وهُناكَ مِنَ الأعرابِ مَنْ يؤمِنُ باللهِ وباليَومِ الآخِر، ويَعُدُّ ما يُنفِقهُ في سَبيلِ اللهِ تَقَرُّبًا إلى الله، ويَبتَغونَ بذلكَ دُعاءَ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم لهم، فقدْ كانَ يَدعو للمُتصَدِّقينَ بالخَيرِ والبَركة، ويَستَغفِرُ لهم، ألاَ إنَّ ذلك حاصِلٌ لهم، فسيُقرِّبُهمْ عملُهمْ هذا إلى الله، ويُدخِلُهمْ ربُّهمْ في رَحمتِهِ الواسِعة، وهوَ يَغفِرُ ذُنوبَ عبادهِ المؤمنينَ التائبينَ على كثرَتِها، ويَرحَمُهمْ برَحمتِه.
والسابِقونَ الأوَّلونَ ممَّنِ اعتَنقوا الإسْلامَ وناصَروا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم منَ المهاجِرينَ الذينَ هاجَروا إلى المدينةِ دارِ الإسْلام، ومنَ الأنصارِ أهلِ المدينةِ الذينَ آوَوا إخوانَهمُ المهاجِرينَ وآزَروهم، والذينَ لَحِقوا بهمْ منْ بعدِهمْ بالإيمانِ والطَّاعةِ إلى يَومِ القيامة، فاقتَدَوا بهمْ واتَّبَعوهمْ بإحسَان، ولم يَقولوا فيهمْ سُوءًا، فأولئكَ رَضِيَ اللهُ عنهمْ بقَبولِ طاعتِهمْ وارتِضاءِ أعمالِهم، ورَضُوا همْ عنهُ بما نالُوهُ منَ النَّعيمِ والرَّحمةِ الواسِعة، وقدْ هيَّأ لهمْ في الآخِرَةِ جنّاتٍ عالِيات، تَجري مِنْ تحتِها الأنهار(53)، مُستَقِرِّينَ فيها أبداً، وذلكَ هوَ الفَلاحُ والنَّجاح، والسَّعادةُ والهَناء.
وممَّا قالَهُ ابنُ كثيرٍ في هذا رَحِمَهُ الله: فيا ويْلَ مَنْ أبغَضَهم، أو سَبَّهُم، أو أبغَضَ أو سبَّ بعضَهم... فأينَ هؤلاءِ منَ الإيمانِ بالقُرآن، إذْ يَسُبُّونَ مَنْ رَضِيَ اللهُ عنهم؟ وأمّا أهلُ السنَّةِ فإنَّهمْ يَترَضَّونَ عمَّنْ رَضِيَ اللهُ عنهم... ويُوالُونَ مَنْ يُوالي الله، ويُعادُونَ مَنْ يُعادِي الله، وهمْ مُتَّبِعونَ لا مُبتَدِعون...
(53) {تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ}: خالفتْ هذه الآيةُ عندَ معظمِ القرّاءِ أخواتها، فلم تُذكَرْ فيها (مِنْ) مع (تَحتِها) في غالبِ المصاحفِ وفي روايةِ جمهورِ القرّاء، فتكونُ خاليةً من التأكيد، إذ ليس لحرفِ (مِنْ) معنًى مع أسماءِ الظروفِ إلا التأكيد، ويكونُ خلوُّ الجملةِ من التأكيدِ لحصولِ ما يُغني عنه من إفادةِ التقوِّي، بتقديمِ المسندِ إليه على الخبرِ الفعلي، ومن فعلِ {أَعَدَّ} المؤذنِ بكمالِ العناية، فلا يكونُ المعَدُّ إلا أكملَ نوعه. وثبتتْ (مِنْ) في مصحفِ مَكة، وهي قراءةُ ابنِ كثيرٍ المكي، فتكونُ مشتملةً على زيادةِ مؤكدَين. (التحرير والتنوير).
