﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنٗاۚ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ﴾ [التوبة :124]
وإذا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ منْ سُوَرِ القُرآنِ على النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم، قالَ بعضُ المنافِقينَ لبَعضِهمْ استهزاءً: أيُّكمْ ازدادَ بها إيمانًا ويَقينًا؟
فأمّا المؤمِنونَ فقدْ زادَتهُمُ الآياتُ القُرآنيَّةُ إيمانًا وتَصديقًا، وهمْ يَستَبشِرونَ خَيراً بنزولِها، لأنَّها تَزيدُ مِنْ حَسناتِهمْ ودرَجاتِهم.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ﴾ [التوبة :125]
وأمَّا الذينَ في قُلوبِهمْ شَكٌّ ونِفاق، فزادَتْهمْ شَكًّا إلى شَكِّهم، ونِفاقًا إلى نِفاقِهم، لأنَّهمْ يَكفُرونَ بما أُنزِلَ كما كفَروا بما أُنزِلَ سابقًا، واستَمرُّوا حتَّى ماتُوا على الكُفر.
﴿أَوَلَا يَرَوۡنَ أَنَّهُمۡ يُفۡتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوۡ مَرَّتَيۡنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمۡ يَذَّكَّرُونَ﴾ [التوبة :126]
ألا يَرى هؤلاء المنافِقونَ أنَّهمْ يُختَبَرونَ ويُبتَلُونَ في كلِّ عامٍ منَ الأعوامِ مرَّةً أو مرَّتَين، بالأمراضِ والشدَائد، أو الغزوِ والجِهاد، فيَظهَرُ نِفاقُهم، ونَقضُهمْ لعهودِهم، ثمَّ لا يَرجِعونَ عنْ نِفاقِهم، ولا يتَّعِظونَ بما يُصيبُهمْ ويَفضَحُ أمرَهم، ولا يَعتَبِرونَ بما حولَهم، منَ النَّصرِ والظَّفَرِ الذي مَنَّ اللهُ بهِ على رَسولهِ وعلى المؤمِنين؟
﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ نَّظَرَ بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ هَلۡ يَرَىٰكُم مِّنۡ أَحَدٖ ثُمَّ انصَرَفُواْۚ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ﴾ [التوبة :127]
وإذا ما أُنزِلَتْ سورةٌ على رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَرِهَ المُنافِقونَ أنْ يَسمَعوا كلامَ الله، فتَلَفَّتَ بعضُهمْ إلى بَعض، وقالوا: هلْ يَراكمْ أحَدٌ إذا قُمتُمْ منْ هذا المَجلِس؟ ثمَّ ولَّوا جميعًا مُنصَرِفين؛ لشدَّةِ كراهَتِهمْ للقُرآن، وبُغضِهمْ لمجالسِ الإيمان، صَرَفَ اللهُ قُلوبَهمْ عنِ الإيمانِ بحسَبِ انصرافِهمْ عنْ ذلك المجلِس، ذلكَ بأنَّهمْ قومٌ جاهِلون، أو حَمقَى غافِلون، لا يَفهَمونَ ما يُصلِحُهمْ ممّا يَضرُّهم.
﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِالۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾ [التوبة :128]
لقدْ بعثَ اللهُ فيكمْ رسُولاً رفيعَ القَدْر، عظيمَ الشَّأن، تَعرِفونَ حسَبَهُ ونسَبَه، وهوَ مِنْ أشرَفِكمْ وأفضَلِكمْ، شاقٌّ وصَعبٌ عليهِ أنْ يَرَى أذًى وضررًا يَلحَقُكم، أو عَذابًا يُصيبُكم، حريصٌ على هدايتِكمْ وصَلاحِكم، وما يَنفَعُكمْ في دُنياكمْ وآخِرَتِكم، كثيرُ الرَّحمةِ بالمؤمِنين، رَحيمٌ بالمُطيعينَ منكمْ والمُذنِبين.
