تفسير سورة التغابن

  1. سور القرآن الكريم
  2. التغابن
64

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الۡأَرۡضِۖ لَهُ الۡمُلۡكُ وَلَهُ الۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ [التغابن:1]


يُنزِّهُ اللهَ ويوَحِّدُهُ كُلُّ ما في السَّماواتِ والأرْضِ مِنْ المَخلُوقات، ما نَطقَ منها وما لم يَنطِق، وإنْ لم نَفقَهْ تَسبيحَ بَعضِها، وجَميعُ الكائناتِ مُلكُهُ سُبحانَه، يُدَبِّرُ أمرَها ويَتصرَّفُ فيها كما يَشاء، ولهُ الثَّناءُ الحسَنُ على ما قدَّرَ وأعطَى، وهوَ القادِرُ على كُلِّ شَيء، لا يَمنَعُهُ مِنَ القُدرَةِ الكامِلَةِ مانِع، فما شاءَ كان، وما لم يَشَأ لم يَكن.

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [التغابن:2]


هوَ الذي أوجدَكمْ كما شَاء، فمنكمْ كافِرٌ به، ومنكمْ مؤمِنٌ به، واللهُ عَليمٌ(145) بمَنْ يَستَحِقُّ الهِدايَةَ ممَّنْ يَستَحِقُّ الضَّلال، وسيَجزي كُلاًّ بما يَستَحِقّ.

(145) البصير: أُريدَ به العالِمُ عِلمَ انكشاف، لا يَقبلُ الخفاء، فهو كعلمِ المشاهَدة. وهذا إطلاقٌ شائعٌ في القرآن، لا سيَّما إذا أُفردتْ صفةُ (بصير) بالذكر، ولم تُذكَرْ معها صفةُ (سميع). (التحرير والتنوير).

﴿خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ بِالۡحَقِّ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡۖ وَإِلَيۡهِ الۡمَصِيرُ﴾ [التغابن:3]


خلقَ السَّماواتِ العَظيمَةَ والأرْضَ وما فيها لحِكمَةٍ بالِغَة، وخلقَكمْ فأحسنَ أشكالَكم، وخَصَّكمْ بدَقائقَ وأسرَارٍ في تَكوينِكمُ العُضويِّ والنَّفسيّ، وأكرَمَكم، وإلى اللهِ المَرجِعُ والمَآب، ليُحاسِبَ كُلاًّ على ما عَمِل.

﴿يَعۡلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعۡلِنُونَۚ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [التغابن:4]


يَعلَمُ جَميعَ ما في السَّماواتِ والأرْض، ممَّا ظَهرَ منها وما بطَن، ويَعلَمُ ما تُخفُونَهُ في أنفُسِكمْ مِنْ أسرَار، وما تُعلِنونَهُ مِنْ أُمُور، واللهُ عَليمٌ بما تُسِرُّونَهُ في صُدورِكم، فلا يَخفَى عليهِ شَيءٌ مِنْ أمرِكم، مهما خَفيَ ودَقّ.

﴿أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمۡرِهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [التغابن:5]


ألمْ يأتِكمْ خبَرُ الكافِرينَ مِنَ الأُمَمِ الماضِين، وما حَلَّ بهمْ مِنَ العَذاب، لرَفضِهمُ اتِّباعَ الدِّينِ الحقّ؟ ولهمْ في الآخِرَةِ عَذابٌ شَديد.

﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُۥ كَانَت تَّأۡتِيهِمۡ رُسُلُهُم بِالۡبَيِّنَٰتِ فَقَالُوٓاْ أَبَشَرٞ يَهۡدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْۖ وَّاسۡتَغۡنَى اللَّهُۚ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٞ﴾ [التغابن:6]


وما عُوقِبوا بهِ في الدُّنيا، وما سيُعاقَبونَ بهِ في الآخِرَة، هوَ لأنَّهمْ كانتْ تأتيهمْ رسُلُهمْ بالمُعجِزاتِ والدَّلائلِ الواضِحات، فيَقولون: أبشَرٌ يَهدونَنا وهمْ مِثلُنا؟ فكذَّبوهمْ وأعرَضوا عنْ دِينِ الله، واستَغنَى اللهُ عَنهمْ فأهلكَهم، واللهُ غَنيٌّ عنهمْ وعنْ إيمانِهمْ وطاعَتِهم، وعنِ الخَلقِ أجمَعين، حَميدٌ في أفعالِه، يَستَحِقُّ الحَمدَ بذاتِه.

﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٞ﴾ [التغابن:7]


ادَّعَى الكافِرونَ أنَّهمْ لنْ يُبعَثوا بعدَ المَوت، قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: بلَى واللهِ لتُبعَثُنَّ، ثمَّ لتُخبَرُنَّ بأعمالِكمْ كُلِّها، خَيرِها وشرِّها، وتُحاسَبُنَّ عَليها. وإحياؤكمْ سَهلٌ يَسيرٌ على الله، فما أنتُمْ عندَهُ إلاّ كنَفسٍ واحِدَة. وحِسابُكمْ يَسيرٌ عَليهِ كذلك، وإنْ كَثُرَ عدَدُكم، وكَثُرَتْ أعمالُكم.

﴿فَـَٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَالنُّورِ الَّذِيٓ أَنزَلۡنَاۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ [التغابن:8]


فآمِنوا باللهِ ورسُولِهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، والقُرآنِ الذي أنزَلناهُ عَليه، واللهُ عالِمٌ بما تَعمَلون، خَبيرٌ بما تأتونَ وما تذَرون.

﴿يَوۡمَ يَجۡمَعُكُمۡ لِيَوۡمِ الۡجَمۡعِۖ ذَٰلِكَ يَوۡمُ التَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِاللَّهِ وَيَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِيمُ﴾ [التغابن:9]


يَومَ يَجمَعُكمْ جَميعًا، أوَّلَكمْ وآخِرَكم، ذلكَ اليَومُ الذي يَظهَرُ فيهِ خُسرانُ النَّاسِ أو فَواتُ حُظوظٍ لهم، فيَخسَرُ الكافِرونَ الجنَّةَ لعدَمِ إيمانِهم، ويَخسَرُ مؤمِنونَ درَجاتٍ في الجنَّةِ لتَقصيرِهمْ في الطَّاعَةِ والإحسَان. ومَنْ يَصدُقْ في إيمانِه، ويُخلِصْ في عمَلِه، يَغفِرِ اللهُ ذُنوبَه، ويُدخِلْهُ جنَّاتٍ عاليَات، وقُصورٍ واسِعات، تَجري مِنْ خِلالِها الأنهَار، مخلَّدينَ فيها أبدًا، وذلكَ هوَ الفَوزُ والفَلاح، والسَّعادَةُ الكبيرَة.

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ النَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ وَبِئۡسَ الۡمَصِيرُ﴾ [التغابن:10]


والذينَ كفَروا بالله، وكذَّبوا بالمُعجِزاتِ التي أيَّدَ بها رسُلَه، أولئكَ أهلُ النَّار، ماكثينَ فيها أبدًا، لا مَحيدَ لهمْ عنها، وبئسَ مآلُهمُ الذي استقَرُّوا فيه.

﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ اللَّهِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِاللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾ [التغابن:11]


ما أصابَ أحدًا مُصيبَةٌ إلاّ بمَشيئةِ الله، ومَنْ أصابَتْهُ مُصيبَةٌ، فعَلِمَ أنَّها بقَضاءِ اللهِ وقدَرِه، وآمَنَ بأنَّهُ لا تُصيبُهُ إلاّ بإذنِه، وصبرَ واحتسَب، وسلَّمَ الأمرَ للهِ ورَضِي، زادَهُ يَقينًا، وطَمْأَنَ قلبَه، وهداهُ إلى مَزيدٍ مِنَ الخَيرِ والطَّاعَة، واللهُ عالِمٌ بكلِّ شَيء، لا يَخفَى عليهِ أحوالُ النَّاسِ ونيَّاتُهم.

﴿وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الۡبَلَٰغُ الۡمُبِينُ﴾ [التغابن:12]


وأطيعُوا اللهَ فيما شرَعَ لكمْ مِنَ الدِّين، وأطيعُوا رَسُولَهُ فيما بلَّغَ عنْ ربِّهِ، وما أمرَ بهِ ونهَى عنه، فإنْ أعرَضتُم، فما على الرسُولِ إلاّ تَبليغُ ما أُمِرَ بهِ بَلاغًا واضِحًا، وقدْ فَعَل، وليسَ عليهِ هُداكم، وما عَليكمْ إلاّ السَّمعُ والطَّاعَة.

