﴿بَرَآءَةٞ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الۡمُشۡرِكِينَ﴾ [التوبة :1]
هذا تبَرُّؤٌ منَ اللهِ ورَسولهِ إلى مَنْ عاهدتُموهُمْ منَ المشرِكينَ أيُّها المسلِمون.
وكانتْ هناكَ معاهَداتٌ بينَ المسلِمينَ ومُشرِكي العَرب، فخانُوا العَهد، إلاّ بعضَ القبائلِ، فأُمِروا بالتبرُّؤ مِنْ عُهودِهم، في تَفصيلٍ يأتي بعضُه، وأُمْهِلَ المشرِكونَ أربعةَ أشهر...
﴿فَسِيحُواْ فِي الۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَاعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخۡزِي الۡكَٰفِرِينَ﴾ [التوبة :2]
فَسِيروا في الأرضِ آمِنينَ حيثُ شِئتُمْ أيُّها المشرِكون، لمدَّةِ أربعةِ أشهُر، مِنْ شَهرِ شوّالٍ إلى المحرَّم، واعلَموا أنَّكمْ بسَيرِكمْ هذا لنْ تُعْجِزوا اللهَ بالهرَبِ والتحَصُّن، وأنَّ اللهَ مُذِلُّ الكافِرينَ ومُعَذِّبُهم، في الدُّنيا بالقَتلِ والأسْر، وفي الآخِرَةِ بالعَذاب.
﴿وَأَذَٰنٞ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى النَّاسِ يَوۡمَ الۡحَجِّ الۡأَكۡبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ الۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُۥۚ فَإِن تُبۡتُمۡ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَاعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي اللَّهِۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة :3]
وهذا إعلامٌ منَ اللهِ ورَسولهِ للنَّاسِ جميعاً يومَ النَّحرِ منْ أيّامِ الحجّ، أنَّ اللهَ بَريءٌ منَ المشرِكينَ وعُهودِهم، ورسولُه أيضاً بَريءٌ منهم، فإنْ رَجعتُمْ أيُّها المشرِكونَ عمّا أنتُمْ فيهِ منَ الكُفرِ والغَدرِ والضَّلال، فهوَ أفضَلُ لكمْ في حَياتِكمُ الدُّنيا، وفي الآخِرَة. وإذا أبَيتُمْ إلاّ الشِّرك، وأصرَرتُمْ على مُحاربةِ الإسْلامِ وأهلِه، فاعلَموا أنَّكمْ لا تَفوتونَ اللهَ ولا تَقْدِرونَ على الهروبِ مِنْ عِقابه، فأنتُمْ عَبيدهُ وفي مُلكهِ أينَما كنتُم. وبشِّرِ الكافِرينَ بعِقابٍ مُوجعٍ ينالُهمْ في دُنياهم، وفي الآخِرَةِ أقسَى وأفظَع.
﴿إِلَّا الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الۡمُشۡرِكِينَ ثُمَّ لَمۡ يَنقُصُوكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَمۡ يُظَٰهِرُواْ عَلَيۡكُمۡ أَحَدٗا فَأَتِمُّوٓاْ إِلَيۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الۡمُتَّقِينَ﴾ [التوبة :4]
ويُستثنَى مِنْ ذلكَ المشرِكونَ الذينَ لم يَغْدِروا بعَهدِهمْ معَكم، بشَرطِ أنْ يَبقوا أوفياءَ لنُصوصِ المعاهَدة، ولا يَنقُصُوا منها شَيئاً، ولا يُناصِروا أحداً مِنْ أعدائكمْ عليكم، فعندَ ذلكَ أكمِلوا مدَّةَ المعاهَدةِ معهمْ إلى آخِرِها، ولا تُعامِلوهمْ مُعاملةَ الغادِرين. واللهُ يُحِبُّ الملتزِمينَ بعُهودِهم، المُوفينَ بمواثيقِهم.
وكانتْ قَبيلةُ بني ضَمْرَةَ قدْ بقيَ مِنْ عهدِها تسعةُ أشهر، ولم تَغْدِر.
﴿فَإِذَا انسَلَخَ الۡأَشۡهُرُ الۡحُرُمُ فَاقۡتُلُواْ الۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَاحۡصُرُوهُمۡ وَاقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [التوبة :5]
فإذا انقَضَتِ الأشهرُ الأربَعةُ منْ شُهورِ العَهدِ التي حرَّمْنا فيها دماءَ المشرِكينَ والتعرُّضَ لهمْ وأجَّلْناهمْ فيها، فحيثُما وجدتُموهمْ بعدَها فاقتُلوهم، في الحِلِّ والحَرَم، وأْسِروهم، واحبِسوهم، وراقِبوهمْ وارصُدوا تحرُّكاتِهم، واحصُروهمْ في مَعاقلِهمْ وحُصونِهم. فإذا تابوا منَ الشِّركِ والضَّلال، وأقامُوا الصَّلاة، وآتَوا الزكاةَ، تَصديقاً لتَوبتِهم وإيمانِهم، فدعُوهمْ وشأنَهم، ولا تَتعرَّضوا لهمْ بسُوء. واللهُ يَغفِرُ لمنْ تاب، ويَرحَمُه، فيُثيبُهُ على إيمانهِ وطاعتِه.