﴿فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ حَسۡبِيَ اللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَهُوَ رَبُّ الۡعَرۡشِ الۡعَظِيمِ﴾ [التوبة :129]
فإنْ أعرَضوا عنِ الإيمانِ بك، وعمّا جئتَهمْ بهِ منَ الشَّرعِ العَظيم، فلا تأبَهْ بهم، وامْضِ في تَبليغِ رِسالةِ ربِّك، وقُل: اللهُ يَكفيني جميعَ ما أهَمَّني، وهوَ مُؤيِّدي وناصِري، لا إلهَ غيرُه، بهِ وَثِقْت، وعليهِ اعتَمدت، وإليهِ فوَّضتُ أمري، وهوَ ربُّ العَرشِ العَظيم.
والعَرْشُ أعظمُ المخلوقات، لا يَعرِفُ مقدارَ عظَمتِهِ إلاّ الله. قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما السَّماواتُ السبعُ معَ الكُرسيِّ، إلاّ كحَلْقَةٍ مُلقاةٍ بأرضِ فَلاة، وفَضلُ العَرشِ على الكُرسيِّ كفَضلِ تلكَ الفَلاةِ على الحَلْقَة". رواهُ ابنُ حِبّان في صَحيحه.
سورة يونس - مكية - عدد الآيات: 109
10
﴿الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ الۡكِتَٰبِ الۡحَكِيمِ﴾ [يونس :1]
الحروفُ المُقَطَّعةُ لم يَرِدْ في مَعناها حديثٌ ثابِتٌ صحيح.
هذهِ آياتُ القُرآنِ المُحكَمِ بأوامِرِ اللهِ ونَواهيه، الحاكمِ بالعَدل.
﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ الۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ﴾ [يونس :2]
هلْ كانَ أمرًا عَجَبًا للنَّاسِ أنْ أوحَينا إلى رَجُلٍ منهم، وهوَ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، ليُعلِمَهمْ دِينَ الله، ويُبَلِّغَهمْ أوامِرَه، ويُحَذِّرَهمْ مِنْ مُخالفَتِها، ويُبَشِّرَ المؤمِنينَ أنَّ لهمْ عندَ ربِّهمْ أجرًا حسَنًا ومَنزِلَةً رَفيعَة؟!
قالَ الكافِرونَ المُتَعجِّبونَ مِنْ هذا الأمر، المستَبعِدونَ لوَحي الله: إنَّ مُحمَّدًا رَجُلٌ ساحِرٌ ظاهِرٌ سِحرُه، وليسَ نبيًّا. قالوا ذلكَ عِنادًا ولَجاجة، على الرغمِ منْ أنَّهُ جاءَهمْ بمعجِزاتٍ لا يَقدِرُ عليها السحَرَةُ وغيرُهم.
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ اسۡتَوَىٰ عَلَى الۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ الۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمۡ فَاعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس :3]
أيُّها النَّاس، إنَّ ربَّكمْ وربَّ العالَمِ كُلِّهِ هوَ الله، الذي خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيّام، ثمَّ استوَى على العَرش، بالمعنَى الذي أرادَهُ سُبحانَهُ وتعالَى. يُدَبِّرُ أمرَ الخلائقِ ويَقضي فيهمْ وحدَه، ويُقَدِّرُ ما يَشاء، لا يَغفُلُ عنْ شَيء، ولا يَشغَلُهُ شَأنٌ عنْ شَأن، جَلَّتْ قُدرَتُه، وعَظُمَتْ حِكمتُه، لا يَشفَعُ أحدٌ مِنَ الشَّفَعاءِ المقَرَّبينَ إلى اللهِ لأحدٍ إلاّ بعدَ إذنه. ذلِكمْ هوَ اللهُ ربُّكم، لا ربَّ لكمْ سِواه، فوَحِّدوهُ ولا تُشرِكوا بهِ شَيئاً، أفلا تَتَّعِظونَ وتَتذكَّرونَ أنَّ ما فُصِّلَ لكمْ هوَ الحقّ؟!
