تفسير الجزء 10 من القرآن الكريم

  1. أجزاء القرآن الكريم
  2. الجزء العاشر
10
سورة الأنفال (41-75)
سورة التوبة (1-92)

﴿وَمِنۡهُم مَّن يَلۡمِزُكَ فِي الصَّدَقَٰتِ فَإِنۡ أُعۡطُواْ مِنۡهَا رَضُواْ وَإِن لَّمۡ يُعۡطَوۡاْ مِنۡهَآ إِذَا هُمۡ يَسۡخَطُونَ﴾ [التوبة:58]


ومنهمْ مَنْ يَعيبُ عليكَ في تَقسيمِ الصَّدَقات، ويَطعَنُ عليكَ في تَوزيعِها، لا لسبَبٍ سِوَى مَصلحتِهمُ الماليَّة، فإذا أعطيتَهمْ مِنْ تلكَ الصَّدَقاتِ قَدْرَ ما يُريدونَ رَضُوا وفَرِحوا وشَكروا لك، وإذا لم تُعطِهمْ منها غَضِبوا ولم يَستَحسِنوا فِعلَك.

وفي صَحيحِ البُخاريِّ ما يُفيدُ أنَّ هذهِ الآيةَ نزَلتْ في "خارِجيٍّ" قال: اعْدِلْ يا رَسولَ الله. وتَفصِيلهُ في "فتحِ الباري".

﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ رَضُواْ مَآ ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَقَالُواْ حَسۡبُنَا اللَّهُ سَيُؤۡتِينَا اللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَرَسُولُهُۥٓ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَٰغِبُونَ﴾ [التوبة:59]


ولو أنَّهم قَنِعوا بما قَسَمَ لهمُ اللهُ ورَسولُه، وطابَتْ نفوسُهمْ بها، وقالوا: حَسبُنا اللهُ وكافِينا، سيُعطينا اللهُ مِنْ فَضلهِ ورَسولهُ ما نحتاجُ إليهِ ونَرجوه، فإنَّا راغبونَ في أنْ يوسِّعَ علينا مِنْ فَضلهِ وبركاتِه، ويُغنينا عنِ الصَّدَقةِ وغيرِها مِنْ أموالِ الناس، لكانَ ذلكَ خيراً لهمْ وأفضَل.

﴿۞إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَالۡمَسَٰكِينِ وَالۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَالۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي الرِّقَابِ وَالۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابۡنِ السَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ اللَّهِۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ﴾ [التوبة:60]


إنَّما يَكونُ تقسيمُ الزَّكواتِ وتوزيعُها بحكمِ اللهِ على الأصنافِ الثَّمانيةِ التالية:

للفُقَراءِ المُحتاجينَ الذينَ لا مالَ لهمْ ولا عَمل.

والمساكينِ الذينَ لا يَجِدونَ ما يَكفيهم.

والسُّعاةِ الذينَ يُرسَلونَ ليُحَصِّلوا الزكاةَ منَ النَّاس.

ولمَنْ تُجْمَعُ قلوبُهم ليُسلِموا، أو يَثْبُتوا على إسلامِهم.

وفي فكِّ رِقابِ العَبيدِ ليُصبِحوا أحراراً، وهمْ لا يَقْدِرونَ على دفعِ ما يَلزَمُهمْ لأسيادِهمْ لأجلِ ذلك. وذكرَ بعضُهم أنَّ المقصودَ أُسارَى المسلِمين.

والصِّنفُ السادِسُ همُ الذينَ عليهمْ دَين.

وللغُزاةِ في سَبيلِ الله، يُعْطَونَ الزَّكاةَ إذا أرادوا الخروجَ إلى الجهادِ ليستَعينوا بها على أمرِ الغَزو، ولو كانوا أغنياء.

وللمُنقَطعِ في سفَرِه.

وهذا التقسيمُ واجِبٌ فرَضَهُ الله، وهوَ عَليمٌ بأحوالِ الناسِ ومَصالحِهمْ ومُستَحقّاتهم، حَكيمٌ فيما يُقَسِّمُ ويُقَدِّر ويُشَرِّع.

