تفسير الجزء 10 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء العاشر
10
سورة الأنفال (41-75)
سورة التوبة (1-92)

﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۗ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [التوبة:27]


ثمَّ يتوبُ اللهُ - مِنْ بعدِ أنْ أذاقَهمْ ذُلَّ الهزيمةِ - على مَنْ شاءَ أنْ يتوبَ عليهم، فيَهديهمْ إلى الإسلام، واللهُ يَتجاوزُ عمّا سلفَ منهمْ منَ الكُفرِ والحَرب، ويَرحمُهمْ ويُثيبُهمْ على أعمالِهمُ الطيِّبة.

ثمَّ قَدِمَتْ هَوازِنُ على رَسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأسلَمت، فأعادَ إليهمْ ستَّةَ آلافِ أسير، وأكرمَ مَنْ شاءَ منهمْ بالعطاءِ لِيتألَّفَ قلوبَهمْ على الإسْلام، وأمَّرَ عليهمْ واحِداً منهم.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا الۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ الۡمَسۡجِدَ الۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ﴾ [التوبة:28]


أيُّها المؤمِنون، إنَّ المشرِكينَ قَذِرون، لا يتطهَّرونَ ولا يَغتسِلون، ولا يتجنَّبونَ النجاسات، وهمْ فاسِدو العقيدةِ خَبيثو الباطن، فلا تَسمَحوا لهمْ بالاقترابِ منَ المسجدِ الحرامِ بعدَ هذا العام، التاسعِ للهجرة.

وفي صَحيحِ البُخاريِّ وغيرِهِ - واللفظُ لهُ - قولُ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه، إنَّ أبا بكرٍ الصدِّيقَ رضيَ اللهُ عنهُ بعثَهُ في الحَجَّةِ التي أمَّرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليها قبلَ حَجَّة الوداع، يومَ النَّحر، في رَهْط، يؤذِّنُ في الناس: أنْ لا يَحُجَّ بعدَ العامِ مُشرِك، ولا يَطوفَنَّ بالبَيتِ عُريان. اهـ.

وإذا خَشِيتُمْ فَقْراً وفاقةً بسببِ منعِ المشرِكينَ مِنْ ذلك، حيثُ كانوا يَجْلُبونَ معهمْ إلى مكَّةَ العُروضَ والأطعِمةَ للتِّجارة، فيَتبادلونَ معهمُ التِّجارة، ويشتَرونَ منهمُ الأطعِمة، إذا خشيتُمْ ذلك، فإنَّ اللهَ يُغنيكمْ عنْ ذلك، ويتفضَّلُ عليكمْ بالرِّزقِ منْ أبوابٍ أخرى، بالمطر، وفتحِ البلاد، والغنائم، وعائدِ الجِزية، وما إليه، إنْ شاءَ سُبحانه، وهوَ عليمٌ بأحوالِكمْ ومصالِحِكم، حَكيمٌ في أمرهِ وعَطائهِ ومَنعه، فيُعطي ما يَشاءُ لمنْ يَشاء. وقدْ حقَّقَ اللهُ لهمْ ذلك، فأنعمَ وتفَضَّل.

﴿قَٰتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الۡحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ الۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ﴾ [التوبة:29]


قاتِلوا أيُّها المؤمِنونَ أهلَ الكتابِ المنحرِفينَ عنْ دينِ اللهِ - وكانَ ذلك تَمهيداً لغزوِ الرُّومِ وعمّالِهمْ منَ النَّصارَى العَربِ - الذينَ لا يؤمِنونَ باللهِ ولا بيَومِ القِيامةِ إيمانًا صَحيحًا، كما سيأتي بيانهُ في آياتٍ تالية، فقدْ قالتِ اليهودُ عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقالتِ النصارَى المسيحُ ابنُ الله، وهذا لا يكونُ إيماناً بالله، بل هوَ آراءٌ فاسِدةٌ وأهواءٌ زائغَة.

ولا يحرِّمونَ ما حرَّم اللهُ ورسُولهُ كما أوحَى اللهُ به، فأحلُّوا الرِّبا، وأكلوا أموالَ الناسِ بالباطِل، وأحلُّوا لحمَ الخنزيرِ، والخَمر...

ولا يتَّبعُون الدِّينَ الثابتَ الذي أمرَ اللهُ به، وهوَ الإسلام، فهمْ لا يَتعاملونَ بشَريعةِ الله، بلْ يتلقَّونَ الأحكامَ مِنْ أحبارِهمْ ورُهبانِهم.

فقاتِلوهم، فهمْ حَرْبٌ على دينِ اللهِ الصَّحيح. وهمْ مُعْتَدونَ حَقيقةً، فهمْ يَعتَدونَ على أُلوهيَّةِ اللهِ الخالقِ العَظيم، وهمْ يَعتَدونَ على عبادِ اللهِ بتعبيدِهمْ لغيرِ الله. والمُعتَدي يُقاوَمُ ويُحارَب.