﴿اللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ الۡمُؤۡمِنُونَ﴾ [التغابن:13]


اللهُ واحِدٌ لا شَريكَ له، فلا مَعبودَ بحقٍّ سِواه، وعلى اللهِ وحدَهُ فَليَعتَمدِ المؤمِنونَ في أُمورِهم.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَاحۡذَرُوهُمۡۚ وَإِن تَعۡفُواْ وَتَصۡفَحُواْ وَتَغۡفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ﴾ [التغابن:14]


أيُّها المؤمِنون، إنَّ مِنْ أزواجِكمْ وأولادِكمْ مَنْ يَكونُ عدوًّا لكم، عندَما يُلهونَكمْ عنِ العمَلِ الصَّالح، ويُعادُونَكم، ويَحمِلونَكمْ على قَطعِ الرَّحِم، أو مَعصيَةِ الله، فاحذَروهم، ولا تأمَنوا شرَّهم، وإنْ تَعفُوا عنْ أخطائهمُ القابِلَةِ للعَفو، كالمُتعَلِّقَةِ بأمورِ الدُّنيا، وتَستُروهمْ عَليها وتَعذِرونَهمْ فيها، فإنَّ اللهَ يُثيبُكمْ عَليها، فيَغفِرُ لكمْ ويَرحَمُكم، وهوَ كثيرُ المَغفِرَةِ لذُنوبِ عِبادِهِ التَّائبين، واسِعُ الرَّحمَةِ بالمؤمِنين.

﴿إِنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞۚ وَاللَّهُ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ﴾ [التغابن:15]


إنَّما أموالُكمْ وأولادُكمْ ابتِلاءٌ واختِبارٌ مِنَ اللهِ لكم، فيترتَّبُ عَليهما كثيرٌ مِنَ التصرُّفاتِ والموَاقفِ والالتِزامَات، ليَعلمَ اللهُ بذلكَ مَنْ يُطيعُهُ ويُنفِقُ مِنْ مالِهِ فيما يُرضِيه، ومَنْ يُقَدِّمُ مَصلحةَ مالِهِ وأولادِهِ على دِينِ اللهِ والجِهادِ في سَبيلِه. ومَنْ آثرَ الباقي على الفاني فقدْ فازَ ونَجا، وما عندَ اللهِ خَيرٌ وأبقَى.

﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسۡتَطَعۡتُمۡ وَاسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن:16]


فابذُلوا جُهدَكمْ لامتِثالِ أمرِ اللهِ وعدَمِ مُخالفَتِه، واسمَعوا مَواعِظَ الله، وتَمسَّكوا بسنَّةِ نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وأنفِقوا مِنْ أموالِكمْ للفُقَراءِ والمُحتاجين، ومَنْ مَنعَ نَفسَهُ مِنَ البُخلِ والحِرصِ على المال، فقدْ نجحَ وفاز.

وفي حديثِ جابرٍ المرفوعِ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: "واتَّقوا الشُّحّ، فإنَّ الشُّحَّ أهلكَ مَنْ كانَ قَبلَكم، حملَهمْ على أنْ سفَكوا دِماءَهم، واستَحلُّوا مَحارِمَهم". رَواهُ مُسلم.

والشُّحُّ أشَدُّ البُخل.

﴿إِن تُقۡرِضُواْ اللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا يُضَٰعِفۡهُ لَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ [التغابن:17]


إذا أنفَقتُمْ مِنْ أموالِكمْ في سَبيلِ الله، مِنْ جِهادٍ وغَيرِهِ مِنْ أعمالِ البِرِّ والإحسَان، بإخْلاصٍ وطِيبِ نَفس، فإنَّ اللهَ يُضاعِفُ لكمُ الأجرَ والثَّوابَ يَومَ الحِسابِ والجَزاء، ويَغفِرُ ذُنوبَكم، واللهُ شَكورٌ يَجزِي الكثيرَ على القَليل، حَليم، لا يُعاجِلُ بالعُقوبَة، بلْ يُمهِل، ويَصفَحُ ويَغفِر.

﴿عَٰلِمُ الۡغَيۡبِ وَالشَّهَٰدَةِ الۡعَزِيزُ الۡحَكِيمُ﴾ [التغابن:18]


اللهُ الذي يَعلَمُ ما غابَ عنكمْ وما هوَ مُشاهَدٌ لكم، فلا يَخفَى عليهِ صَغيرٌ ولا كَبير، في الأرْضِ ولا في السَّماء، الغالِبُ الذي لا يُقهَر، الحَكيمُ فيما يَقضي ويُقَدِّر.