﴿وَمِنۡهُمُ الَّذِينَ يُؤۡذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٞۚ قُلۡ أُذُنُ خَيۡرٖ لَّكُمۡ يُؤۡمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ وَرَحۡمَةٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡۚ وَالَّذِينَ يُؤۡذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [التوبة:61]


ومنَ المنافِقينَ مَنْ يؤذي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ويَقولون: إنَّهُ يُصَدِّقُ كلَّ شَيءٍ يُقالُ له! وإذا جئنا وحَلَفْنا لهُ صَدَّقنا! قُلْ لهم: هوَ أُذُنٌ في الحقِّ والخَير، وفيما يَجِبُ سَماعُهُ وقَبولُه، وليسَ بأُذُنٍ في غَيرِ ذلك، فهوَ يُصَدِّقُ بالله لِمَا ثبتَ عندَهُ منَ الأدلَّةِ والآياتِ البيِّنةِ على صِحَّةِ ذلك، ويُصَدِّق للمؤمِنينَ لِمَا يَعلَمُ فيهمْ منَ الإخلاصِ والصِّدقِ وعَدمِ الكذِب. وهوَ رَحمَةٌ لمَنْ أظهرَ الإيمانَ منكمْ أيُّها المنافقون، حيثَ قَبِلَهُ منكمْ رِفقاً بكمْ لا تَصديقاً منكم، ولم يَكشِفْ أسرارَكم، ولم يَهْتِكْ أستارَكم. والذينَ يُؤذونَ رسولَ اللهِ بأيِّ نوعٍ منَ الإيذاء، فلهمْ عِقابٌ شَديدٌ مؤلِم، لا يَعرِفُ قَدْرَهُ إلاّ الله.

﴿يَحۡلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمۡ لِيُرۡضُوكُمۡ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَحَقُّ أَن يُرۡضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤۡمِنِينَ﴾ [التوبة:62]


وهؤلاءِ المنافِقونَ يَحلِفونَ باللهِ آكدَ الحَلِف، ويُبدونَ ما يَتذرَّعونَ بهِ مِنْ أعذار، بأنَّهمْ ما نَطقوا بكُفرٍ، ولا آذَوا بلِسان، ولا اجتَمَعوا على شَرّ، ولا همُّوا بفَساد، ليُرضُوكمْ بذلك. واللهُ ورسولُهُ أحقُّ بالإرضاءِ مِنْ غيره(50)، منَ الإيمانِ بالقَلب، والصِّدقِ في القَول، والطَّاعةِ في المَنشَطِ والمَكرَه، والتَّسليمِ بالأمر، إنْ كانوا مؤمِنينَ إيماناً صادقاً في الظَّاهرِ والباطِن، فإنَّ هذا يَقودُهمْ إلى إرضاءِ اللهِ ورَسوله.

(50) {يُرْضُوهُ}: إما للتعظيمِ للجنابِ الإلهيِّ بإفرادهِ بالذكر، أو لكونهِ لا فرقَ بين إرضاءِ الله وإرضاءِ رسوله، فإرضاءُ الله إرضاءٌ لرسوله، أو المراد: الله أحقُّ أن يُرضوهُ ورسولهُ كذلك، كما قالَ سيبويه، ورجَّحَهُ النحاس، أو لأن الضميرَ موضوعٌ موضعَ اسمِ الإشارة، فإنه يشارُ به إلى الواحدِ والمتعدِّد، أو الضميرُ راجعٌ إلى المذكور، وهو يصدقُ عليهما. وقالَ الفرّاء: المعنى: ورسولهُ أحقُّ أن يُرضوه. (فتح القدير).

﴿أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّهُۥ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَأَنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدٗا فِيهَاۚ ذَٰلِكَ الۡخِزۡيُ الۡعَظِيمُ﴾ [التوبة:63]


ألم يعلَموا أنَّ الذي يُخالِفُ أمرَ اللهِ تعالَى وأمرَ رَسولهِ صلى الله عليه وسلم، يَكونُ هوَ في حَدٍّ والإسلامُ في حَدّ، فيُعادي ويُشاقِقُ الإسلامَ مِنْ هذا المُنطَلَق؟ سيَكونُ عقابَهُ نارُ جهنَّم، مُستقِرًّا فيها أبداً، مع ذُلٍّ وهوانٍ وشَقاءٍ مُلازمٍ له.

﴿يَحۡذَرُ الۡمُنَٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيۡهِمۡ سُورَةٞ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمۡۚ قُلِ اسۡتَهۡزِءُوٓاْ إِنَّ اللَّهَ مُخۡرِجٞ مَّا تَحۡذَرُونَ﴾ [التوبة:64]


والمنافِقونَ يَخشَوْنَ أنْ تُنَـزَّلَ سُورةٌ منَ القُرآنِ في شَأنِهم، تَفضَحُهمْ وتبيِّنُ ما في قُلوبِهمْ منَ الأسْرار، وما يَتداولونَهُ بينَهمْ منْ أقاويلِ الكُفرِ والنِّفاق، فقلْ لهم: استَهزِؤوا بما أنتُمْ مُستَهزِؤونَ به، وأسِرُّوا أقوالَكمْ حتَّى لا يَطَّلِعَ عليها أحَد، فإنَّ اللهَ سيُنـزِلُ على رَسولهِ ما يَفضَحُكم به، ويبيِّنُ لهُ أمرَكم.

﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُمۡ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلۡعَبُۚ قُلۡ أَبِاللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمۡ تَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [التوبة:65]


وإذا سألتَ المنافِقينَ عنْ سبَبِ قولِهمْ والدَّاعي إلى استِهزائهم، قالوا: إنَّما كنّا نَخوضُ في الكلامِ ونَلهو(51)، قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: أبالله، وآياتِ كتابِه، ورَسولِه، كنتُمْ تَستَهزِؤونَ وتَتهكَّمون؟

(51) {نَخُوضُ} في الكلامِ ونتحدثُ كما يفعلُ الركبُ لقطعِ الطريقِ بالحديث. (روح البيان).

﴿لَا تَعۡتَذِرُواْ قَدۡ كَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡۚ إِن نَّعۡفُ عَن طَآئِفَةٖ مِّنكُمۡ نُعَذِّبۡ طَآئِفَةَۢ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ مُجۡرِمِينَ﴾ [التوبة:66]


لا تَستَمِرُّوا في الاعتِذارِ أيُّها المنافِقون، فقدْ بدا منكمْ ما كنتُمْ تَحْرِصونَ على كَتْمِه، حيثُ أظهرتُمُ الكُفرَ باستِهزائكمْ وإيذائكمُ الرسُولَ صلى الله عليه وسلم بعدَ إظهارِكمُ الإيمان، وإنْ نَتُبْ على جَماعةٍ منكمْ لتَوبتِهمْ أو تجنُّبهمُ الاستِهزاء، فإنَّنا سنُعاقِبُ جَماعةً منكمْ لاستِمرارِهمْ في الاستِهزاء، وبَقائهمْ مُصِرِّينَ على النِّفاق.

﴿الۡمُنَٰفِقُونَ وَالۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِالۡمُنكَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ الۡمَعۡرُوفِ وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡۚ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمۡۚ إِنَّ الۡمُنَٰفِقِينَ هُمُ الۡفَٰسِقُونَ﴾ [التوبة:67]


المنافِقونَ والمنافِقاتُ مُتشابِهونَ في كلامِهمْ وسُلوكِهم، لأنَّهمْ على دِينٍ واحِد، يأمرونَ بالمعصِيَةِ وتَكذيبِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويَنهَوْن عنِ الإيمانِ والطَّاعة، ويُمسِكون أيديَهمْ عنِ الصَّدقةِ والإنفاقِ فيما يُرضي الله، لقدْ نَسُوا ذِكرَ اللهِ وتَرَكوا طاعتَه، فعامَلَهمُ اللهُ مُعامَلةَ مَنْ نَسِيَهم، فحَرَمَهمْ مِنْ تَوفيقهِ وهِدايتِه، ومنعَ لُطفَهُ وفَضلَهُ عنهم. إنَّ المنافِقينَ خارِجونَ عنِ الطَّاعة، بَعيدونَ عنِ الحقّ.

﴿وَعَدَ اللَّهُ الۡمُنَٰفِقِينَ وَالۡمُنَٰفِقَٰتِ وَالۡكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ هِيَ حَسۡبُهُمۡۚ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّقِيمٞ﴾ [التوبة:68]


وعَدَ اللهُ المنافِقينَ والمنافِقاتِ الذينَ يُظهِرونَ الإيمانَ ويُبطِنونَ الكُفر، والكافِرينَ الذينَ يَجهَرونَ به، وعَدَهُمْ نارَ جهنَّمَ تُسْعَرُ بهمْ جزاءَ كُفرِهم، مؤبَّدينَ فيها، وفيها ما يَكفِيهمْ منَ العِقابِ والعَذاب، وأبعدَهمُ اللهُ منْ رَحمَتهِ وأذَلَّهم، فلا أملَ في خَلاصِهم ممّا همْ فيه، فلهمْ عذابٌ دائمٌ لا يَنقَطِعُ أبداً.