﴿إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗاۖ وَعۡدَ اللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ يَبۡدَؤُاْ الۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ لِيَجۡزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ بِالۡقِسۡطِۚ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ﴾ [يونس :4]
إلى اللهِ رجوعُكمْ جَميعًا أيُّها النَّاسُ يومَ البَعث، وعدٌ منَ اللهِ بذلكَ مُؤكَّد، إنَّهُ بدَأ خَلْقَكم، وسيُعيدُ خَلْقَكمْ بعدَ مَوتِكمْ كما بدَأ، ليُحاسِبَ كُلاًّ بما عَمِل، ويَجزيَ مَنْ آمنَ وعَمِلَ صالِحاً بالعَدلِ والجزاءِ الأوفَى، ويَجزيَ الذينَ كفَروا بشَرابٍ مِنْ ماءٍ شَديدِ الحَرارةّ، وعَذابٍ مؤلِمٍ مُوجِع، بسبَبِ إصرارِهمْ على الكُفر، ورفضِهمُ اتِّباعَ الحقّ.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَالۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ الۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ﴾ [يونس :5]
هوَ الخالِقُ الحقّ، القادِرُ العَظيم، الذي جَعلَ في الشَّمسِ ضِياءً وشُعاعًا يُعطي حرارةً وضَوءًا، وهي نَجْمٌ عَظيم، وكُتلَةٌ مُلتَهِبةٌ مُضيئةٌ بذاتِها. وجعلَ في القَمرِ شُعاعًا ونُورًا منْ غيرِ حَرارة، ونُورهُ مَعكوسٌ منْ نُورِ الشَّمس. وقَدَّرَ في مَسيرِهِ وتَنقُّلهِ أنْ يَكونَ في مَنازِل، ثمَّ بُروج، يَعرِفُها عُلماءُ الفَلَكِ خاصَّة، لتَعرِفوا بحركةِ الشَّمسِ والقَمرِ عددَ الأيّامِ والشُّهورِ والسِّنين، وتَعرِفوا مَواسِمَ زرُوعِكمْ وحِسابَ مُعاملاتِكمْ وآجالَها، وفوائدَ أخرَى لهما يَعرِفُها الإنسانُ في حياتهِ العِلميَّةِ والعمَليَّة. ما خَلقَ اللهُ ذلكَ كُلَّهُ إلاّ لحِكمةٍ عظيمةٍ ومَصلحَةٍ مؤكَّدة. ويُبيِّنُ هذهِ الآياتِ والأدلَّةَ لمَنْ عَلِمَ الحِكمةَ منْ خَلقِ الله، واستَدلَّ بهِ على وُجودِهِ وإبداعِهِ وحِكمتِه.
﴿إِنَّ فِي اخۡتِلَٰفِ الَّيۡلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَّقُونَ﴾ [يونس :6]
إنَّ في تَعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهار، بأنْ يَذهَبَ هذا ويَجيءَ ذاك، والعَكس، بحَسَبِ طُلوعِ الشَّمسِ وغُروبِها، وما خَلقَ اللهُ في السَّماواتِ والأرضِ منْ أنواعِ الحيَوانِ والنباتِ والجَماد، في إبداعٍ يُدهِشُ العُقول، وإحكامٍ يَشهَدُ بهِ المؤمِنُ والكافِر، كلُّ ذلكَ آياتٌ عَظيمةٌ وحُجَجٌ باهِرةٌ تَدُلُّ على وُجودِ اللهِ ووَحدانيَّتِهِ وكَمالِ قُدرتِهِ وبالِغِ حِكمتِه، هذا لمَنْ عَقَلَ وتَدبَّر، واحترزَ منَ الحسَابِ والعِقاب.