فقاتِلوهمْ حتَّى يُعلِنوا استِسلامَهمْ ويَدفَعوا الجِزيةَ المُستَحَقَّةَ عليهمْ عنِ انقِيادٍ وطَاعةٍ وهمْ أذلَّةٌ مَقهورون، ومَنْ أسلمَ منهمْ عنِ اختيارٍ فلا تُؤخَذُ منهُ الجِزية، بلْ صارَ كأيِّ مُسلِم، لهُ ما لَه، وعليهِ ما عليه. وإنَّ فتحَ البلادِ الكافِرَةِ يُعطي مجالاً لبيانِ دينِ اللهِ الحقِّ ضدَّ الإعلامِ المُضَلِّلِ الذي يُثيرُ حولَهُ الشُّبهاتِ والشُّكوك، ثمَّ لا يُكْرَهُ أحدٌ على الإسْلام، فمنْ شاءَ آمن، ومَنْ شاءَ بقيَ على دينهِ ودفعَ الجِزية، وهوَ مبلغٌ قليلٌ يُؤخَذُ منهمْ مقابِلَ حمايَتِهم.

ويُبيَّنُ لهمْ دِينُ الإسلامِ ويُدعَونَ إليهِ قَبلَ بَدءِ القِتال.

وأمرُ الجِهادِ مَوكولٌ إلى الإمامِ واجتِهادِه، لأنَّهُ أعرَفُ بحالِ النَّاس، وبحالِ العَدوِّ ونِكايَتِهم.

﴿وَقَالَتِ الۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ابۡنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَٰرَى الۡمَسِيحُ ابۡنُ اللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ اللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ﴾ [التوبة:30]


وهذهِ حالُ أهلِ الكتابِ ومَقالتُهم، ليُعْلَمَ كيفَ انتظَموا في سِلكِ المشرِكين، فقدْ قالتِ اليهود: إنَّ عُزيْراً هوَ ابنُ الله، تعالَى اللهُ عنْ ذلك. وهوَ عِزْرا، المُلَقَّبُ بالكاتِب، وكانَ حافِظاً للتوراة، استَنسَخَها اليهودُ مِنْ فيهِ بعدَ مَقتلِ حَمَلتِها، وماتَ بعدَ موسَى عليهِ السَّلامُ بنَحوِ ألفِ عام. وقالتِ النَّصارَى: المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ ابنُ الله، سُبحانَهُ وتعالى. فهذا قولُهمْ بألسنتِهمْ مِنْ غَيرِ أنْ يَعْضُدَهُ برهانٌ ولا مُستنَد، ولا يُصَدِّقَهُ عَقل، بلْ هوَ كَذِبٌ افترَوْهُ واختَلَقوهُ مِنْ عندِهمْ جَهلاً وعِناداً، يُشابِهونَ بذلكَ قولَ المشرِكينَ مِنْ قَبل، الذينَ قالوا إنَّ الملائكةٌ بَناتُ الله! لعنَهمُ اللهُ وأهلكَهم، كيفَ يُصْرَفونَ عنِ الحقِّ والأدلَّةُ عليهِ ظاهِرَه، ويَنصرِفونَ إلى الضَّلالِ والأدلَّةُ على بُطلانهِ واضِحة؟! قدْ تشابَهتْ قُلوبُهمْ في الكفرِ والبُطلان.

﴿اتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالۡمَسِيحَ ابۡنَ مَرۡيَمَ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُوٓاْ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗاۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾ [التوبة:31]


ومِنْ كُفرِ أهلِ الكتابِ أنَّهمُ اتَّخَذوا عُلماءَهمْ ورؤساءَهمْ أرباباً يعبدونَهمْ مِنْ دونِ الله، بأنْ أطاعوهُمْ في تَحريمِ ما أحلَّ اللهُ وتَحليلِ ما حرَّمهُ.

وعندما قالَ عَدِيُّ بنُ حاتمٍ لرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ اليهودَ والنصارَى لم يَعبدوا أحبارَهمْ ورُهبانَهم، قالَ لهُ عليهِ الصلاةُ والسلام: "بلى، إنَّهمْ حرَّموا عليهمُ الحلال، وأحلُّوا لهمُ الحرام، فاتَّبعوهم، فذلكَ عبادتُهمْ إيَّاهم".

وهذا تَفسيرُ نبيِّ اللهِ لمعنَى العِبادة، ولبيانِ أحَدِ أنواعِ الكُفرِ والشِّرك، فليُقَسْ عليهِ ما هوَ مِنْ مثلِه، منْ أوامرَ وأحكامٍ مُخالِفةٍ للقُرآنِ والسنَّة. وهي كثيرةٌ في عَصرِنا.

وكذا جعلَ النصارَى نبيَّ اللهِ عيسى بنَ مريمَ ابناً لله، واتَّخذوهُ رباًّ يَعبدونَهُ معَه.