﴿كَالَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ كَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنكُمۡ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرَ أَمۡوَٰلٗا وَأَوۡلَٰدٗا فَاسۡتَمۡتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمۡ فَاسۡتَمۡتَعۡتُم بِخَلَٰقِكُمۡ كَمَا اسۡتَمۡتَعَ الَّذِينَ مِن قَبۡلِكُم بِخَلَٰقِهِمۡ وَخُضۡتُمۡ كَالَّذِي خَاضُوٓاْۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي الدُّنۡيَا وَالۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡخَٰسِرُونَ﴾ [التوبة:69]


أنتُمْ أيُّها المنافِقونَ مَثَلُ الذينَ مِنْ قَبلِكم، منَ الأممِ الذينَ خالَفوا أمرَ اللهِ وكذَّبوا رُسلَهُ فلعنَهمْ وأهلَكَهم. وكانوا أكثرَ منكمْ قوَّةً وبَطْشاً، وأكثرَ أمْوالاً ومَتاعاً وذُرِّية، وقدْ تمتَّعوا وانتَفَعوا بنَصيبِهمْ منْ شَهواتِ الدُّنيا وملاذِّها، ورَضُوا بذلكَ عِوَضاً عنِ الآخِرَة، فاستمتَعتُمْ أيُّها الكفَّارُ المنافِقونَ بنصيبِكمْ منْ ذلك، كما استَمتعَ الذينَ مِنْ قَبلِكمْ منَ الكفّارِ بنصيبِهمْ منَ الاقتِصارِ على الشَّهواتِ واللَّذائذِ الفانيَة، وسَلكتُمْ سَبيلَهم، ودخلتُمْ في الكذِبِ والباطلِ والاستِهزاءِ بالرسُل، كما دخَلوا هُمْ في ذلك، فأولئكَ المتَّصفُونَ بتلكَ الصِّفات، منَ القدماءِ والمُحْدَثين، قدْ بَطَلَتْ أعمالُهمُ التي كانوا يستَحِقُّونَ عليها الأجرَ لو صاحَبَها الإيمان، ولكنَّهمْ لم يؤمِنوا، فخَسِروا وخَابوا، ولم يستَحِقُّوا عليها أجراً وثَواباً، في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَة.

﴿أَلَمۡ يَأۡتِهِمۡ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَقَوۡمِ إِبۡرَٰهِيمَ وَأَصۡحَٰبِ مَدۡيَنَ وَالۡمُؤۡتَفِكَٰتِۚ أَتَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِالۡبَيِّنَٰتِۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ﴾ [التوبة:70]


ألم يُخبَرْ هؤلاءِ المنافِقونَ خبرَ مَنْ كانَ قبلَهمْ ممَّنْ خالفَ أمرَ اللهِ وكذَّبَ الرسُل، مِنْ قَومِ نُوحٍ كيفَ أُهلِكوا بالطُّوفان، ومِنْ عادٍ كيفَ أُهلِكوا بالرِّيح لمّا كذَّبوا نبيَّهمْ هوداً عليهِ السَّلام، ومِنْ ثمودَ كيفَ أُهلِكوا بالرَّجْفةِ لمّا كذَّبوا نبيَّهمْ صالحاً وعَقروا الناقَة، ومِنْ قَومِ إبراهيمَ كيفَ أهلكَ مَلِكَهمْ نُمرودَ ثمَّ أُهلِكوا بعدَه، ومِنْ أصحابِ مَدْيَنَ كيفَ أهلكَهمْ بالنارِ يومَ الظُّلَّة {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[سورة الشعراء: 189] لمّا كذَّبوا نبيَّهمْ شُعَيباً عليهِ السَّلام، ومِن قُرَى قومِ لُوطٍ المُنقَلِبات، حيثُ جعلَ اللهُ عاليَها سافلَها، وأمطرَ على مَنْ فيها حِجارة، لمّا كذَّبوا نبيَّهمْ لوطاً عليهِ السَّلام.

لقدْ جاءَتْهُمْ رُسلُهم بالحُجَجِ القاطِعة، والمُعجِزاتِ الكافية، ولكنَّهمْ كذَّبوهمْ وعَصَوْهم، كما فعلتُمْ أنتُمْ مَعشرَ الكفّار، فاحذَروا أنْ يُصيبَكمْ ما أصابَهم.

وما كانَ اللهُ لِيَظلِمَهمْ بإهلاكهِ إيّاهم، ولكنَّهمْ همُ الذينَ ظلَموا أنفسَهمْ عندما عرَّضوها للعِقاب، بتَكذيبِهمُ الرسُل، واستِكبارِهمْ عنْ قَبوِل الحقّ، وردِّهمُ المُعجِزات، واستِهزائهمْ بآياتِ اللهِ وعبادهِ المؤمِنينَ مِنْ أتباعِ الرسُل.