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا وَاطۡمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ﴾ [يونس :7]
إنَّ الذينَ كفَروا بيَومِ البَعث، وقالوا لا جَزاءَ على الأعمَال، واكتَفَوا بما همْ فيهِ وعَليهِ منَ الحياةِ الدُّنيا ومَظاهِرِها، ورَكَنوا إليها دونَ أنْ يُفَكِّروا بثَوابٍ أو عِقاب، وغَفَلوا عنْ آياتِ اللهِ المبثوثةِ في الكون، ولم يَتفكَّروا فيها كما يَنبغي، ولم يَعرِفوا الحِكمةَ منْ خَلقِهمْ ومِنْ خَلْقِ الدنيا كلِّها،
﴿أُوْلَـٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾ [يونس :8]
أولئكَ مَقَرُّهمُ النارُ في يَومِ القِيامة، جَزاءَ ما كانوا يَعمَلونَ مِنْ آثام، ولا يَعتَبِرونَ منْ آيات، ولا يَستَجيبونَ لنِداءِ الحَق، ولا يَقومونَ بوَظيفةِ المَخلوق.
﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَٰتِ يَهۡدِيهِمۡ رَبُّهُم بِإِيمَٰنِهِمۡۖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ الۡأَنۡهَٰرُ فِي جَنَّـٰتِ النَّعِيمِ﴾ [يونس :9]
إنَّ الذينَ آمَنوا بما يَجبُ الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمَالَ الصالِحة، الموافِقةَ للشَّريعة، الخالِصةَ لوجهِ الله، يُرشِدُهمْ رَبُّهمْ بسَببِ إيمانِهمُ المقرونِ بعَمَلِهمْ إلى جنّاتٍ يَلقَونَ فيها السَّعادةَ والنَّعيمَ المُقيم، تَجري منْ خِلالِها الأنهَار، ممّا يَزيدُ في سَعادتِهمْ ونَعيمِهم.
﴿دَعۡوَىٰهُمۡ فِيهَا سُبۡحَٰنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞۚ وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ الۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ الۡعَٰلَمِينَ﴾ [يونس :10]
ودُعاءُ أهلِ الجنَّةِ فيها: "سُبحَانكَ اللهمَّ"، ويَعني تَنزِيهَ اللهِ مِنْ كلِّ نَقص.
وتَحِيَّتُهمْ فيها "سَلام"، الذي يُحَيِّي بعضُهمْ بهِ البَعض، ويَعني: سَلامتَهمْ منْ كلِّ مَكروه. وخاتِمةُ دُعائهمْ أنِ "الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين"، فاللهُ مَحمودٌ دَائماً.
يَقولُ ذلكَ أهلُ الجنَّةِ لِما يَرَونَ منْ نِعَمِ اللهِ المُضاعَفَةِ عَليهم.
وفي صَحيحِ مُسلم، أنَّ أهلَ الجنَّةِ "يُلهَمونَ التَّسبيحَ والتَّحميدَ كما يُلهَمونَ النَّفَس"، فلا يَقولونَ ذلكَ تَكليفاً وإلزامًا، فقدِ انتهَى ما هُمْ مُكلَّفونَ بهِ بانتِهاءِ الدُّنيا.
﴿۞وَلَوۡ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسۡتِعۡجَالَهُم بِالۡخَيۡرِ لَقُضِيَ إِلَيۡهِمۡ أَجَلُهُمۡۖ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ﴾ [يونس :11]
ولو يُعَجِّلُ اللهُ سُبحانَهُ في الاستِجابةِ لدَعوةِ الناسِ بالشرِّ على أنفُسِهمْ كما يَستَعجِلونَ طلبَ الخَيرِ ويَنالونَه، لعَجَّلَ بأجَلِهمْ وقضَى عَليهم، كما كانَ الكفّارُ يَطلبونَ إمطارَهمْ بالحِجارةِ منَ السَّماء، أو يَنتَظِرونَ العَذاب...
كما ذُكِرَ أنَّ الآيةَ في دُعاءِ النَّاسِ على أنفسِهمْ وأولادِهمْ وأموالِهمْ في حالِ ضَجَرِهم، وأنَّ اللهَ لا يَستَجيبُ لهم، ولو استجابَ لهمْ لأهلَكَهم.
