ومنهمْ مَنْ يَعيبُ عليكَ في تَقسيمِ الصَّدَقات، ويَطعَنُ عليكَ في تَوزيعِها، لا لسبَبٍ سِوَى مَصلحتِهمُ الماليَّة، فإذا أعطيتَهمْ مِنْ تلكَ الصَّدَقاتِ قَدْرَ ما يُريدونَ رَضُوا وفَرِحوا وشَكروا لك، وإذا لم تُعطِهمْ منها غَضِبوا ولم يَستَحسِنوا فِعلَك.
وفي صَحيحِ البُخاريِّ ما يُفيدُ أنَّ هذهِ الآيةَ نزَلتْ في "خارِجيٍّ" قال: اعْدِلْ يا رَسولَ الله. وتَفصِيلهُ في "فتحِ الباري".
ولمَنْ تُجْمَعُ قلوبُهم ليُسلِموا، أو يَثْبُتوا على إسلامِهم.
وفي فكِّ رِقابِ العَبيدِ ليُصبِحوا أحراراً، وهمْ لا يَقْدِرونَ على دفعِ ما يَلزَمُهمْ لأسيادِهمْ لأجلِ ذلك. وذكرَ بعضُهم أنَّ المقصودَ أُسارَى المسلِمين.
والصِّنفُ السادِسُ همُ الذينَ عليهمْ دَين.
وللغُزاةِ في سَبيلِ الله، يُعْطَونَ الزَّكاةَ إذا أرادوا الخروجَ إلى الجهادِ ليستَعينوا بها على أمرِ الغَزو، ولو كانوا أغنياء.
وللمُنقَطعِ في سفَرِه.
وهذا التقسيمُ واجِبٌ فرَضَهُ الله، وهوَ عَليمٌ بأحوالِ الناسِ ومَصالحِهمْ ومُستَحقّاتهم، حَكيمٌ فيما يُقَسِّمُ ويُقَدِّر ويُشَرِّع.
وهؤلاءِ المنافِقونَ يَحلِفونَ باللهِ آكدَ الحَلِف، ويُبدونَ ما يَتذرَّعونَ بهِ مِنْ أعذار، بأنَّهمْ ما نَطقوا بكُفرٍ، ولا آذَوا بلِسان، ولا اجتَمَعوا على شَرّ، ولا همُّوا بفَساد، ليُرضُوكمْ بذلك. واللهُ ورسولُهُ أحقُّ بالإرضاءِ مِنْ غيره(50)، منَ الإيمانِ بالقَلب، والصِّدقِ في القَول، والطَّاعةِ في المَنشَطِ والمَكرَه، والتَّسليمِ بالأمر، إنْ كانوا مؤمِنينَ إيماناً صادقاً في الظَّاهرِ والباطِن، فإنَّ هذا يَقودُهمْ إلى إرضاءِ اللهِ ورَسوله.
(50) {يُرْضُوهُ}: إما للتعظيمِ للجنابِ الإلهيِّ بإفرادهِ بالذكر، أو لكونهِ لا فرقَ بين إرضاءِ الله وإرضاءِ رسوله، فإرضاءُ الله إرضاءٌ لرسوله، أو المراد: الله أحقُّ أن يُرضوهُ ورسولهُ كذلك، كما قالَ سيبويه، ورجَّحَهُ النحاس، أو لأن الضميرَ موضوعٌ موضعَ اسمِ الإشارة، فإنه يشارُ به إلى الواحدِ والمتعدِّد، أو الضميرُ راجعٌ إلى المذكور، وهو يصدقُ عليهما. وقالَ الفرّاء: المعنى: ورسولهُ أحقُّ أن يُرضوه. (فتح القدير).