وقد أُمِرُوا على ألسنةِ الأنبياءِ، وفي الكتبِ المُنْزَلةِ منَ اللهِ عليهم، ألاّ يَعبدوا إلاّ إلهاً واحِداً، ولا يُطيعوا إلاّ أمرَه، فهوَ الذي يَشرَعُ فيُطاع، وإذا حلَّلَ شَيئاً فهوَ الحلال، وإذا حرَّمَ فهوَ الحرام، هوَ اللهُ الواحِدُ الأحَد، لا ربَّ سِواه، فلا يُعْبَدُ إلاّ هو، تَنـزَّهَ وتَقدَّسَ عنِ الشُّرَكاءِ والأولاد.

﴿يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِـُٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى اللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ الۡكَٰفِرُونَ﴾ [التوبة:32]


يُريدُ هؤلاءِ الكافِرون، منَ المشرِكينَ وأهلِ الكتاب، أنْ يُبطِلوا التَّوحيد، ويَردُّوا ما بُعِثَ بهِ رَسُولهُ مِنَ الهُدَى ودِينِ الحقّ، بجِدالِهمْ وأقاويلِهمُ الباطِلة، كما يسعَى أحدُهمْ لإطفاءِ نورِ الشَّمسِ أو القَمر، وسَوفَ ينشرُ اللهُ دينَهُ الحقّ، وتَصِلُ أنوارهُ إلى أنحاءِ الأرض، كما تصلُ إليها أشعَّةُ الشَّمس، ولو كَرِهَ ذلكَ الكافِرون، وحاولوا منعَهُ بما يستَطيعونَ مِنْ مالٍ وإعلام، وجُندٍ وسِلاح.

﴿هُوَ الَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِالۡهُدَىٰ وَدِينِ الۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ الۡمُشۡرِكُونَ﴾ [التوبة:33]


هوَ اللهُ الحقُّ الذي بعثَ نبيَّهُ محمَّداً صلى الله عليه وسلم بالقُرآنِ المُبِينِ لهِدايةِ الناس، وبالدِّينِ الثابتِ الصَّحيح، ليُعليَهُ على سَائرِ الأدْيان، بنَسخهِ إيّاها، والإبقاءِ عَلى الصَّحيح، ولو كَرِهَ ذلكَ أعداءُ الدِّين، ودَفعُوهُ بما يَقْدِرونَ عليه.

﴿۞يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ الۡأَحۡبَارِ وَالرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ النَّاسِ بِالۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِۗ وَالَّذِينَ يَكۡنِزُونَ الذَّهَبَ وَالۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ﴾ [التوبة:34]


أيُّها المؤمِنون، إنَّ كثيراً مِنْ عُلماءِ اليَهودِ والنَّصارَى يَتخلَّونَ عن أحكامِ دينِهمْ بقَبولِ أموالٍ محرَّمةٍ عليهمْ منَ الناس، فهمْ يأخذونَ الرشوَة، ويَقبَلونَ الهدايا، ويُغيِّرونَ لأصحابِها شرعَ اللهِ الحقّ، أو يخفِّفونَ أحكامَه عنهم، أو يُسامِحونَهمْ فيها، وهمْ يَمنعونَ الناسَ منِ اتِّباعِ دِينِ الله، بإثارةِ الشُّبهاتِ الباطلةِ حولَه، وبكَتْمِ ما أُمِروا بالتَّبشيرِ بهِ منْ مَبعثِ رسولِه، وتَحريفِ الأخبارِ حولَه، ويقولونَ إنَّهُ ليسَ النبيَّ المُبَشَّرَ به، وهمْ يَعرفُونَ أنَّ الصِّفاتِ الواردةَ فيهِ عندَهمْ مُنطَبِقةٌ عليهِ تماماً، ويَعرفونَ ذلكَ كما يَعرفونَ أبناءَهم.

والمقصود: التحذيرُ منْ عُلماءِ السُّوء، الذينَ يَعرفونَ الحقَّ ويَكتمونَه، أو يُحَرِّفونَه، فيَخونونَ اللهَ بذلك.

قالَ سُفيانُ بنُ عُيَيْنةَ رحمَهُ الله: مَنْ فَسَدَ مِنْ علمائنا كانَ فيهِ شِبْهٌ مِنْ اليهود، ومَنْ فَسَدَ مِنْ عُبّادِنا كانَ فيهِ شِبْهٌ منَ النصارَى.

والذينَ يجمَعونَ الأموال، مِنْ ذَهَبٍ وفِضَّةٍ ونُقود، ويَحْرِصونَ على حِفظِها عندَهم، ولا يَدفعونَ المستَحقّاتِ المترتِّبةَ عليها للفقراءِ واليتامَى والمُعوِزينَ كما حدَّدَهُ الشَّرع، فبشِّرهمْ بعِقابٍ شَديدٍ مؤلِم.

﴿يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ﴾ [التوبة:35]


في ذلكَ اليومِ الرَّهيب، تُوقَدُ النِّيرانُ الشَّديدةُ بجهنَّمَ على ما كنَـزوهُ منَ الذَّهبِ والفِضَّة، لتُكوَى بها جِباهُهمُ التي كانوا يَرفعونَها افتخاراً بالمال، ونواحيهمُ التي سَمِنتْ مِنَ الشِّبَع، وظُهورُهمُ التي أدارُوها للفُقَراء؛ إعراضاً عنهمْ وعنْ حُقوقِهم، ويُقالُ لهمْ تَبكيتاً وتَقريعاً: هذهِ هي نَتيجةُ ما كنَـزتُمْ لمنفَعةِ أنفسِكمْ ولم تُنفِقوها في سَبيلِ الله، فذوقوا جزاءَ ذلك، ولِيكونَ أعزُّ الأشياءِ عليكمْ في الدُّنيا، أضرَّها عليكمْ في الآخِرَة.

﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ اللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ الۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَاعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الۡمُتَّقِينَ﴾ [التوبة:36]


إنَّ عددَ شُهورِ السَّنةِ في حُكمِ الله، الذي أوجبَ على عِبادهِ الأخذَ به، هوَ اثنا عشرَ شَهراً - وهيَ الشُّهورُ القَمَريَّةُ المعرُوفةُ - كما في اللَّوحِ المحفوظ، منها أربعةُ أشهُرٍ حُرُم، هي: محرَّم، ورَجَب، وذو القَعْدَة، وذو الحِجَّة، ذلكَ هو الشَّرعُ المستَقيمُ الذي لا يُغَيَّرُ ولا يُبَدَّل، فلا تَظلِموا أنفُسَكم وتَعرِّضوها لعِقابِ الله بارتكابِ ما حُرِّمَ فيهنَّ، بلْ تكونُ مُدَّةَ سَلامٍ وأمان.

وقاتِلوا المشرِكينَ كلَّهم، فإنَّهم يقاتِلونَ المسلِمينَ جميعَهم ولا يستَثنونَ منهمْ أحداً، فهيَ معرَكةٌ بينَ الإيمانِ والشِّرك، وبينَ الحقِّ والباطِل. واعلمُوا أيُّها المسلِمونَ أنَّ اللهَ معَ عبادهِ المتَّقين بالوِلايةِ والنَّصر، فاتَّقوا اللهَ لتَفوزوا بذلك.

وأشهرُ الأقوالِ على أنَّ حُرمةَ القِتالِ في هذهِ الأشهرِ الأربعةِ مَنسوخة، بدلائلَ أخرَى، منها قولُهُ تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]. والله أعلم.

وتبقَى حُرمَةُ الأشهرِ المذكورةِ وارِدة، لارتباطِها بتوقيتِ الحجّ، ولأنَّ المعاصيَ والآثامَ فيها أبلغُ وأغلظ، ولِيبتعِدَ المسلِمونَ عنِ الزيادةِ والنقصِ فيها، كما في الآية التالية.

﴿إِنَّمَا النَّسِيٓءُ زِيَادَةٞ فِي الۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامٗا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامٗا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الۡكَٰفِرِينَ﴾ [التوبة:37]


إنَّما الزيادةُ في عددِ شُهورِ السَّنة، أو عددِ أيَّامها، كما كانَ يفعلُهُ العَربُ الجاهليُّون، لِيَستَحِلُّوا بها الحَرب، إنَّما هيَ زيادةٌ في الكُفرِ على كُفرِهم، ففيها إحلالٌ لِما حرَّمَ الله، ومخالَفةٌ لشَرعِه، وكُفرٌ في الاعتِقاد، يُضَلُّ بها المشرِكونَ على إضلالِهم، ويُخْدَعونَ بما فيها منْ تلاعُبٍ وتَحريف. يُحِلُّونَ الشهرَ المؤخَّرَ عاماً منَ الأعوام، ويحرِّمونَ مكانَهُ شهراً آخَرَ ممّا ليسَ بحرام، لِيوافِقوا بالشَّهرِ الحلالِ الذي حرَّموهُ ما كانَ حراماً منَ الأشهُرِ الأربعة، حتَّى يَدفَعوا عنْ أنفُسِهم إثمَ ما قَاموا بهِ منْ حَرب، بزعمِهم. ورأوا أنَّهمْ بذلكَ قامُوا بعَملٍ حسَن، وظنُّوا الانحرافَ استِقامة، والغِواية هِداية، واللهُ لا يَهدي منِ ابتعدَ عنْ دَلائلِ الهُدَى، وأصرَّ على الكُفر.

وكانوا في الجاهليَّةِ على أنحاء: منهمْ مَنْ يُسَمِّي المحرَّمَ صَفَراً فيُحِلُّ فيهِ القِتال، ويُحَرِّمُ القِتالَ في صَفَرَ ويُسَمِّيهِ المحرَّم، ومنهمْ مَنْ يجعلُ ذلكَ سَنةً هكذا وسَنةً هكذا...

﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى الۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِالۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا مِنَ الۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا فِي الۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة:38]


أيُّها المؤمِنون، ما لكمْ إذا قيلَ لكمُ اخرُجُوا إلى الجِهادِ في سَبيلِ الله، في غَزوةِ تَبوك، تباطأتُمْ وتكاسَلتُم، وكَرِهتُمْ مَشاقَّ الجِهادِ ومَتاعبَهُ في الحرّ، ومِلتُمْ إلى الإقامةِ والرَّاحة، والتمتُّعِ بالشَّهواتِ الدُّنيا والثِّمارِ الناضِجَة! (وكانتِ الغَزوةُ في وقتِ نُضوجِها). أرضِيتُمْ بالحياةِ الدُّنيا الفانيةِ منَ الآخِرَةِ ونَعيمِها الدائم؟ فإنَّ الاستِمتاعَ بالحياةِ الدُّنيا ولذائذِها بالنسبةِ إلى الحياةِ الأخرَى قليلٌ لا يُذكَر، وحقيرٌ لا يُعبَأ به.

﴿إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا وَيَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيۡـٔٗاۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ [التوبة:39]


وإذا لم تَخرُجوا إلى الجِهادِ الذي دعاكمْ إليهِ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فسَوفَ يعاقبُكمْ بهلاكٍ، أو قَحْطٍ، أو غَيرهِ منَ العُقوباتِ المؤلمةِ الشَّديدة، ويأتي اللهُ بقَومٍ أفضلَ منكمْ يجاهِدونَ معَ رسُولِه، فيُطيعونَهُ ويَنصُرونَه، ويُؤْثِرونَ الآخِرَةَ على الدُّنيا، ولنْ تضرُّوا اللهَ بتخلُّفِكمْ عنِ الجِهاد، فهوَ قادِرٌ على نَصرِ عِبادهِ مِنْ دونِكم، واللهُ لا يُعْجِزهُ شَيءٌ، فهو قادرٌ على هذا وغيرِه، لكنَّ الضَّررَ يعودُ عليكم.

﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي الۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الۡعُلۡيَاۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:40]


فإذا لم تَستَجيبوا لنِداءِ رسُولهِ إلى الجِهادِ وأبَيتُمْ نصرَه، فإنَّ اللهَ ناصِرُهُ ومُؤيِّدُه، كما تولَّى نَصرَهُ عندما تسبَّبَ الكفّارُ في إخراجهِ مِنْ مكَّة، فأذِنَ لهُ بالخُروجِ مِنْ بينِهمْ عامَ الهجرةِ إلى المدينة، ومعَهُ صاحِبُهُ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضيَ الله عنه، وكانَ يخافُ عليهِ منَ المشرِكين، الذينَ تتبَّعُوا أثرَهُ ليَقتُلوه، فقالَ لهُ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في الغارِ وهوَ يسكِّنهُ ويُثَبِّتهُ: "يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنَينِ اللهُ ثالثُهما"؟

فأنزلَ الله أمنَهُ وطُمَأنينتَهُ على رسُوله، وأيَّدَهُ بالملائكةِ يَحرُسونَهُ ويُثَبِّتونه، وأحبطَ تدبيرَ الكفّارِ ومَكْرَهم، وأفشلَ مؤامرتَهم في قتلِه، وجعلَ كلمتَهمُ التي اجتمَعوا عليها هي السُّفلَى والخاسِرَة، رَغمَ أنوفِهم، فنجّاهُ اللهُ وأبلغَهُ مأمَنه، ورجَعوا همْ خائبينَ خاسِرين، وكلمةُ اللهِ في الحقّ، والتوحيد، هيَ العُليا، لا تَنْزِل، ولا يَعلُو عَليها شَيء، فالحقُّ لا يتغيَّر، والصَّحيحُ لا يكونُ باطلاً.

واللهُ عَزيزٌ في انتِقامهِ لا يُغالَب، حكيمٌ فيما يأمرُ ويدبِّر، لا يُراجَعُ فيه.

﴿انفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا وَجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [التوبة:41]


اخرجُوا إلى الجِهادِ على أيِّ حالٍ كنتُم، شَباباً وكُهولاً، فُقَراءَ وأغنِياء، في نَفيرٍ عامٍّ دعا إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمُقاتلةِ الرُّوم. وجاهِدوا بما عندكمْ مِنْ مال، مِنْ شِراءِ السِّلاحِ وتَزويدِ المجاهِدينَ به، وبأنفسِكمْ تَبيعونَها لله، فهوَ خَيرٌ لكمْ عندَ ربِّكمْ عاقبةً ومآلاً.

وذكرَ بعضُ المفسِّرينَ أنَّ هذهِ الآية مَنسوخة، ورُدَّ أنَّ هذا يخصُّ النفيرَ العَام.

﴿لَوۡ كَانَ عَرَضٗا قَرِيبٗا وَسَفَرٗا قَاصِدٗا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنۢ بَعُدَتۡ عَلَيۡهِمُ الشُّقَّةُۚ وَسَيَحۡلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسۡتَطَعۡنَا لَخَرَجۡنَا مَعَكُمۡ يُهۡلِكُونَ أَنفُسَهُمۡ وَاللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ﴾ [التوبة:42]


لو كانَ ما دَعوتَهمْ إليهِ أيُّها النبيُّ غَنيمةً قريبةَ المَنال، وسَفَراً هيِّناً غيرَ بَعيد، لخرجَ معكَ الذينَ استأذَنوا مِنكَ وأظهَروا أنَّهمْ ذَوُو أعذارٍ في غَزوةِ تبوك، ولكنْ لمّا بَعُدَتْ عليهمُ المسافةُ - إلى الشَّامِ - اعتَذروا.