وقُلْ للناسِ أيُّها النبيّ: اعمَلُوا ما شِئتُمْ منَ الأعمال، خَيرًا كانتْ أو شَرًّا، سِرًّا كانتْ أو عَلانية، فسَوفَ يُظهِرُها الله، فتُعرَضُ عليهِ يومَ القِيامة، كما تُعْرَضُ على الرسُول صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمِنين، وسَوفَ تُرجَعونَ إلى الله، عالِمِ الغَيبِ والشهادة، المُطَّلِعِ على الأعمالِ كلِّها، الخَبيرِ بنيّاتِ أصحابِها، فيُخبِرُكمْ بما كنتُمْ تَعمَلونَ في الدُّنيا وما كنتُمْ تَقصِدونَ بها، وسيُجازيكمْ عليها حَسَبَ ذلك.
كانَ أبو عامرٍ الراهبُ (الكذّابُ) مِنَ الخَزْرَج، ترَهَّبَ في الجاهليَّة، وصارَ لهُ شرَفٌ عندَهم، فلمّا اجتمعَ المسلِمونَ على رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَسَدَهُ وعاندَه، وكانَ معَ المشرِكينَ يومَ أُحُد، ثمَّ التحَقَ بمَلِكِ الرومِ وأقامَ عندَه، ووَعدَهُ مُساعدَةَ قومِه، فأعلَمَ بعضَ أهلِ النِّفاقِ والرَّيبِ أنَّهُ سيَقدُمُ بجَيشٍ يُقاتِلُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأمرَهمْ أنْ يَبنوا مَعقِلاً يكونُ مَرصَدًا لهُ إذا قَدِمَ عليهم، فشَرَعوا في بناءِ مَسجدٍ مُجاورٍ لمسجدِ قُباء، فبَنَوهُ وأحكمُوه، وطلَبوا منْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يأتيَ ويُصلِّي فيه، ويَدعوَ لهم بالبرَكة، ليَحتَجُّوا بصَلاتهِ عليه الصلاةُ والسلامُ فيهِ على تَقريرِهِ وإثباتِه، فعصمَهُ اللهُ منْ ذلكَ بالوحي، وعندَ رُجوعهِ منْ غزوةِ تبوكَ أمرَ بهدْمِه... قالَ اللهُ تعالَى ما مَعناه: وهؤلاءِ القومُ الذينَ بَنَوا مَسجِدًا، بنَوهُ ليُلحِقوا الضَّررَ بالمسلِمين، وليَكْفُروا فيه، ويَتفَرَّقوا بهِ عنِ المسلِمينَ منْ أهلِ قُباء، الذينَ كانوا يُصَلُّونَ في مَسجِدِهم، وليَكونَ مَعقِلاً ومكانَ إرصَادٍ وترقُّبٍ لمَنْ عادَى اللهَ ورَسولَهُ مِنْ قَبل.
ويَحلِفُ هؤلاءِ القومُ أنَّهمْ ما أرادوا ببِناءِ هذا المسجدِ إلاّ النيَّةَ الصالحة، ليُعَمَّرَ بذكرِ الله، وللتوسِعةِ على المسلِمين، واللهُ يَشهَدُ أنَّهمْ كاذِبونَ فيما حَلَفوا فيهِ ونوَوا عليه.
لا يَزالُ بِناؤهمُ الذي سَمَّوهُ مَسجِدًا شَكًّا في مُعتَقَدِهم، ونِفاقًا يُبطِنونَه، وقلَقًا واضطِرابًا في قُلوبِهم، إلاّ أنْ تَتقَطَّعَ وتَتفرَّقَ قُلوبُهمْ ويَموتوا. واللهُ عَليمٌ بخَلقِهِ وما يَعمَلون، حَكيمٌ فيما يَفعَلُ بهم.
لقدْ عاوَضَ اللهُ عِبادَهُ المؤمِنينَ على أنفسِهمْ وأموالِهمْ إذا بَذلوها في سَبيلهِ بأنَّ لهمُ الجنَّة، يُقاتِلونَ في سَبيلِ الله، لا هدفَ لهمْ مِنْ وراءِ ذلك سِوَى إعلاءِ كلمتِه، فيَقتلونَ الكفّار، أعداءَ اللهِ وأعداءَ دينِه، ويُقتَلونَ بأيديهم، فيَستَشهِدونَ في سَبيلِه.