﴿وَالۡمُؤۡمِنُونَ وَالۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِالۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ الۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ الزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَـٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ اللَّهُۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾ [التوبة:71]


والمؤمِنونَ والمؤمِناتُ يتَناصَرونَ ويتَعاونونَ على البِرِّ والتقوَى، ويَتعاضدونَ على ما فيهِ خيرُهمْ وخيرُ الناس.

فيأمرونَ بالإيمانِ والطاعةِ والإصلاح، ويَنهَوْنَ عنِ الشركِ والمَعصِية وما يخالِفُ أحكامَ الشَّرع، ويؤدُّونَ الصَّلواتِ المطلوبةَ منهم، ويُعطُون الحقوقَ الواجبةَ المترتِّبةَ على أموالِهم، ويُطيعونَ اللهَ ورسُولَه، فيما أمرَ ونَهى، أولئكَ المتَّصِفونَ بتلكَ الصِّفات، سيَرحمُهمُ اللهُ ويَتولاّهم بلُطفه، إنَّ اللهَ عَزيزٌ لا يَمتَنِعُ عليهِ ما يُريده، ولا يُعجِزهُ شيءٌ عنْ إنجازِ وعدِهِ ووَعيدِه، حَكيم، يَضَعُ الأمورَ في مواضعِها كما يَنبغي، لا يَفوتهُ شَيءٌ مِنْ ذلك.

﴿وَعَدَ اللَّهُ الۡمُؤۡمِنِينَ وَالۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّـٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ اللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِيمُ﴾ [التوبة:72]


وعدَ اللهُ المؤمِنينَ والمؤمِناتِ جزاءَ إيمانِهمْ وأعمالِهمُ الطيِّبةِ جنّاتٍ تَجري منْ تحتِها الأنهار، مُقيمِينَ فيها أبداً، وقُصوراً عالياتٍ طيِّبات، تَميلُ إليها النُّفوس، ويَطيبُ فيها العَيش، في بَساتينَ مُخَصَّصةٍ للإقامةِ والخُلودِ الدائم، ورِضاءُ اللهِ عنهمْ أكبرُ وأجَلُّ منْ ذلكَ النَّعيمِ كلِّه، وهوَ الفَلاحُ والنَّجاح، والسَّعادةُ والهناء، والفَوزُ الذي ليسَ بعدَهُ فَوز، لأنَّهُ يَعني أنْ لا يَسخَطَ اللهُ عليهمْ بعدَ ذلك، فيَطمئنُّونَ ويَهنَؤونَ إلى الأبد.

﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِيُّ جَٰهِدِ الۡكُفَّارَ وَالۡمُنَٰفِقِينَ وَاغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ الۡمَصِيرُ﴾ [التوبة:73]


أيُّها النبيّ، جاهدِ الكفّارَ بالقَتل، والمُنافقينَ بالقتلِ كذلكَ إذا أظهَروا الكُفر، وبالحُجَّةِ واللِّسانِ والترغيبِ والترهيبِ إذا لم يُظهِروه، واغلُظْ عليهمْ جَميعاً ولا ترفُقْ بهم، وإنَّ مَكانَهمْ في الآخِرَةِ هوَ نارُ جهنَّم، وبئسَ المَرْجِعُ الذي لا يَجدونَ فيهِ سِوَى العَذاب.

﴿يَحۡلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدۡ قَالُواْ كَلِمَةَ الۡكُفۡرِ وَكَفَرُواْ بَعۡدَ إِسۡلَٰمِهِمۡ وَهَمُّواْ بِمَا لَمۡ يَنَالُواْۚ وَمَا نَقَمُوٓاْ إِلَّآ أَنۡ أَغۡنَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضۡلِهِۦۚ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيۡرٗا لَّهُمۡۖ وَإِن يَتَوَلَّوۡاْ يُعَذِّبۡهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمٗا فِي الدُّنۡيَا وَالۡأٓخِرَةِۚ وَمَا لَهُمۡ فِي الۡأَرۡضِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ﴾ [التوبة:74]


يَحلِفُ المنافِقونَ أنَّهمْ لم يُكذِّبوا الرسُول، ولم يَشتُموه، ولم يَستَهزِؤوا به، وقدْ نَطَقوا بما يَكفُرونَ به، فأظهَروا ما في قُلوبِهمْ منَ الكُفرِ بعدَ إظهارِ إسْلامِهم، وحاوَلوا قتلَ الرسُولِ أو قتلَ بعضِ المُسلِمين، ولكنَّهمْ لم يَتمَكَّنوا منْ ذلك، وما كَرِهوا وما عابُوا شَيئاً منَ الرسُولِ أو المؤمِنينَ إلاّ لأنَّ اللهَ تَفضَّلَ عليهمْ ببرَكتِه، وأسبغَ عليهمْ منْ نِعمَتهِ، فصَاروا مُستَغنينَ عنْ غَيرِهمْ بالغَنائمِ وغيرِها. فلا عَيبَ فيهمْ إلا هذا!

