أيُّها المؤمِنون، إنَّ المشرِكينَ قَذِرون، لا يتطهَّرونَ ولا يَغتسِلون، ولا يتجنَّبونَ النجاسات، وهمْ فاسِدو العقيدةِ خَبيثو الباطن، فلا تَسمَحوا لهمْ بالاقترابِ منَ المسجدِ الحرامِ بعدَ هذا العام، التاسعِ للهجرة.
وفي صَحيحِ البُخاريِّ وغيرِهِ - واللفظُ لهُ - قولُ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه، إنَّ أبا بكرٍ الصدِّيقَ رضيَ اللهُ عنهُ بعثَهُ في الحَجَّةِ التي أمَّرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليها قبلَ حَجَّة الوداع، يومَ النَّحر، في رَهْط، يؤذِّنُ في الناس: أنْ لا يَحُجَّ بعدَ العامِ مُشرِك، ولا يَطوفَنَّ بالبَيتِ عُريان. اهـ.
وإذا خَشِيتُمْ فَقْراً وفاقةً بسببِ منعِ المشرِكينَ مِنْ ذلك، حيثُ كانوا يَجْلُبونَ معهمْ إلى مكَّةَ العُروضَ والأطعِمةَ للتِّجارة، فيَتبادلونَ معهمُ التِّجارة، ويشتَرونَ منهمُ الأطعِمة، إذا خشيتُمْ ذلك، فإنَّ اللهَ يُغنيكمْ عنْ ذلك، ويتفضَّلُ عليكمْ بالرِّزقِ منْ أبوابٍ أخرى، بالمطر، وفتحِ البلاد، والغنائم، وعائدِ الجِزية، وما إليه، إنْ شاءَ سُبحانه، وهوَ عليمٌ بأحوالِكمْ ومصالِحِكم، حَكيمٌ في أمرهِ وعَطائهِ ومَنعه، فيُعطي ما يَشاءُ لمنْ يَشاء. وقدْ حقَّقَ اللهُ لهمْ ذلك، فأنعمَ وتفَضَّل.
هوَ اللهُ الحقُّ الذي بعثَ نبيَّهُ محمَّداً صلى الله عليه وسلم بالقُرآنِ المُبِينِ لهِدايةِ الناس، وبالدِّينِ الثابتِ الصَّحيح، ليُعليَهُ على سَائرِ الأدْيان، بنَسخهِ إيّاها، والإبقاءِ عَلى الصَّحيح، ولو كَرِهَ ذلكَ أعداءُ الدِّين، ودَفعُوهُ بما يَقْدِرونَ عليه.
في ذلكَ اليومِ الرَّهيب، تُوقَدُ النِّيرانُ الشَّديدةُ بجهنَّمَ على ما كنَـزوهُ منَ الذَّهبِ والفِضَّة، لتُكوَى بها جِباهُهمُ التي كانوا يَرفعونَها افتخاراً بالمال، ونواحيهمُ التي سَمِنتْ مِنَ الشِّبَع، وظُهورُهمُ التي أدارُوها للفُقَراء؛ إعراضاً عنهمْ وعنْ حُقوقِهم، ويُقالُ لهمْ تَبكيتاً وتَقريعاً: هذهِ هي نَتيجةُ ما كنَـزتُمْ لمنفَعةِ أنفسِكمْ ولم تُنفِقوها في سَبيلِ الله، فذوقوا جزاءَ ذلك، ولِيكونَ أعزُّ الأشياءِ عليكمْ في الدُّنيا، أضرَّها عليكمْ في الآخِرَة.
إنَّ عددَ شُهورِ السَّنةِ في حُكمِ الله، الذي أوجبَ على عِبادهِ الأخذَ به، هوَ اثنا عشرَ شَهراً - وهيَ الشُّهورُ القَمَريَّةُ المعرُوفةُ - كما في اللَّوحِ المحفوظ، منها أربعةُ أشهُرٍ حُرُم، هي: محرَّم، ورَجَب، وذو القَعْدَة، وذو الحِجَّة، ذلكَ هو الشَّرعُ المستَقيمُ الذي لا يُغَيَّرُ ولا يُبَدَّل، فلا تَظلِموا أنفُسَكم وتَعرِّضوها لعِقابِ الله بارتكابِ ما حُرِّمَ فيهنَّ، بلْ تكونُ مُدَّةَ سَلامٍ وأمان.