هذا وَعدٌ منَ اللهِ تعالَى، كتبَهُ على نَفسِهِ الكريمة، وأثبتَهُ في كُتُبِهِ المُنْزَلةِ على رُسُلِهِ مِنْ أُولي العَزم، في التوراةِ المُنْزَلَةِ على موسَى، والإنجيلِ المُنْزَلِ على عيسَى، والقُرآنِ المُنْزَلِ على مُحَمَّدٍ، عليهمْ جميعًا صلواتُ اللهِ وسَلامُه.
ولا أحدَ مِثْلُ اللهِ في الوفاءِ بعَهدِه، فهوَ لا يُخلِفُ الميعادَ أبَدًا.
فاستَبشِروا مَعْشرَ المجاهِدينَ في سَبيلِه، وابتَهِجوا ببَيعِ أنفسِكمْ وأموالِكمْ لله، الذي يأخذُكمْ إلى ساحاتِ الجِهاد، ومنها إلى جَنّاتِ اللهِ الخالِدات، كما وَعدَكمُ اللهُ بذلك، وهوَ الفَوزُ الذي لا فَوزَ أعظمُ منه، والنَّعيمُ المُقيمُ الذي لا سَعادةَ وراءَه.
- ما صحَّ في حُكمِ الله، وما استقامَ للنبيِّ والمؤمنينَ معَهُ حقَّ الإيمان، أنْ يَطلُبوا المغفِرةَ للمُشرِكين، ولو كانوا منْ ذَوي قَرابتِهم، منْ بعدِ ما عَرَفوا أنَّهمْ ماتوا كُفّاراً، وأنَّهمْ منْ أهلِ النار.
وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ دخلَ على عَمِّهِ أبي طالبٍ وهوَ يَحتَضِر، فحاوَلَ معَهُ ليَقولَ "لا إله إلاّ الله" فلمْ يَفعَل، حتَّى مات، وقالَ أخيراً إنَّهُ على مِلَّةِ أبيهِ عبدِالمُطَّلِب، فقالَ صلى الله عليه وسلم: "لأستَغفِرَنَّ لكَ ما لم أُنْهَ عَنك". فنَزَلت، كما وردَ في الصَّحيحَينِ وغيرِهما، عنْ سعيدِ بنِ المسيِّبِ عنْ أبيه.
ما كانَ يَنبَغي ولا يَستَقيمُ لأهلِ المدينةِ ومَنْ حَولَهمْ مِنْ أحياءِ العَربِ أنْ يَتَخلَّفوا عنْ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غَزوةِ تَبوك، ولا أنْ يَترَفَّعوا بأنفُسِهمْ عنْ نَفسِهِ الكريمة، بلْ كانَ عليهمْ أنْ يَتقَدَّموا ويُكابِدوا ما كابدَهُ منَ المَشاقّ، وإنَّهمْ بتَخلُّفِهمْ قدْ حرَموا أنفُسَهمْ ثوابًا عظيمًا، فإنَّ المُشارِكينَ في الجِهادِ ولو لم يُحارِبوا، لا يُصيبُهمْ شَيءٌ مِنَ العَطش، أو التعَب، أو المَجاعة، في طَاعةِ اللهِ وجهادِ أعدائه، ولا يَنزِلونَ مَنزِلاً يُضَيِّقونَ بهِ صُدورَ الكفّارِ ويُرهِبونَهم، ولا يُصيبونَ مِنْ عَدوٍّ قَتلاً أو أسْرًا، أو غَنيمةً أو هَزيمة، إلاّ كُتِبَ لهمْ بهذهِ الأعمالِ أجرٌ كبيرٌ وثَوابٌ جَزيل، واللهُ لا يُضِيعُ إحسانَهمْ وحِرصَهمْ وتَفانيهمْ في إعلاءِ كلمةِ الله.
ولا يُنفِقُ هؤلاءِ المجاهِدونَ نَفَقة، قليلةً كانتْ أو كَثيرة، ولا يَتجاوزونَ في السَّيرِ إلى الأعداءِ واديًا، إلاّ أُثبِتَ لهمْ ذلكَ في صَحائفِ أعمالِهم، ليُجزَوا عليها أحسنَ وأفضَلَ الجَزاء، في يَومٍ أحوجَ ما يكونُ فيهِ النَّاسُ إلى الحسَنات.