ألم يعلَموا أنَّ الذي يُخالِفُ أمرَ اللهِ تعالَى وأمرَ رَسولهِ صلى الله عليه وسلم، يَكونُ هوَ في حَدٍّ والإسلامُ في حَدّ، فيُعادي ويُشاقِقُ الإسلامَ مِنْ هذا المُنطَلَق؟ سيَكونُ عقابَهُ نارُ جهنَّم، مُستقِرًّا فيها أبداً، مع ذُلٍّ وهوانٍ وشَقاءٍ مُلازمٍ له.
والمنافِقونَ يَخشَوْنَ أنْ تُنَـزَّلَ سُورةٌ منَ القُرآنِ في شَأنِهم، تَفضَحُهمْ وتبيِّنُ ما في قُلوبِهمْ منَ الأسْرار، وما يَتداولونَهُ بينَهمْ منْ أقاويلِ الكُفرِ والنِّفاق، فقلْ لهم: استَهزِؤوا بما أنتُمْ مُستَهزِؤونَ به، وأسِرُّوا أقوالَكمْ حتَّى لا يَطَّلِعَ عليها أحَد، فإنَّ اللهَ سيُنـزِلُ على رَسولهِ ما يَفضَحُكم به، ويبيِّنُ لهُ أمرَكم.
لا تَستَمِرُّوا في الاعتِذارِ أيُّها المنافِقون، فقدْ بدا منكمْ ما كنتُمْ تَحْرِصونَ على كَتْمِه، حيثُ أظهرتُمُ الكُفرَ باستِهزائكمْ وإيذائكمُ الرسُولَ صلى الله عليه وسلم بعدَ إظهارِكمُ الإيمان، وإنْ نَتُبْ على جَماعةٍ منكمْ لتَوبتِهمْ أو تجنُّبهمُ الاستِهزاء، فإنَّنا سنُعاقِبُ جَماعةً منكمْ لاستِمرارِهمْ في الاستِهزاء، وبَقائهمْ مُصِرِّينَ على النِّفاق.
يَحلِفُ المنافِقونَ أنَّهمْ لم يُكذِّبوا الرسُول، ولم يَشتُموه، ولم يَستَهزِؤوا به، وقدْ نَطَقوا بما يَكفُرونَ به، فأظهَروا ما في قُلوبِهمْ منَ الكُفرِ بعدَ إظهارِ إسْلامِهم، وحاوَلوا قتلَ الرسُولِ أو قتلَ بعضِ المُسلِمين، ولكنَّهمْ لم يَتمَكَّنوا منْ ذلك، وما كَرِهوا وما عابُوا شَيئاً منَ الرسُولِ أو المؤمِنينَ إلاّ لأنَّ اللهَ تَفضَّلَ عليهمْ ببرَكتِه، وأسبغَ عليهمْ منْ نِعمَتهِ، فصَاروا مُستَغنينَ عنْ غَيرِهمْ بالغَنائمِ وغيرِها. فلا عَيبَ فيهمْ إلا هذا!
فلمّا أعطاهمُ المالَ والمتاعَ لم يَفُوا بعَهدِهم، فمنَعوا حقَّ اللهِ منَ الأموالِ التي أعطاهُم، ولم يُنفِقُوها في الخيراتِ والمَبرّاتِ كما عاهَدوا، وأعرَضوا عنْ طاعةِ اللهِ ولم يَكونوا منَ الصَّالحين.
فجَعلَ اللهُ عاقبةَ أمرِهمْ نِفاقاً في قُلوبِهم، وحرَمهمْ منَ التَّوبةِ حتَّى الموت، وذلكَ لِغدْرِهمْ بعَهدِ اللهِ الذي عاهَدوهُ عليه، ونَقضِهمْ ميثاقَهُ الذي واثَقوهُ عليه، وبما كانوا يَكذِبونَ ويَقولونَ إنَّهمْ سيَكونونَ صَالحينَ يؤدُّونَ حقَّ اللهِ إذا أغناهم، فالتَهَوا بالمال، واستَسلموا للشَّهوات، ورَكنوا إلى الدُّنيا، ونَسُوا الله.