فنَترُكُ الذينَ لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ في ضَلالِهمْ وأعمالِهمُ السيِّئةِ يَترَدَّدون، وفي عَمايَتِهمْ يَتخَبَّطون، إمهالاً لهمْ واستِدراجًا، حتَّى يأتيَهمُ الأجَلُ المَعلوم.
﴿وَإِذَا مَسَّ الۡإِنسَٰنَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنۢبِهِۦٓ أَوۡ قَاعِدًا أَوۡ قَآئِمٗا فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّمۡ يَدۡعُنَآ إِلَىٰ ضُرّٖ مَّسَّهُۥۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡمُسۡرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [يونس :12]
وإذا أصَابَ الإنسَانَ مُصيبَة، كمَرَض، أو خَوف، أو جُوع، جَزِعَ وقَلِق، ودَعانا في ذِلَّةٍ وخُشوع، مُضطَجِعًا، أو قاعِدًا، أو قائمًا، في كلِّ أحوالِه، لنَكشِفَ ما به. فلمّا أزَلنا ما أصابَهُ مِنْ ضُرّ، فشَفَيناه، أو أغنَيناه، أعرَض، واستمرَّ على ما كانَ عليه قبلَ أنْ يُصاب، وكأنَّهُ ليسَ ذلكَ الشَّخصَ الذي كانَ يَلهَجُ بالدُّعاءِ ويُلِحُّ في طلَبِ الإجابة.
وزُيِّنَ مثلُ هذ العَملِ المُشينِ في قُلوبِ المُسرِفين، المُنهَمِكينَ في الشَّهوات، المُعرِضينَ عنْ ذكرِ الله.
﴿وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَا الۡقُرُونَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِالۡبَيِّنَٰتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي الۡقَوۡمَ الۡمُجۡرِمِينَ﴾ [يونس :13]
ولقدْ أهلكنا أجيالاً منْ قبلِكمْ يا أهلَ مكَّة، كقَومِ نُوح، وعَاد، وثَمود، لمـّا تمادَوا في كُفرِهمْ وضَلالِهم، وجاءَتهُمْ رسُلُهمْ بالمُعجِزاتِ والآياتِ البيِّناتِ على صِدقِهمْ وصِحَّةِ ما جاؤوا به، فكابَروا، وكذَّبوا، وأبَوا أنْ يُؤمِنوا، فكانَ عاقِبتَهُمُ الإهلاكُ، وهوَ الجزاءُ المُناسِبُ للمُجرِمينَ المستَكبِرين، الرافِضينَ للحَقّ، ولرُسُلِ الحَقّ.
﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكُمۡ خَلَـٰٓئِفَ فِي الۡأَرۡضِ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لِنَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ﴾ [يونس :14]
ثمَّ جَعلناكمْ جيلاً يَخلُفُهمْ بعدَ إهلاكِهم، لنَنظُرَ كيفَ تَعملون، فإنْ كنتُمْ مثلَهمْ فاحذَروا، وإنْ أطعتُمْ كنتُمْ حامِلي أمانةٍ ومُستَخلَفينَ بحَقّ.
﴿وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَاتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا ائۡتِ بِقُرۡءَانٍ غَيۡرِ هَٰذَآ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ قُلۡ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَآيِٕ نَفۡسِيٓۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۖ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ﴾ [يونس :15]
وإذا تُتلَى على المُشركينَ آياتُ القُرآنِ الكريمِ الواضِحاتُ، الدالَّةُ على التوحيدِ وبُطلانِ الشِّرك، قالَ هؤلاءِ الذينَ لا يؤمِنونَ بيَومِ القِيامة، ولا يَخافُونَ الحِساب: ائتِ بكِتابٍ غيرِ القُرآنِ لا يَكونُ فيهِ ذَمٌّ لآلِهتِنا، ولا ذِكرٌ ليَومِ البَعث، أو بَدِّلِ الآياتِ التي تحتوي على ذلكَ بغيرِها.