فإنْ يَتُبِ المُنافِقونَ منْ نِفاقِهمْ وكُفرِهمْ يَكُنْ ذلكَ خَيراً لهم، ويَكونوا مثلَ المُسلِمين، وإنْ أعرَضوا عنِ التوبةِ واستَمرُّوا في نِفاقِهم، يُعاقِبْهمُ اللهُ بالقَتلِ والخِزي، والهَمِّ وسوءِ الذِّكرِ في الدُّنيا، وبالتَّعذيبِ بالنارِ وأنواعِ العِقابِ في الآخِرَة، وليسَ لهمْ في الدُّنيا صديقٌ يَشفَعُ لهم، ولا مؤيِّدٌ يَدفَعُ عنهمْ شرًّا ويُنقذُهمْ ممّا همْ فيه.

﴿۞وَمِنۡهُم مَّنۡ عَٰهَدَ اللَّهَ لَئِنۡ ءَاتَىٰنَا مِن فَضۡلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّـٰلِحِينَ﴾ [التوبة:75]


ومنَ المُنافِقينَ مَنْ عاهدوا اللهَ وقالوا: لئنْ أغنانا اللهُ بالأموالِ لَنتَصَدَّقنَّ ونُعطي حُقوقَ الفُقَراءِ منها، ولَنكونَنَّ ممَّنْ يُطيعُ اللهَ ويَعمَلُ الأعْمالَ الصَّالحة.

﴿فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ﴾ [التوبة:76]


فلمّا أعطاهمُ المالَ والمتاعَ لم يَفُوا بعَهدِهم، فمنَعوا حقَّ اللهِ منَ الأموالِ التي أعطاهُم، ولم يُنفِقُوها في الخيراتِ والمَبرّاتِ كما عاهَدوا، وأعرَضوا عنْ طاعةِ اللهِ ولم يَكونوا منَ الصَّالحين.

﴿فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ﴾ [التوبة:77]


فجَعلَ اللهُ عاقبةَ أمرِهمْ نِفاقاً في قُلوبِهم، وحرَمهمْ منَ التَّوبةِ حتَّى الموت، وذلكَ لِغدْرِهمْ بعَهدِ اللهِ الذي عاهَدوهُ عليه، ونَقضِهمْ ميثاقَهُ الذي واثَقوهُ عليه، وبما كانوا يَكذِبونَ ويَقولونَ إنَّهمْ سيَكونونَ صَالحينَ يؤدُّونَ حقَّ اللهِ إذا أغناهم، فالتَهَوا بالمال، واستَسلموا للشَّهوات، ورَكنوا إلى الدُّنيا، ونَسُوا الله.

﴿أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ اللَّهَ يَعۡلَمُ سِرَّهُمۡ وَنَجۡوَىٰهُمۡ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّـٰمُ الۡغُيُوبِ﴾ [التوبة:78]


ألم يَعلَمِ المُنافِقون، أوِ الذينَ عاهَدوا اللهَ على الطَّاعةِ ولم يُطيعوه، أنَّهُ يَعلمُ أسرارَ قلوبِهمْ وما يُضمِرونَهُ في نُفوسِهمْ منَ النِّفاق، وما يَتناجَونَ بهِ منْ مَطاعِنَ ومُخالَفات، ومعاصيَ ومُنكَرات، وأنَّهُ يَعلمُ الغَيبَ والشَّهادة، فلا يَخفَى عليهِ شَيءٌ ممّا يُظهِرونَهُ أو يُبطِنونَه؟.

﴿الَّذِينَ يَلۡمِزُونَ الۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ الۡمُؤۡمِنِينَ فِي الصَّدَقَٰتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ اللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة:79]


إنَّهمُ المُنافِقون، الذينَ مِنْ صِفاتِهمْ أنْ لا يَسْلَمَ أحدٌ منْ ألسِنَتِهم، وقَدْحِهمْ وذَمِّهم، فيَعِيبونَ على مَنْ تَصدَّقَ منَ المؤمِنين، فإنْ كانوا أغنياءَ وأكثَروا، قالوا: هذا يُعطي للرِّياءِ والسُّمْعة، وإنْ كانوا فُقَراءَ فأقَلُّوا، قالوا: إنَّ اللهَ غنيٌّ عنْ صَدَقةِ هذا، جازاهمُ اللهُ شرًّا على سُخريتِهمْ مِنَ المؤمِنينَ الطيِّبين، الذينَ يُنفِقونَ أموالَهمْ فيما يُرضي الله، ولِهؤلاءِ المُنافقينَ المُعتَدينَ عذابٌ مؤلمٌ دائمٌ في الآخِرَة.