وتسمَّى هذهِ آيةَ السيف.
﴿وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ الۡمُشۡرِكِينَ اسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡلَمُونَ﴾ [التوبة :6]
وإذا استأمَنكَ وطلبَ مجاورتَكَ أحدُ المشرِكينَ بعدَ انقضاءِ أربعةِ الأشهرِ المذْكورة، فآمِنْهُ وأجِبْ طلبَه، حتَّى يَسمعَ القُرآنَ الكريمَ ويَتدبَّرَه، ويطَّلِعَ على دِينِ الله، فيَعرِفَ ما لَهُ وما عليه. ثمَّ أوصِلْهُ بأمانٍ وسَلام، إلى مَسكنهِ الذي يأمَنُ فيه.
وهذا الأمنُ الذي أُعطيَ لهمْ لكونِهمْ لا يَعلمونَ دينَ الله، فهمْ مُحتاجونَ إلى مَعرفةِ ما تَدعوهمْ إليه، حتَّى يَفهَموا ذلكَ ولا يَبقَى لهمْ عُذر.
﴿كَيۡفَ يَكُونُ لِلۡمُشۡرِكِينَ عَهۡدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦٓ إِلَّا الَّذِينَ عَٰهَدتُّمۡ عِندَ الۡمَسۡجِدِ الۡحَرَامِۖ فَمَا اسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَاسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الۡمُتَّقِينَ﴾ [التوبة :7]
ولا يَكونُ لهؤلاءِ المشرِكينَ عَهدٌ عندَ اللهِ ولا عندَ رسولِه، وهمْ يَغدِرونَ ويَنقُضونَ العَهد، إلاّ الذينَ عاهدتُموهمْ عندَ المسجدِ الحَرام، فأكمِلوا مَعهمْ عهدَهمْ ما داموا مُستَقِيمينَ معكمْ ولم يَغْدِروا بكم، واللهُ يُحِبُّ المؤمِنينَ المُوْفِين بعُهودِهم، الواقفينَ عندَ حُدودِه.
﴿كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ﴾ [التوبة :8]
وكيفَ يَكونُ للمُشرِكينَ عهدٌ عندَ الله ورَسولهِ والحالُ أنَّهمْ مَتَرَبِّصونَ بكم، فإذا ظَفِروا بكمْ لم يُراعُوا فيكمْ قَرابةً ولا عَهداً، ولم يُبْقُوا منكمْ أحَداً، لكنَّهمْ عندَ العَجزِ يُبدونَ الرَّغبةَ في الإيمان، وفي الوفاءِ والطاعةِ مَعكم، فيُرضونَكمْ بذلك، والحقُّ أنَّ قلوبَهم تَرفُضُ الإيمان، وأكثرُهمْ مُتَمرِّدونَ خارِجونَ عنِ الطَّاعة، لا عَقيدةَ تمنعُهمْ عنِ الحرام، ولا مروءةَ تردُّهمْ عنِ الغَدرِ والخِيانة.
﴿اشۡتَرَوۡاْ بِـَٔايَٰتِ اللَّهِ ثَمَنٗا قَلِيلٗا فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [التوبة :9]
لقدِ استَبدَلوا بأوامرِ اللهِ وعُهودهِ ما التَهَوا بهِ منْ حُطامِ الدُّنيا وزَخارفِها وشَهواتِ أنفسِهم، ومَنعوا الناسَ منِ اتِّباعِ دِينِ الله، فبئسَ ما قامُوا بهِ مِنْ عَمل.
﴿لَا يَرۡقُبُونَ فِي مُؤۡمِنٍ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡمُعۡتَدُونَ﴾ [التوبة :10]
إنَّهمْ لا يُراعُونَ في مُؤمِنٍ أصولَ قَرابة، ولا حُقوقَ عَهد، فإذا ظَفِروا بهِ قَتلوه، وإنَّ شأنَهمُ الاعتِداءُ، بالظُّلمِ ونَقْضِ العَهد.
﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي الدِّينِۗ وَنُفَصِّلُ الۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ﴾ [التوبة :11]
فإنْ رَجَعوا عنْ عبادةِ الأصنامِ ونَقضِ العَهدِ ومُحاربةِ الإسْلام، وقامُوا بفُروضِ الدِّين، فأدَّوا الصَّلاة، وأعطَوا الزَّكاة، فهمْ إخوانُكمْ في الدِّين، لهمْ ما لكم، وعليهمْ ما عليكم. ونبيِّنُ تَفاصيلَ الأحكامِ والأمورِ التي تَتعلَّقُ بالمشرِكينَ وأحوالِ الحَرب، لِمَنْ يتأمَّلُ فيها ويفكِّر، ويَعتَبِرُ بها فيَعمل.
﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ الۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ﴾ [التوبة :12]
فإذا لم يَفعَلوا ذلكَ ونَقَضُوا عهدَهمْ بعدَما عَقدُوهُ ووثَّقوه، وعابُوا دينَكمْ وقَدَحوا فيه، فقاتِلوا رؤوسَ المشرِكينَ وقادةَ الكُفر، فلا أمانَ لهمْ على مِيثاق، ولا وفاءَ لهمْ بعَهد، ولعلَّهمْ بذلكَ يكفُّونَ عنِ الطَّعنِ في دينِكم، ويرجِعونَ عمّا همْ فيهِ منَ الكُفرِ والضَّلال.
﴿أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [التوبة :13]
ألاَ تُقاتِلونَ المشرِكينَ الذينَ خانُوا عهدَهمْ في صُلحِ الحُدَيْبيةِ وغَيرِه، واجتَمعوا في دارِ الندوةِ وحاولوا إخراجَ الرسُولِ منْ مكَّة، فقدَّرَ اللهُ لهُ الهِجرةَ بتَدبيرٍ مِنْ عندِه، وهمُ الذينَ بَدَؤوكمْ بالمُعاداة، بينما كانَ الرسُولُ صلى الله عليه وسلم يَدعوهمْ بالحُسنَى ويُلزِمُهمُ الحجَّةَ بالكتابِ وبالتحدِّي، وهمُ الذينَ قاتَلوكمْ أوَّلَ مرَّةٍ يومَ بَدر، وقدْ قالوا بعدَ أنْ بلَغَهمْ سَلامةُ القافِلة: لا نَنصرفُ حتَّى نَستأصِلَ محمَّداً ومَنْ معَه.
أتَترُكونَ حربَهمْ خَوفاً مِنْ أنْ يَنالَكمْ مَكروهٌ منهم؟ فلا تَخشَوْهُم، واللهُ أحقُّ أنْ يُخشَى مِنْ سَطوتهِ وعِقابهِ إذا خُولِفَ أمرُه، فبيَدهِ الأمرُ كلُّه، فقاتِلوا أعداءَكمُ المشرِكين، إذا كنتُمْ مؤمِنينَ بأنَّ النَّفعَ والضُّرَّ بيدِ اللهِ وحدَه، وأنَّهُ لا يُخشَى إلاّ منه.
﴿قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ اللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ﴾ [التوبة :14]
حارِبوهمْ أيُّها المسلِمون، يَقْتُلْهمُ اللهُ بأيديكم، ويُذِلَّهمْ بالأسرِ تحتَ أيديكم، ويَغْلِبْكمْ عليهم، ويُبْرِئْ صُدورَ طائفةٍ منَ المؤمِنين، لِمَا نالَهمْ منَ الظُّلمِ والأذَى منْ قِبَلِهم.
﴿وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة :15]
ويُذْهِبْ غَيظَ قُلوبِ المؤمِنينَ(47) بقتلِ أعدائهمْ وإذلالِهم، الذينَ كانوا يُعَذِّبونَهم، ويأخذونَ أموالَهم، ويقاتِلونَهم. ويَغفِرُ اللهُ لِمَنَ تابَ مِنْ كُفره، بهدايةِ مَنْ شاءَ منهمْ إلى طَريقِ الحقّ، وقدْ عَلِمَ استِعدادَهُمْ للإيمان، وعزمَهمْ على اتِّباعِ دِينه، وهوَ سُبحانَهُ عليمٌ بما يُصْلِحُ شَأنَهم، حَكيم، يقدِّرُ ما فيهِ مَصلحةُ عِبادِه.
(47) {غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}: كَرْبَها ووَجْدَها. (البغوي). الغيظ: الغضبُ المشوبُ بإرادةِ الانتقام. والمرادُ بذهابِ الغيظِ استراحتُهم من تعبِ الغيظ، وتحرُّقِ الحقدِ. (ينظر التحرير والتنوير).
﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تُتۡرَكُواْ وَلَمَّا يَعۡلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَلَمۡ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا الۡمُؤۡمِنِينَ وَلِيجَةٗۚ وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [التوبة :16]
أمْ ظننتُمْ أيُّها الناسُ أنْ تُهْمَلُوا ولا تُخْتَبروا بما يُظْهِرُ قوَّةَ إيمانِكمْ وإخلاصَكمْ لدينِكم، فيَتبيَّنَ الذينَ جاهَدوا منكمْ، ولم يتَّخِذوا منْ دونِ اللهِ ولا رَسولهِ ولا المؤمِنينَ بِطانةً وأصحابَ سِرٍّ يُوَالُونَهمْ ويَتلَقَّونَ منهمُ الأوامِر، بلْ همْ في الظَّاهرِ والباطنِ سَواء، يُوادُّونَ المؤمِنينَ ويَكونونَ في صفِّهمْ دائماً؟ وهوَ سُبحانَهُ عالِمٌ بشُؤونِكم، مطَّلعٌ على أسرارِكم.
﴿مَا كَانَ لِلۡمُشۡرِكِينَ أَن يَعۡمُرُواْ مَسَٰجِدَ اللَّهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم بِالۡكُفۡرِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ وَفِي النَّارِ هُمۡ خَٰلِدُونَ﴾ [التوبة :17]
لا يَنبغي للمُشرِكينَ أنْ يَعْمُروا بيوتَ اللهِ التي بُنيَتْ على اسمهِ وحدَهُ لا شَرِيكَ له(48) ، وهمْ يَشهَدونَ على أنفُسِهمِ بأنَّهمْ يَكفُرونَ بما أُنْزِلَ على الرسُولِ صلى الله عليه وسلم، وأنَّهمْ يُشرِكونَ بالله، فيقولون: لبَّيكَ لا شَريكَ لك، إلا شَريكاً هوَ لك، تَمْلِكهُ وما مَلَك. سَبحانه. فهؤلاءِ قدْ بَطَلَتْ أعمالُهمْ؛ لشِركِهم، فلا يُعْتَدُّ بها، وعقوبتُهمْ أنْ يُعَذَّبوا في النارِ مؤبَّدينَ فيها.
(48) عَمْرُ المساجد: العبادةُ فيها؛ لأنها إنما وُضِعَتْ للعبادة، فعَمْرُها بمن يحلُّ فيها من المتعبِّدين، ومن ذلك اشتقَّتِ العُمرة. (التحرير والتنوير).
﴿إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ اللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَى الزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا اللَّهَۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَـٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الۡمُهۡتَدِينَ﴾ [التوبة :18]
إنَّما يَعْمُرُ مساجِدَ الله حقًّا بما يُرضيهِ سُبحانَه، مَنْ آمنَ بهِ واحِداً لا شَريكَ له، وبيَومِ القِيامةِ وما فيهِ مِنْ ثَوابٍ وعِقاب، وواظبَ على أداءِ الصَّلاةِ كما شَرعَها الله، وأعطَى المُحتاجينَ منَ المالِ المُستَحَقِّ عليه، ولم يَخَفْ أحداً إلاّ الله، فلمْ يَعْبُدْ سِواه، ولم يأتَمِرْ بغَيرِ أمرِه، فأولئكَ السَّائرونَ في طَريقِ الحقّ، الفائزونَ بالجنَّة.
﴿۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ الۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ الۡمَسۡجِدِ الۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالۡيَوۡمِ الۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ اللَّهِۗ وَاللَّهُ لَا يَهۡدِي الۡقَوۡمَ الظَّـٰلِمِينَ﴾ [التوبة :19]
أجعلتُمْ أيُّها الناسُ سِقايةَ الحُجّاجِ وخِدمةَ المسجدِ الحرام، كإيمانِ مَنْ آمنَ باللهِ وباليَومِ الآخِر، وجِهادِ مَنْ جاهدَ في سَبيلِ الله؟ ليسُوا سَواء، فالآخِرُ خَيرٌ وأحسَن، معَ فَضلٍ في الأوَّلِ لا يُنْكَر. واللهُ سُبحانَهُ لا يَهدي مَنِ انهمَكَ في الضَّلال، وأصرَّ على الخطأ.
وقدْ كانَ حديثٌ بينَ بعضِ الصَّحابةِ رضيَ اللهُ عنهمْ حولَ ذلك، فنزَلتِ الآيةُ وبيَّنتْ أنَّ الجهادَ أفضل، كما في صَحيحِ مُسلِم.
﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ الۡفَآئِزُونَ﴾ [التوبة :20]
إنَّ الذينَ آمَنوا باللهِ ولم يُشرِكوا بهِ شَيئاً، وأنفَقوا أموالَهمْ لنُصرةِ دِينِه، وبَذَلوا مُهَجَهمْ جِهاداً في سَبيلِه، همْ أكبرُ درَجة، وأرفَعُ شأناً عندَ اللهِ منَ الذينَ افتخَروا بما دونَ ذلك، وآثَروا السِّقايةَ والعِمارةَ في المسجدِ الحرام، وأولئكَ المؤمنونَ والمجاهِدونَ همُ الذينَ حَازوا الخيرَ والدرَجاتِ العُليا.