تفسير سورة البلد

  1. سور القرآن الكريم
  2. البلد
90

﴿لَآ أُقۡسِمُ بِهَٰذَا الۡبَلَدِ﴾ [البلد:1]


أُقسِمُ بالبلَدِ الحَرام، مكَّةَ المُكرَّمَة، الذي شرَّفَهُ اللهُ بالبَيتِ العَتيق، وحرَّمَهُ يَومَ خلقَ السَّماواتِ والأرْض، وتَبقَى حُرمَتُهُ إلى يَومِ القِيامَة.

﴿وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَٰذَا الۡبَلَدِ﴾ [البلد:2]


ويَزيدُ البلدَ كرامَةً وحُرمَةً أنَّكَ مُقيمٌ بهِ أيُّها النبيّ. (السُّورةُ مكيَّة).

﴿وَوَالِدٖ وَمَا وَلَدَ﴾ [البلد:3]


والوالِدِ الأوَّلِ آدَم، وما وَلَد، مِنْ جَميعِ وَلَدِه.

﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا الۡإِنسَٰنَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد:4]


لقدْ خلَقنا الإنسَانَ في تعَبٍ ومَشقَّةٍ ومُكابدَة. (160) ففي أطوَارِ خَلقِهِ شِدَّةٌ ومَشقَّة، في بَطنِ الأُمّ، ثمَّ في زمَنِ الإرضَاع، فالتَّربيَةِ والتَّعليم، وتَحصِيلِ المَعاش، وما بينَ ذلكَ مِنْ مُعاناةِ المِحَنِ والشَّدائدِ والتَّكاليفِ والصَّبرِ عليها، فمعَاناةِ الموتِ وكربِه، وما بَعدَهُ مِنَ الحشرِ والحِسابِ والجزَاء.

(160) {فِي كَبَدٍ}: حالٌ من الإنسان، بمعنى: مكابِدًا. وحرفُ (في) و (اللام) متقاربان، تقول: إنما أنتَ للعناءِ والنصَب، وإنما أنت في العناءِ والنصَب. ووجهٌ آخرُ أقوله: {فِي كَبَدٍ} يدلُّ على أن الكبَدَ قد أحاطَ به إحاطةَ الظرفِ بالمظروف... (روح البيان).

﴿أَيَحۡسَبُ أَن لَّن يَقۡدِرَ عَلَيۡهِ أَحَدٞ﴾ [البلد:5]


أيَظنُّ هذا المَغرورُ أنْ لنْ يَقدِرَ اللهُ على الانتِقامِ منه، وهوَ الذي أعطاهُ الحيَاة، ومَنحَهُ القوَّة، فصَارَ يَظلِمُ ويَبطِش، ويَنهَبُ ويَفجُر... ولا يَحسَبُ أنَّهُ مأخوذٌ بعمَلِه؟

﴿يَقُولُ أَهۡلَكۡتُ مَالٗا لُّبَدًا﴾ [البلد:6]


يَقولُ ابنُ آدَم: أنفَقتُ مالاً كثيرًا. يَتبَاهَى بذلكَ ويَتعَاظَم.

﴿أَيَحۡسَبُ أَن لَّمۡ يَرَهُۥٓ أَحَدٌ﴾ [البلد:7]


أيَظنُّ أنَّ اللهَ لم يرَه، ولم يَعرِفْ نيَّتَهُ في الإنفَاق، ولا يَسألُهُ يَومَ القِيامَةِ مِنْ أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَه؟

﴿أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَيۡنَيۡنِ﴾ [البلد:8]


ألمْ نَجعَلْ لهُ عَينَينِ يُبصِرُ بهما الأشيَاء؟

﴿وَلِسَانٗا وَشَفَتَيۡنِ﴾ [البلد:9]


ولسانًا يَنطِقُ به، فيُعَبِّرُ بهِ عمَّا في نَفسِه، وشفتَينِ يَستُرُ بهما فمَه، ويَستَعينُ بهما على الكَلام، والأكلِ والشُّرب... فهذا وغيرُهُ مِنْ نِعَمِ اللهِ عليه، ليَعتَرِفَ بذلكَ ويَشكر، ولا يَغتَرَّ فيَكفُر.