أيُّها المؤمِنون، ما لكمْ إذا قيلَ لكمُ اخرُجُوا إلى الجِهادِ في سَبيلِ الله، في غَزوةِ تَبوك، تباطأتُمْ وتكاسَلتُم، وكَرِهتُمْ مَشاقَّ الجِهادِ ومَتاعبَهُ في الحرّ، ومِلتُمْ إلى الإقامةِ والرَّاحة، والتمتُّعِ بالشَّهواتِ الدُّنيا والثِّمارِ الناضِجَة! (وكانتِ الغَزوةُ في وقتِ نُضوجِها). أرضِيتُمْ بالحياةِ الدُّنيا الفانيةِ منَ الآخِرَةِ ونَعيمِها الدائم؟ فإنَّ الاستِمتاعَ بالحياةِ الدُّنيا ولذائذِها بالنسبةِ إلى الحياةِ الأخرَى قليلٌ لا يُذكَر، وحقيرٌ لا يُعبَأ به.
وإذا لم تَخرُجوا إلى الجِهادِ الذي دعاكمْ إليهِ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فسَوفَ يعاقبُكمْ بهلاكٍ، أو قَحْطٍ، أو غَيرهِ منَ العُقوباتِ المؤلمةِ الشَّديدة، ويأتي اللهُ بقَومٍ أفضلَ منكمْ يجاهِدونَ معَ رسُولِه، فيُطيعونَهُ ويَنصُرونَه، ويُؤْثِرونَ الآخِرَةَ على الدُّنيا، ولنْ تضرُّوا اللهَ بتخلُّفِكمْ عنِ الجِهاد، فهوَ قادِرٌ على نَصرِ عِبادهِ مِنْ دونِكم، واللهُ لا يُعْجِزهُ شَيءٌ، فهو قادرٌ على هذا وغيرِه، لكنَّ الضَّررَ يعودُ عليكم.
فإذا لم تَستَجيبوا لنِداءِ رسُولهِ إلى الجِهادِ وأبَيتُمْ نصرَه، فإنَّ اللهَ ناصِرُهُ ومُؤيِّدُه، كما تولَّى نَصرَهُ عندما تسبَّبَ الكفّارُ في إخراجهِ مِنْ مكَّة، فأذِنَ لهُ بالخُروجِ مِنْ بينِهمْ عامَ الهجرةِ إلى المدينة، ومعَهُ صاحِبُهُ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضيَ الله عنه، وكانَ يخافُ عليهِ منَ المشرِكين، الذينَ تتبَّعُوا أثرَهُ ليَقتُلوه، فقالَ لهُ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في الغارِ وهوَ يسكِّنهُ ويُثَبِّتهُ: "يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنَينِ اللهُ ثالثُهما"؟
فأنزلَ الله أمنَهُ وطُمَأنينتَهُ على رسُوله، وأيَّدَهُ بالملائكةِ يَحرُسونَهُ ويُثَبِّتونه، وأحبطَ تدبيرَ الكفّارِ ومَكْرَهم، وأفشلَ مؤامرتَهم في قتلِه، وجعلَ كلمتَهمُ التي اجتمَعوا عليها هي السُّفلَى والخاسِرَة، رَغمَ أنوفِهم، فنجّاهُ اللهُ وأبلغَهُ مأمَنه، ورجَعوا همْ خائبينَ خاسِرين، وكلمةُ اللهِ في الحقّ، والتوحيد، هيَ العُليا، لا تَنْزِل، ولا يَعلُو عَليها شَيء، فالحقُّ لا يتغيَّر، والصَّحيحُ لا يكونُ باطلاً.
واللهُ عَزيزٌ في انتِقامهِ لا يُغالَب، حكيمٌ فيما يأمرُ ويدبِّر، لا يُراجَعُ فيه.