﴿اسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ أَوۡ لَا تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ إِن تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ سَبۡعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغۡفِرَ اللَّهُ لَهُمۡۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦۗ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الۡفَٰسِقِينَ﴾ [التوبة:80]


أيُّها النبيُّ الرَّحيمُ بأمَّته، استَغفِرْ للمُنافِقينَ أو لا تَستَغفِرْ لهم، إنَّكَ إنْ تَستَغفِرْ لهمْ سَبعينَ مرَّةً فلنْ يَغفِرَ اللهُ ذنوبَهم، وسبَبُ ذلكَ كفرُهمْ باللهِ وتكذيبُهمْ رسُولَه، واللهُ لا يَهدي المُتمرِّدينَ على أوامرِه، المُصرِّينَ على الكُفرِ به.

﴿فَرِحَ الۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي الۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ﴾ [التوبة:81]


لقدْ فَرِحَ الذينَ تَخلَّفوا عنِ الجِهادِ في غَزوةِ تَبوكَ بقُعودِهمْ بعدَ خروجِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم، وكَرِهوا أنْ يَبذُلوا أموالَهمْ وأنفسَهمْ في سَبيلِ الله، إيثاراً للرَّاحةِ والكسَل، وطَلباً للتنعُّمِ والتلذُّذ، وقالَ بَعضُهمْ لبَعض، تواصياً فيما بينَهمْ بالباطل، وتثبيتاً لهمْ على القُعودِ عنِ الغَزو: لا تَخرُجوا في الحرِّ فإنَّهُ لا يُطاق. قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: إنَّ نارَ جهنَّمَ التي تَصيرونَ إليها بسبَبِ مُخالفتِكم، هيَ أشدُّ حرًّا مِنْ هذا الحَرِّ الذي ترَونَهُ مانعاً لكمْ منَ الخُروج، هذا لو كانوا يَعلمونَ أهوالَ جهنَّمَ وشدَّةَ حَرِّها، وفكَّروا بمصيرِهمْ حقًّا.

﴿فَلۡيَضۡحَكُواْ قَلِيلٗا وَلۡيَبۡكُواْ كَثِيرٗا جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾ [التوبة:82]


فلْيَتَنعَّموا ولْيَفرَحوا في هذهِ الدُّنيا، ولْيَضحَكوا ما شاؤوا في مدَّتِها القَصيرة، ولْيَذوقوا النارَ والهَوانَ في الدَّارِ الآخِرَة، ولْيَبكوا فيها بُكاءً دائماً لا يَنقَطِع، جزاءَ أعمالِهمُ السيِّئة، ومَعاصِيهمُ المُتكرِّرة، وإصرارِهم على مُخالفةِ أوامرِ اللهِ سُبحانه.

﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٖ مِّنۡهُمۡ فَاسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِيَ أَبَدٗا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِيتُم بِالۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَاقۡعُدُواْ مَعَ الۡخَٰلِفِينَ﴾ [التوبة:83]


فإذا ردَّكَ اللهُ مِنْ غَزوةِ تَبوكَ إلى جَماعةٍ مِنْ هؤلاءِ المتَخلِّفين - ويَعني المنافِقين، فقدْ كانَ بَعضُ المتَخلِّفينَ مَعذوراً - وطلَبوا الخُروجَ معكَ إلى غَزوةٍ أخرَى، فقلْ إهانةً لهمْ وعُقوبة: لنْ تَخرُجوا معي في سَفرٍ أبداً، ولنْ تُقاتِلوا معي عَدوًّا مِنَ الأعداء؛ لأنَّكمْ رَضِيتُمْ بالقُعودِ عنِ الغَزوِ أوَّلَ مرَّة، وفَرِحتُم بالتخلُّفِ عنِ الجِهاد، وآثرتُمُ التنعُّمَ على مُقارعةِ الأعْداء، فابقُوا قاعِدينَ معَ المتخلِّفين الذينَ لا يَقْدِرونَ على الجِهاد، منَ النِّساءِ والصِّبيانِ والمعوَّقين.

﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنۡهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمۡ عَلَىٰ قَبۡرِهِۦٓۖ إِنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُواْ وَهُمۡ فَٰسِقُونَ﴾ [التوبة:84]


ولا تُصَلِّ على أحدٍ ماتَ مِنَ المنافِقينَ أبداً، ولا تَقُمْ على قَبرهِ لتَتولَّى دَفنَه، أو َتستَغفِرَ لهُ وتدعوَ له، لأنَّهم كفَروا باللهِ وكذَّبوا رسُولَه، واستمرُّوا على كُفرِهمْ حتَّى ماتُوا وهمْ كذلك. والكافرُ لا يُصلَّى عليه.

وكانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ صلَّى على عبدِاللهِ بنِ أُبَيٍّ رأسِ المنافِقين، وذَكرَ أنَّهُ بينَ خِيْرَتَيْن؛ لقولهِ تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] فنزلتِ الآيَة، فما صلَّى بعدَها على مُنافِق، ولا قامَ على قَبرِه.

﴿وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ﴾ [التوبة:85]


فلا يَرُقْكَ شَيءٌ مِنْ أموالِهم ولا أولادِهم، ولا تَستَحسِنْ ذلكَ منهم، فإنَّما هوَ استِدراجٌ منَ اللهِ لهم، ليكونَ ذلكَ كلُّه وَبالاً عليهم، وعِقاباً لهمْ في الدُّنيا، مِنْ تَعَبٍ في جَمعِه، وكَدٍّ في تَحصِيله، ونَفقةٍ منهُ للزَّكاةِ والجِهادِ دونَ أنْ يُثابوا عليه، ومَقتَلِ أولادٍ لهمْ في الغَزو، وهمْ لا يَعتَقِدونَ استِشهادَهمْ ولا احتِسابَهمْ واللِّقاءَ بهمْ في اليَومِ الآخِر، فيَكونُ كلُّ ذلكَ حَسرَةً عليهم، وتَعذيباً نفسيّاً لهم، وأشدَّ في عُقوبتِهم، ولتخَرُجَ أرواحُهم ويموتُوا على كُفرِهم(52).

(52) {وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ}: يعني وتخرجَ أنفسُهم، فيموتوا على كفرهم بالله، وجحودِهم نبوَّةَ نبيِّ الله محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم. (الطبري). أصلُ الزهوق: خروجُ الشيءِ بصعوبة. أي: فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتعِ عن النظرِ في العاقبة، فيكونُ ذلك لهم نقمةً لا نعمة. (روح البيان). الزهوق: الخروجُ بشدَّةٍ وضيق، وقد شاعَ ذكرهُ في خروجِ الروحِ من الجسد.

﴿وَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٌ أَنۡ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسۡتَـٔۡذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوۡلِ مِنۡهُمۡ وَقَالُواْ ذَرۡنَا نَكُن مَّعَ الۡقَٰعِدِينَ﴾ [التوبة:86]


وإذا أُنْزِلَتْ سُورةٌ مِنَ القُرآنِ تأمرُ بالإخْلاصِ في الإيمانِ والجِهادِ معَ رَسولِه، طلبَ الإذنَ منكَ بالقُعودِ ذَوُو الغِنَى والسَّعَةِ منَ المنافِقين، وقالوا: دَعْنا نَكُنْ معَ القاعِدينَ منَ الذينَ لم يُجاهِدوا لعُذر.

﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الۡخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَفۡقَهُونَ﴾ [التوبة:87]


رَضُوا بأنْ يَبْقُوا معَ الخالِفينَ منَ الصِّبيانِ والعاجِزينَ والنِّساءِ بعدَ خُروجِ الجَيش. وختمَ اللهُ على قُلوبِهمْ بسبَبِ عَدمِ خُروجِهمْ معَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فهمْ لا يَفهمَونَ ما يَنفعُهمْ ولا ما يَضرُّهمْ في دُنياهُمْ وآخِرَتِهم.

﴿لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ جَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمُ الۡخَيۡرَٰتُۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التوبة:88]


أمّا الرسُولُ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وصَحابتهُ المؤمِنونَ معَه، فقدْ أنْفَقوا ما يَقْدِرونَ عليهِ منْ أموالٍ في الجِهاد، وبَذلوا أنفُسَهمْ في سَبيلِ الله، ولهمْ على ذلكَ خَيرُ الجَزاء، مِنْ منافعَ ونِعَمٍ كثيرةٍ تُسْعِدُ القَلبَ وتُبْهِجُ النَّفس. وأولئكَ همُ الفائزونَ بالجنّات، المخلَّدونَ فيها.