وسيحلِفُ هؤلاءِ المتخلِّفونَ باللهِ كَذِباً ويَقولون: لو قَدَرْنا على المجيءِ لخرَجنا معَكمْ إلى الجِهاد، يُهلِكونَ أنفسَهمْ بهذهِ اليمينِ الكاذِبةِ التي تَجرُّهمْ إلى العَذاب، واللهُ يَعلَمُ أنَّهمْ كاذبونَ في حَلِفِهم هذا.

﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعۡلَمَ الۡكَٰذِبِينَ﴾ [التوبة:43]


عفا اللهُ عنكَ أيُّها النبيّ، لأيِّ سَببٍ أذِنْتَ لهؤلاءِ الحالِفينَ بالتخلُّفِ عن الجِهادِ حينَ اعتَذَروا بعَدمِ الاستِطاعَة؟ هلاّ انتظرتَ وتأكَّدتَ منْ ذلكَ حتَّى يَنجليَ لكَ الأمرُ وتَنكشِفَ الحال، فتَعرِفَ مَنْ صَدَقَ في الاعتِذارِ ممَّنْ كَذَب؟!

﴿لَا يَسۡتَـٔۡذِنُكَ الَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۗ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالۡمُتَّقِينَ﴾ [التوبة:44]


لا يستأذِنُكَ في القُعودِ عنِ الغَزوِ المؤمِنونَ باللهِ واليومِ الآخِر، لأنَّهم يَرونَ الجِهادَ قُربة، وفُرصةً لإثباتِ شوقِهمْ إلى الشَّهادة، فيُبادِرونَ إلى بذلِ أموالِهم وفِداءِ أنفسِهمْ في سَبيلِ الله، واللهُ عليمٌ بمَنْ يخشونَهُ ويَطلبونَ رِضاهُ مِنْ عبادِه.

﴿إِنَّمَا يَسۡتَـٔۡذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِ وَارۡتَابَتۡ قُلُوبُهُمۡ فَهُمۡ فِي رَيۡبِهِمۡ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة:45]


إنَّما يستأذِنُكَ في التخلُّفِ عنِ الجهادِ ممَّنْ لا عُذْرَ لهم، الذينَ لا يؤمِنونَ بالله، ولا يَرجُونَ ثوابَهُ في الدَّارِ الآخِرَة، وشكَّتْ قلوبُهم في صحَّةِ ما جئتَهمْ به، فهمْ في شَكِّهمْ مُتحيِّرونَ مُضطَرِبون.

﴿۞وَلَوۡ أَرَادُواْ الۡخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُۥ عُدَّةٗ وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِيلَ اقۡعُدُواْ مَعَ الۡقَٰعِدِينَ﴾ [التوبة:46]


ولو أرادَ المتخلِّفونَ الخُروجَ معكَ إلى الجِهاد، لتأهَّبوا لذلكَ وأعدُّوا الرَّاحلةَ والسِّلاحَ وما يَحتاجُ إليهِ المقاتِل، ولكنْ كَرِهَ اللهُ أنْ يَخرَجوا مَعكَ لمعرفتهِ بحَقيقةِ ما همْ عليه، فعوَّقهمْ وأخَّرهم، وقيلَ لهم: اقعُدوا أيُّها الجُبَناءُ الكاذِبونَ معَ مَنْ لا يَقْدِرونَ على الجِهاد، كالنِّساءِ والصِّبيانِ والمعوَّقين.

﴿لَوۡ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالٗا وَلَأَوۡضَعُواْ خِلَٰلَكُمۡ يَبۡغُونَكُمُ الۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّـٰعُونَ لَهُمۡۗ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالظَّـٰلِمِينَ﴾ [التوبة:47]


ولو أنَّ هؤلاءِ المعتذِرينَ المتخلِّفينَ خَرجوا مُخالِطينَ لصفوفِكم، لمَا زَادوكمْ إلاّ عَجْزاً وجُبْناً، وشرّاً وفَساداً، وغَدْراً ومَكرا، لأنَّهمْ جُبناءُ مَخذولون، غيرُ أوفياءَ ولا مُخلِصون، ولمَشَوا بينَكمْ بالفِتنةِ والنَّمِيمَةِ فأوقَعوا الخِلافَ بينكم، وبَثُّوا الشَّائعاتِ في صُفوفِكم، وهوَّلوا أمرَ العَدوِّ في قُلوبِكمْ لتَخافوهم، وفيكمْ منَ الضَّعَفةِ مَنْ يَقبلُ حديثَهمْ ويُصَدِّقونَهم، ويَستَحسِنونَ حديثَهمْ ويُطيعونَهم، واللهُ عليمٌ بهؤلاءِ المتخلِّفين الظَّالمين، محيطٌ بظَواهرِهمْ وبواطنِهم، وقدْ أخبرَكمْ عنْ حالِهم.