﴿وَهَدَيۡنَٰهُ النَّجۡدَيۡنِ﴾ [البلد:10]


وهَدَينَاهُ طَريقَ الخَيرِ والشرَّ، والحقِّ والباطِل، ليَختارَ أيَّهما شَاء.

﴿فَلَا اقۡتَحَمَ الۡعَقَبَةَ﴾ [البلد:11]


فهلاَّ أطاعَ اللهَ وأنفقَ مالَهُ في رِضَاه، ليَتجاوزَ بذلكَ العَقَبةَ التي بينَهُ وبينَ الجنَّة؟(161).

(161) {الْعَقَبَةَ}: الطريقُ التي في الجبل، سميتْ بذلك لصعوبةِ سلوكها، وهو مثَلٌ ضربَهُ سبحانهُ لمجاهدةِ النفسِ والهوى والشيطانِ في أعمالِ البرّ، فجعلَهُ كالذي يتكلفُ صعودَ العقَبة. (فتح القدير).

﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا الۡعَقَبَةُ﴾ [البلد:12]


وما أعلمَكَ ما هيَ هذهِ العقَبَة، التي تَتطَلَّبُ إيمانًا وعَزيمَةً قَويَّة، لسُلوكِ الطَّريقِ التي تؤدِّي إلى الفَوزِ والنَّجاة؟

﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد:13]


هيَ إعتاقُ رِقابِ الأرقَّاءِ لوَجهِ الله، ليُصبِحوا أحرارًا مثلَ سَائرِ النَّاس، فمنْ أعتقَ رقَبَةً كانَ ذلكَ فِداءَهُ مِنَ النَّار.

﴿أَوۡ إِطۡعَٰمٞ فِي يَوۡمٖ ذِي مَسۡغَبَةٖ﴾ [البلد:14]


أو إطعَامٌ في يَومِ مَجاعَة، حيثُ يَعِزُّ فيهِ الطَّعام.

﴿يَتِيمٗا ذَا مَقۡرَبَةٍ﴾ [البلد:15]


يَتيمًا بينَكَ وبينَهُ قَرَابَة،

﴿أَوۡ مِسۡكِينٗا ذَا مَتۡرَبَةٖ﴾ [البلد:16]


أو فَقيرًا شَديدَ الفَقر، قدْ لَصِقَ بالتُّرابِ لبؤسِهِ وشِدَّةِ ما به.

﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوۡاْ بِالصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡاْ بِالۡمَرۡحَمَةِ﴾ [البلد:17]


وفَوقَ هذهِ الصِّفاتِ الطيِّبَة، فهوَ مِنَ الذينَ آمَنوا وأخلَصوا في إيمَانِهم، وتقرَّبوا بأعمالِهمْ لوجهِ اللهِ وحدَه، وأوصَى بَعضُهمْ بَعضًا بالصَّبرِ على فَرائضِه، وقَضائهِ وقدَرِه، والثَّباتِ على طاعَتِه، والرَّحمَةِ بالنَّاس، بالتَّعاونِ على البرِّ والتَّقوَى، وبَيانِ سبُلِ الخَيرِ لهم.

﴿أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ الۡمَيۡمَنَةِ﴾ [البلد:18]


أولئكَ المتَّصِفونَ بتلكَ الصِّفاتِ الطيِّبَة، همْ أهلُ اليَمين، الذينَ فازُوا بالجنَّةِ والسَّعادَةِ الدَّائمَة.

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا هُمۡ أَصۡحَٰبُ الۡمَشۡـَٔمَةِ﴾ [البلد:19]


والذينَ كفَروا بالقُرآن، أو بالأدلَّةِ والمُعجِزاتِ التي أيَّدْنا بها رسُلَنا، الدَّالَّةِ على صِدقِ رسالاتِهم، همْ أصحَابُ الشِّمال، مِنَ الأشقِياءِ ذَوي الشُّؤم.

﴿عَلَيۡهِمۡ نَارٞ مُّؤۡصَدَةُۢ﴾ [البلد:20]


عَليهمْ نارٌ مُطْبَقَة، قدْ أُغلِقَتْ عَليهمْ أبوَابُ جهنَّم، فهمْ مَحبوسُونَ فيها، لا خُروجَ لهمْ منها.