فلْيَتَنعَّموا ولْيَفرَحوا في هذهِ الدُّنيا، ولْيَضحَكوا ما شاؤوا في مدَّتِها القَصيرة، ولْيَذوقوا النارَ والهَوانَ في الدَّارِ الآخِرَة، ولْيَبكوا فيها بُكاءً دائماً لا يَنقَطِع، جزاءَ أعمالِهمُ السيِّئة، ومَعاصِيهمُ المُتكرِّرة، وإصرارِهم على مُخالفةِ أوامرِ اللهِ سُبحانه.
ولا تُصَلِّ على أحدٍ ماتَ مِنَ المنافِقينَ أبداً، ولا تَقُمْ على قَبرهِ لتَتولَّى دَفنَه، أو َتستَغفِرَ لهُ وتدعوَ له، لأنَّهم كفَروا باللهِ وكذَّبوا رسُولَه، واستمرُّوا على كُفرِهمْ حتَّى ماتُوا وهمْ كذلك. والكافرُ لا يُصلَّى عليه.
وكانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ صلَّى على عبدِاللهِ بنِ أُبَيٍّ رأسِ المنافِقين، وذَكرَ أنَّهُ بينَ خِيْرَتَيْن؛ لقولهِ تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] فنزلتِ الآيَة، فما صلَّى بعدَها على مُنافِق، ولا قامَ على قَبرِه.
فلا يَرُقْكَ شَيءٌ مِنْ أموالِهم ولا أولادِهم، ولا تَستَحسِنْ ذلكَ منهم، فإنَّما هوَ استِدراجٌ منَ اللهِ لهم، ليكونَ ذلكَ كلُّه وَبالاً عليهم، وعِقاباً لهمْ في الدُّنيا، مِنْ تَعَبٍ في جَمعِه، وكَدٍّ في تَحصِيله، ونَفقةٍ منهُ للزَّكاةِ والجِهادِ دونَ أنْ يُثابوا عليه، ومَقتَلِ أولادٍ لهمْ في الغَزو، وهمْ لا يَعتَقِدونَ استِشهادَهمْ ولا احتِسابَهمْ واللِّقاءَ بهمْ في اليَومِ الآخِر، فيَكونُ كلُّ ذلكَ حَسرَةً عليهم، وتَعذيباً نفسيّاً لهم، وأشدَّ في عُقوبتِهم، ولتخَرُجَ أرواحُهم ويموتُوا على كُفرِهم(52).
(52) {وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ}: يعني وتخرجَ أنفسُهم، فيموتوا على كفرهم بالله، وجحودِهم نبوَّةَ نبيِّ الله محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم. (الطبري). أصلُ الزهوق: خروجُ الشيءِ بصعوبة. أي: فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتعِ عن النظرِ في العاقبة، فيكونُ ذلك لهم نقمةً لا نعمة. (روح البيان). الزهوق: الخروجُ بشدَّةٍ وضيق، وقد شاعَ ذكرهُ في خروجِ الروحِ من الجسد.
رَضُوا بأنْ يَبْقُوا معَ الخالِفينَ منَ الصِّبيانِ والعاجِزينَ والنِّساءِ بعدَ خُروجِ الجَيش. وختمَ اللهُ على قُلوبِهمْ بسبَبِ عَدمِ خُروجِهمْ معَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فهمْ لا يَفهمَونَ ما يَنفعُهمْ ولا ما يَضرُّهمْ في دُنياهُمْ وآخِرَتِهم.
أمّا الرسُولُ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وصَحابتهُ المؤمِنونَ معَه، فقدْ أنْفَقوا ما يَقْدِرونَ عليهِ منْ أموالٍ في الجِهاد، وبَذلوا أنفُسَهمْ في سَبيلِ الله، ولهمْ على ذلكَ خَيرُ الجَزاء، مِنْ منافعَ ونِعَمٍ كثيرةٍ تُسْعِدُ القَلبَ وتُبْهِجُ النَّفس. وأولئكَ همُ الفائزونَ بالجنّات، المخلَّدونَ فيها.