﴿لَقَدِ ابۡتَغَوُاْ الۡفِتۡنَةَ مِن قَبۡلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الۡأُمُورَ حَتَّىٰ جَآءَ الۡحَقُّ وَظَهَرَ أَمۡرُ اللَّهِ وَهُمۡ كَٰرِهُونَ﴾ [التوبة:48]


لقدْ سبقَ أنْ حاولَ المنافِقونَ الإضرارَ بكَ وبالمسلِمين، عندما فَتَنوهمْ عنْ دينِهم وصَدُّوهمْ عنِ الإسْلام، وعندما رجعَ رأسُ المنافِقينَ بأصحابهِ يَومَ أُحُد، وغيرُ ذلكَ منْ مواقفِهمُ الدنيَّةِ التي تدُلُّ على خِيانتِهم، منْ خلالِ مَكايدِهم، وتَفريقِ أصحابِكَ عنك، لإبطالِ أمرِك، حتَّى جاءَ نصرُ الله، وغَلَبَ دينُه، وعَلا شرعُه، على رَغمِ أنوفِهم، وهمْ كارِهونَ لذلك، مُبغِضونَ له.

﴿وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ ائۡذَن لِّي وَلَا تَفۡتِنِّيٓۚ أَلَا فِي الۡفِتۡنَةِ سَقَطُواْۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُۢ بِالۡكَٰفِرِينَ﴾ [التوبة:49]


ومنَ المنافِقينَ مَنْ يَستأذِنُ منكَ للقُعودِ عنِ الجِهادِ ضدَّ الرُّوم، ويقولُ في سبَبِ ذلك: متَى أرَى نساءَ الرومِ أفتَتِن، فأْذَنْ لي ولا تَفْتِنِّي. لقدْ سقطَ هؤلاءِ وأمثالُهمْ في الفِتنَةِ عندما قدَّموا اعتِذاراتٍ كاذبةً وتخلَّفوا عنِ الجِهاد، وإنَّ أعمالَهم تدلُّ على أنَّ جهنَّم تنتَظِرُهم، لتَجمَعَهمْ فيها وتُسْعَرَ بهم.

﴿إِن تُصِبۡكَ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡۖ وَإِن تُصِبۡكَ مُصِيبَةٞ يَقُولُواْ قَدۡ أَخَذۡنَآ أَمۡرَنَا مِن قَبۡلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمۡ فَرِحُونَ﴾ [التوبة:50]


ومنْ ظَاهرِ عَداوةِ المنافِقين، أنَّ اللهَ إذا قدَّرَ لكَ نَصراً وغَنيمةً في غَزوة، ساءَهمْ ذلكَ وحَزِنوا؛ لحَسدِهم وعداوتِهم للإسْلام، وإذا قدَّر عليكَ شِدَّةً قالوا: قدْ احتَطنا لذلكَ وأخذنا حَذَرَنا فقَعَدنا عنِ الغَزو، ولولا ذلكَ لأصابَنا ما أصابَهم، ثمَّ يَنصرِفونَ وهمْ مَسرُورونَ بما حلَّ بالمسلِمين!

﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ الۡمُؤۡمِنُونَ﴾ [التوبة:51]


قُلْ لهمْ أيُّها النبيُّ الكريم: لنْ يصِيبَنا شَيءٌ أبداً إلاّ ما قدَّرَهُ اللهُ علينا، فنحنُ تحتَ مَشيئتهِ وإرادتِه، لا يتغيَّرُ أمرٌ بمُوافقتِكمْ ومُخالفتِكم، وبمشاركتِكمْ وانسحابِكم، فهو ناصِرُنا وحافِظنُا، ومَلجَؤنا وسيِّدُ أمورِنا، وعلى اللهِ وحدَهُ فليَعتَمدِ المؤمِنون، فهوَ حسبُهمْ ونعمَ الوَكيل.

﴿قُلۡ هَلۡ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحۡدَى الۡحُسۡنَيَيۡنِۖ وَنَحۡنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمۡ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنۡ عِندِهِۦٓ أَوۡ بِأَيۡدِينَاۖ فَتَرَبَّصُوٓاْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة:52]


وقُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: هلْ تنتَظِرونَ بنا أيُّها المنافِقون، إمّا الشَّهادة، وإمّا النَّصرَ على الأعداء، ونحنُ ننتَظِرُ بكمْ أحدَ العَذابين: إمّا أنْ يُهلِكَكمُ اللهُ كما أهلكَ أُمماً سابِقة، وإمّا أنْ يعذِّبَكمْ بأيدينا بالقَتلِ والأسرِ والسَّبي، فانتظِروا، إنّا معكمْ مُنتَظِرون، ولنْ تَجِدوا إلاّ ما يَسُرُّنا ويُحزِنُكم.

﴿قُلۡ أَنفِقُواْ طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمۡ إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ﴾ [التوبة:53]


قُلْ لهم: أنفِقوا أموالَكمْ في متطلَّباتِ الغَزوِ طائعينَ أو كارِهين، فلنْ يَقبلَ اللهُ ذلكَ منكمْ ولنْ يُثيبَكمْ عليهِ في الحالَين، فقدْ كنتُمْ مُتمرِّدينَ خارِجينَ عنِ الطَّاعة، رافِضينَ لحُكمِ اللهِ ورَسولِه.

