ويَجعَلُهمْ أزكيَاءَ القُلوب، بإيمَانِ مَنْ يَهديهِ اللهُ ويُصلِحُهُ على يَديه، وبدَعوَتِهِ وتَبليغِه، ويُرشِدُهمْ إلى كيفيَّةِ تَطهيرِ النُّفوسِ مِنَ الآثامِ والخِصالِ السيِّئة، ويُعَلِّمُهمُ القُرآنَ العَظيم، والسنَّةَ النبَويَّة، وما فيها مِنْ أحكامٍ وشَرائع، وإنْ كانوا مِنْ قَبلُ في جاهليَّة، وشِركٍ وكُفر.
وتَخصيصُ العرَبِ بالذِّكرِ لا يَنفي مَنْ عَداهم، ولكنَّ المنَّةَ عَليهمْ أبلَغُ وآكَد، كما في الآيةِ التَّالية، وكما في قَولِهِ تَعالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} {سورة الأعراف: 158].
﴿وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡۚ وَهُوَ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [الجمعة:3]
وبُعِثَ إلى آخَرينَ منَ المؤمِنينَ لم يَلحَقوا بهم، وسيَلحَقونَ بهمْ مِنْ بَعد. واللهُ عَزيزٌ فلا يُقهَر، حَكيمٌ في صُنعِهِ وتَدبيرِه.
﴿ذَٰلِكَ فَضۡلُ اللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَاللَّهُ ذُو الۡفَضۡلِ الۡعَظِيمِ﴾ [الجمعة:4]
وما أعطاهُ اللهُ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِنَ النبوَّة، وما خَصَّ بهِ أُمَّتَه، نِعمَةٌ مِنَ اللهِ ورَحمَة، يُعطيها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِه، وفَضلُ اللهِ عَظيم، ورَحمَتُهُ واسِعَة.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ الۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ الۡقَوۡمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِۚ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [الجمعة:5]
مثَلُ الذينَ أُعْطُوا التَّوراةَ وكُلِّفوا العملَ بها والقِيامَ بحَقِّها، ثمَّ لم يَعمَلوا بها ولم يُؤَدُّوا حقَّها، كمثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ كتُبًا وهوَ لا يَدري ما فيها ولا يَنتَفِعُ بها. واليَهودُ قرَؤوا التَّوراةَ وعَلِموا ما فيها ولكنَّهمْ لم يَعمَلوا بمُقتَضاها، بلْ أوَّلوا وحرَّفُوا وبدَّلوا، فبئسَ القَومُ هم، الذينَ كذَّبوا بآياتِ اللهِ وكتُبِه، وسعَوا في تَبديلِ كلامِهِ وتَغييرِه، واللهُ لا يَهدي الظَّالِمينَ الذينَ تَجاوَزوا الحقَّ، ووَضَعوا التَّكذيبَ في مَوضِعِ التَّصديق.
﴿قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوٓاْ إِن زَعَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ أَوۡلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [الجمعة:6]
قُلْ أيُّها الرسُول: يا مَعشَرَ اليَهود، إنْ زعَمتُمْ أنَّكمْ أحِبَّاءُ لله، مُتَّبِعونَ للحقّ، وأنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ على ضَلال، فادْعُوا بالمَوتِ على أنفُسِكم، لتَنتَقِلوا مِنْ دارِ البَلايا والأكدَارِ إلى دارِ الكرَامَةِ والسَّعادَة، إذا كنتُمْ صادِقينَ في دَعواكمْ بأنَّكمْ على حقّ، فإنَّ المؤمِنَ المُطيعَ يُحِبُّ لقاءَ الله.
﴿وَلَا يَتَمَنَّوۡنَهُۥٓ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡۚ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالظَّـٰلِمِينَ﴾ [الجمعة:7]
ولكنَّ اليَهودَ لا يَتمنَّونَ الموتَ أبدًا، لِما همْ فيهِ مِنَ الظُّلمِ والفُجُور، والكُفرِ والتَّكذِيبِ بنبوَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وهمْ يَعلَمونَ أنَّهُ هوَ المُبَشَّرُ بهِ في التَّوراة، لمُطابقَةِ أوصافِهِ وأخبارِهِ لِما يَجِدونَهُ فيها. واللهُ عالِمٌ بما تَجاوَزوهُ مِنَ الحقّ، وما صدرَ منهمْ مِنْ أنواعِ الظُّلمِ والمَعاصِي.