اخرجُوا إلى الجِهادِ على أيِّ حالٍ كنتُم، شَباباً وكُهولاً، فُقَراءَ وأغنِياء، في نَفيرٍ عامٍّ دعا إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمُقاتلةِ الرُّوم. وجاهِدوا بما عندكمْ مِنْ مال، مِنْ شِراءِ السِّلاحِ وتَزويدِ المجاهِدينَ به، وبأنفسِكمْ تَبيعونَها لله، فهوَ خَيرٌ لكمْ عندَ ربِّكمْ عاقبةً ومآلاً.
لو كانَ ما دَعوتَهمْ إليهِ أيُّها النبيُّ غَنيمةً قريبةَ المَنال، وسَفَراً هيِّناً غيرَ بَعيد، لخرجَ معكَ الذينَ استأذَنوا مِنكَ وأظهَروا أنَّهمْ ذَوُو أعذارٍ في غَزوةِ تبوك، ولكنْ لمّا بَعُدَتْ عليهمُ المسافةُ - إلى الشَّامِ - اعتَذروا.
وسيحلِفُ هؤلاءِ المتخلِّفونَ باللهِ كَذِباً ويَقولون: لو قَدَرْنا على المجيءِ لخرَجنا معَكمْ إلى الجِهاد، يُهلِكونَ أنفسَهمْ بهذهِ اليمينِ الكاذِبةِ التي تَجرُّهمْ إلى العَذاب، واللهُ يَعلَمُ أنَّهمْ كاذبونَ في حَلِفِهم هذا.
إنَّما يستأذِنُكَ في التخلُّفِ عنِ الجهادِ ممَّنْ لا عُذْرَ لهم، الذينَ لا يؤمِنونَ بالله، ولا يَرجُونَ ثوابَهُ في الدَّارِ الآخِرَة، وشكَّتْ قلوبُهم في صحَّةِ ما جئتَهمْ به، فهمْ في شَكِّهمْ مُتحيِّرونَ مُضطَرِبون.
فلا يَرُقْكَ شَيءٌ مِنْ أموالِهم ولا أولادِهم، ولا تَستحسِنْ ذلكَ منهم، فإنَّما هوَ استِدراجٌ منَ اللهِ لهم، ليَكونَ ذلكَ كلُّه وَبالاً عليهم، وعِقاباً لهمْ في الدُّنيا، مِنْ تَعَبٍ في جَمعِه، وكَدٍّ في تَحصِيله، ونَفقَةٍ منهُ للزَّكاةِ والجِهاد، دونَ أنْ يُثابوا عليه، ومَقتَلِ أولادٍ لهمْ في الغَزو، وهمْ لا يَعتَقِدونَ استِشهادَهمْ ولا احتِسابَهمْ واللِّقاءَ بهمْ في اليَومِ الآخِر، فيَكونُ كلُّ ذلكَ حَسرةً عليهم، وتَعذيباً نفسيّاً لهم، وأكثرَ إيلامًا لهم، ولتخَرُجَ أرواحُهم ويموتُوا على كُفرِهم(49).
(49) {وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ}: يعني وتخرجَ أنفسُهم، فيموتوا على كفرهم بالله، وجحودِهم نبوَّةَ نبيِّ الله محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم. (الطبري). أصلُ الزهوق: خروجُ الشيءِ بصعوبة. أي: فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتعِ عن النظرِ في العاقبة، فيكونُ ذلك لهم نقمةً لا نعمة. (روح البيان). الزهوق: الخروجُ بشدَّةٍ وضيق، وقد شاعَ ذكرهُ في خروجِ الروحِ من الجسد. (التحرير والتنوير).
ولو أنَّهم وجَدوا حِصناً يَتحَصَّنونَ به، أو مَغاراتٍ في الجِبالِ يُخْفُونَ أنفسَهم فيها، أو أنفاقاً في الأرضِ يَدخلونَها، لصَرَفوا وجوهَهمْ عنكمْ وأقبَلوا إليها وهمْ يُسرِعون، لا يَلتفِتونَ إلى شَيء.
يَعني: لو يَجدونَ مَخْلَصاً منكمْ ومَهْرَباً لفارَقوكم، فهمْ لا يوَدُّون مخالطتَكم، لأنَّهمْ ليسُوا منكم.