﴿وَمَا مَنَعَهُمۡ أَن تُقۡبَلَ مِنۡهُمۡ نَفَقَٰتُهُمۡ إِلَّآ أَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِۦ وَلَا يَأۡتُونَ الصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمۡ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمۡ كَٰرِهُونَ﴾ [التوبة:54]


وما مَنعَ قَبولَ نَفقاتِهمْ شَيءٌ منَ الأشياءِ إلا كفرُهمْ باللهِ وتكذيُبهمْ رسولَه، ولا تُقبَلُ الأعمالُ إلاّ بالإيمانِ الصَّحيح، وهمْ لا يأتونَ الصَّلاةَ المفْروضةَ عليهمْ في حالٍ منَ الأحوالِ إلاّ وهمْ مُتثاقِلون، لأنَّهمْ لا يَرجُونَ على أدائها ثَواباً، ولا يَخافونَ على تَركِها عِقاباً، ولا يُنفقِونَ نفَقةً في الجِهادِ وغَيرهِ إلاّ وهمْ كارِهونَ لذلك، لأنَّهمْ يَعُدُّونَهُ خَسارةً لا مَغنماً، ولا يَقبلُ اللهُ الأعمالَ إلاّ عنْ طِيبِ نَفسٍ وعَقيدةٍ صَحِيحَة.

﴿فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ﴾ [التوبة:55]


فلا يَرُقْكَ شَيءٌ مِنْ أموالِهم ولا أولادِهم، ولا تَستحسِنْ ذلكَ منهم، فإنَّما هوَ استِدراجٌ منَ اللهِ لهم، ليَكونَ ذلكَ كلُّه وَبالاً عليهم، وعِقاباً لهمْ في الدُّنيا، مِنْ تَعَبٍ في جَمعِه، وكَدٍّ في تَحصِيله، ونَفقَةٍ منهُ للزَّكاةِ والجِهاد، دونَ أنْ يُثابوا عليه، ومَقتَلِ أولادٍ لهمْ في الغَزو، وهمْ لا يَعتَقِدونَ استِشهادَهمْ ولا احتِسابَهمْ واللِّقاءَ بهمْ في اليَومِ الآخِر، فيَكونُ كلُّ ذلكَ حَسرةً عليهم، وتَعذيباً نفسيّاً لهم، وأكثرَ إيلامًا لهم، ولتخَرُجَ أرواحُهم ويموتُوا على كُفرِهم(49).

(49) {وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ}: يعني وتخرجَ أنفسُهم، فيموتوا على كفرهم بالله، وجحودِهم نبوَّةَ نبيِّ الله محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم. (الطبري). أصلُ الزهوق: خروجُ الشيءِ بصعوبة. أي: فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتعِ عن النظرِ في العاقبة، فيكونُ ذلك لهم نقمةً لا نعمة. (روح البيان). الزهوق: الخروجُ بشدَّةٍ وضيق، وقد شاعَ ذكرهُ في خروجِ الروحِ من الجسد. (التحرير والتنوير).

﴿وَيَحۡلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمۡ لَمِنكُمۡ وَمَا هُم مِّنكُمۡ وَلَٰكِنَّهُمۡ قَوۡمٞ يَفۡرَقُونَ﴾ [التوبة:56]


ويَحلِفُ المنافِقونَ حَلِفاً مؤكَّداً أنَّهمْ على دينِكمْ ومُسلِمونَ مثلَكم، وقدْ كذَبوا، فما همْ منكم، ولكنَّهمْ جماعةٌ يَخافونَ أنْ يُظهِروا حَقيقةَ ما همْ عليهِ منَ الكُفرِ والنِّفاق، حتَّى لا تُعامِلوهمْ معاملةَ المشرِكينَ وتَقتُلوهم، فيُعلِنونَ إسلامَهم كَذِباً، ويؤيِّدونَهُ باليَمينِ الكاذِبَة.

﴿لَوۡ يَجِدُونَ مَلۡجَـًٔا أَوۡ مَغَٰرَٰتٍ أَوۡ مُدَّخَلٗا لَّوَلَّوۡاْ إِلَيۡهِ وَهُمۡ يَجۡمَحُونَ﴾ [التوبة:57]


ولو أنَّهم وجَدوا حِصناً يَتحَصَّنونَ به، أو مَغاراتٍ في الجِبالِ يُخْفُونَ أنفسَهم فيها، أو أنفاقاً في الأرضِ يَدخلونَها، لصَرَفوا وجوهَهمْ عنكمْ وأقبَلوا إليها وهمْ يُسرِعون، لا يَلتفِتونَ إلى شَيء.

يَعني: لو يَجدونَ مَخْلَصاً منكمْ ومَهْرَباً لفارَقوكم، فهمْ لا يوَدُّون مخالطتَكم، لأنَّهمْ ليسُوا منكم.