﴿قُلۡ إِنَّ الۡمَوۡتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنۡهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمۡۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الۡغَيۡبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [الجمعة:8]
قُلْ لهم: إنَّ المَوتَ الذي تَهرُبونَ منهُ خَوفًا مِنْ أنْ تُحاسَبوا على جَرائمِكم، فإنَّهُ آتيكمْ حَتمًا، لا مفَرَّ لكمْ منه، ثمَّ تُبعَثونَ وتُرجَعونَ إلى مَنْ يَعلَمُ ما تَعلَمونَ وما لا تَعلَمون، ويرَى ما ترَونَ وما لا ترَون، فيُخبِرُكمْ بما عَمِلتُمْ مِنَ الكُفرِ والتَّكذِيب، والمَعاصِي والذُّنوب، ويُجازيكمْ على ذلكَ سُوءَ الجَزاء.
﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ الۡجُمُعَةِ فَاسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [الجمعة:9]
أيُّها المؤمِنون، إذا نُودِيَ للصَّلاةِ بالأذَانِ في يَومِ الجُمُعَةِ فامضُوا إليها، واترُكوا البَيعَ والشِّراء، فهوَ أنفَعُ لكمْ وأبقَى، إنْ كنتُمْ تَعلَمونَ الحلالَ والحرام، والطَّاعَةَ والمَعصيَة.
﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوٰةُ فَانتَشِرُواْ فِي الۡأَرۡضِ وَابۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ اللَّهِ وَاذۡكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [الجمعة:10]
فإذا أُدِّيَتِ الصَّلاةُ فانتَشِروا في الأرْضِ واطلبُوا رِزقَكمْ مِنْ فَضلِ اللهِ وتصرَّفوا في حَوائجِكم - وهوَ أمرُ إباحَةٍ -، وأكثِروا مِنْ ذِكرِ الله، ولا تَشغَلنَّكمُ الدُّنيا عنْ ذلك؛ لتَفوزُوا بخَيرَي الدُّنيا والآخِرَة.
﴿وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا انفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ اللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ اللَّهۡوِ وَمِنَ التِّجَٰرَةِۚ وَاللَّهُ خَيۡرُ الرَّـٰزِقِينَ﴾ [الجمعة:11]
قالَ جابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه: أقبَلَتْ عِيرٌ - أي قافِلَةٌ مُحمَّلَةٌ بالمَتاعِ - يَومَ الجُمُعَة، ونحنُ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فثارَ النَّاسُ إلاّ اثنَي عشرَ رَجُلاً، فأنزلَ الله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا...}. رَواهُ البُخاريُّ في صَحيحِه.
وإذا رَأَوا تِجارَةً قادِمَة، أو تَصفيقًا وطَبلاً، أو دُفًّا يُضرَبُ بهِ لاستِقبالِ القافِلَة، تَفرَّقوا مِنْ عندِكَ وقامُوا إلى التِّجارَة، وترَكوكَ قائمًا تَخطُبُ على المِنبَر، قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: إنَّ ما أعدَّهُ اللهُ مِنَ الأجرِ والثَّوابِ في الدَّارِ الآخِرَة، خَيرٌ مِنَ القِيامِ إلى اللَّهوِ وطلَبِ البَيعِ والشِّراءِ في هذا الوَقت، فإنَّ نَفعَ ما عندَ اللهِ مُحَقَّق، ونَفعَ اللَّهوِ في الدُّنيا ليسَ بمُحَقَّق، بلْ مُتَوهَّم، ونَفعَ التِّجارَةِ ليسَ بمُخَلَّد. وتَقديمُ اللَّهوِ على التِّجارَةِ هُنا لأنَّهُ أقوَى مَذَمَّة.
واللهُ خَيرُ مَنْ رزَقَ وأثَاب، وهوَ مُوجِدُ الأموَالِ والأرزَاق، فاسعَوا إليه، واطلُبوا منهُ الرِّزقَ في وَقتِهِ كما أمرَكم.
وفي مسندِ أحمدَ وسُنَنِ الترمذيِّ وغيرِهما بإسنَادٍ صَحيح، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم كانَ يَقرَأُ في صَلاةِ الجُمُعَةِ بسُورَةِ الجُمُعَة، و{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ}.اهـ.
وهيَ السُّورَةُ التالية.