في حَديثٍ مُرْسَلٍ بإسنادٍ صَحيح، أنَّهُ احتَجَّ المسلِمونَ وأهلُ الكتاب، فقالَ المسلِمون: نحنُ أهدَى منكم، وقالَ أهلُ الكتاب: نحنُ أهدَى منكم. فأنزلَ اللهُ الآية.
ليسَ الأمرُ كما تَمنَّيتُمْ أيُّها المسلِمون، ولا كما تَصَوَّرتُمْ يا أهلَ الكتاب، فإنَّ كلَّ مَنْ يَعمَلُ ذَنْباً سوفَ يُحاسَبُ عليه، إنْ عاجِلاً أو آجِلاً، فالعِبرةُ بالطَّاعةِ والعَمل، لا بالتَحَلِّي والتمَنِّي. وإنَّ الذي يَعمَلُ السُّوءَ مُتجاوِزاً بذلكَ الحدودَ التي وضَعها الله، فلنْ يجدَ مَنْ يُدافعُ عنه، أو يُنجيهِ مِنْ عذابهِ إذا حلَّ به.
والمقصودُ ما كانَ كلُّ دينٍ في وقتِه، أمّا بعدَ بعثةِ رسولِ اللهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فلا دينَ سِوَى الإسلام.
وفي تَتمَّةِ الحديثِ السابقِ مِنْ سَببِ النـزول، أنَّ المسلمينَ غَلبوا أهلَ الكتابِ في حُجَّتهم، بالآيةِ التالية.
والعمومُ في الآيةِ مُخَصَّصٌ بالتوبة، وبمَنْ يَتفضَّلُ اللهُ بالعفوِ عنه.
وفي صَحيحِ مسلمٍ قَولُ أبي هُرَيرَةَ رَضيَ اللهُ عنه: لمَّا نزَلَت: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} بلَغَتْ مِنَ المسلِمينَ مَبلَغًا شَديدًا، فقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قارِبوا وسَدِّدُوا، فَفي كُلِّ ما يُصابُ بهِ المسلِمُ كَفَّارَة، حتَّى النَّكبَةِ يُنْكَبُها، أو الشَّوكَةِ يُشَاكُها".
قالَ الإمامُ النوَويُّ في شَرحِ حديثِ الباب: فيهِ تَكفيرُ الخَطايا بالأمراضِ والأسقامِ ومَصائبِ الدُّنيا وهُمومِها، وإنْ قُلتَ مَشَقَّتها، وفيهِ رَفعُ الدرَجاتِ بهذهِ الأمورِ وزيادَةُ الحسَنات...
وقالَ في مَعنَى "قارِبوا": أي اقتَصِدوا فلا تَغْلُوا ولا تَقْصُروا بلْ توَسَّطوا. وسَدِّدوا: أي اقصِدوا السَّداد، وهوَ الصَّواب. اهـ.
ويَكونُ مَعنى الآيَةِ هُنا: مَنْ يَعمَلْ سُوءًا يُجْزَ بهِ إنْ عاجِلاً أو آجِلاً، فأمَّا مُجازاةُ الكافِرِ فالنَّار، وأمَّا المؤمِنُ فيُجازَى في الدُّنيا غالِبًا، بما يُصيبُهُ مِنْ مرَضٍ وحُزنٍ وضِيقٍ وغَيرِه، فمَنْ بَقيَ لهُ سُوءٌ إلى الآخِرَةِ فهو في المَشيئة، يَغفِرُ اللهُ لمَنْ يَشاء، ويُجازي مَنْ يَشاء.