قُلْ لهمْ أيُّها الرَّسول: ليسَ هذا الأمرُ إليّ، ولا يَصِحُّ لي تَبديلُهُ مِنْ عِندي، إنَّما أنا عَبدٌ مَأمور، ورسُولٌ مُبَلِّغٌ عنِ الله، ما أتَّبِعُ إلاّ ما يُوحَى إليَّ فيما آمرُكمْ بهِ وأنهاكمْ عنه، مِنْ غيرِ تَغييرٍ ولا تَبديل. إنِّي أخافُ إنْ بدَّلتُ كلماتِ الله، أو خالَفتُ أمرَه، عَذابًا كبيرًا هائلاً يومَ القيامة.
قالَ ابنُ الجوزيِّ في "النواسخ": هذا وأمثالُهُ في بَيانِ آثارِ المعاصي، وليسَ منْ ضَرورةٍ ما عُلِّقَ بشَرطٍ أنْ يَقع.
﴿قُل لَّوۡ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [يونس :16]
وقُلْ لهم: لو شَاءَ اللهُ ما أنزَلَ القُرآنَ عليّ، ولا قَرأتُهُ عليكم، ولا أعلَمَكُمْ بهِ بواسِطَتي، وقدْ قُمتُ بينَ ظَهْرانَيكمْ أربَعينَ عامًا قبلَ نُزولِهِ عليّ، ولم تُجَرِّبوا عليَّ كَذِبًا، ألا تُلاحِظونَ ذلكَ وتَتدبَّرونَه، لتَعلَموا أنَّهُ ليسَ منْ عندي، فأنا ما راجَعْتُ عالِمًا، ولا قرأتُ كِتابًا، ولا كتبتُ كلِمَة، وهذا كتابُ اللهِ البَليغُ المُعجِز، الذي احتوَى على ما لم تَعرِفوه، مِنْ أحكامٍ وتاريخٍ وقَصَصٍ وإخبارٍ بغَيبيّات...
﴿فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ افۡتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ الۡمُجۡرِمُونَ﴾ [يونس :17]
وليسَ هناكَ أظلَمُ ممَّنْ تَقَوَّلَ على اللهِ وزَعَمَ أنَّهُ أرسَلَهُ وهوَ ليسَ برسُول، أو أشركَ بهِ سُبحانَهُ وقالَ إنَّ لهُ وَلَدًا، أو كذَّبَ بآياتِهِ ومُعجِزاتِهِ الواضِحات، وما أنزَلَ مِنْ كِتابٍ وبَعثَ مِنْ رسُول. ولا يُفلِحُ الكافِرونَ المُفتَرونَ أبَدًا، وسيَظهرُ كَذِبُهمْ وباطِلُهمْ في الدُّنيا، ويُعَذَّبونَ عليهِ يومَ القِيامة.
﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَـٰٓؤُلَآءِ شُفَعَـٰٓؤُنَا عِندَ اللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّـُٔونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي الۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾ [يونس :18]
وهؤلاءِ المشرِكونَ يَعبدونَ أحجَارًا صَنعوها بأيدِيهم، وهيَ غيرُ قادرةٍ على ضُرِّهمْ ولا على نَفعِهم، فهي جَماداتٌ لا تَفهَمُ ما يُفعَلُ بها، إنْ عُبِدَتْ أو أُهِينَتْ وكُسِرَت، وهيَ لا تَقدِرُ على أنْ تُثيبَ أحدًا ولا أنْ تُعاقِبَه.
ويَقولون: إنَّ هذهِ الأصنامَ تنفَعُهم، بأنَّها تَشفَعُ لهمْ عندَ الله لإصلاحِ مَعاشِهم، أو أنَّها ستَشفَعُ لهمْ يومَ القيامة.
قُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: أتُخبِرونَ اللهَ بأنَّ لهُ شَريكًا، وأنَّ لهُ شَفيعًا بغَيرِ إذنه، وهوَ لا يَعلَمُ لنفسِهِ شَريكًا في السَّماواتِ ولا في الأرض؟ تنَزَّهَ اللهُ وتَقدَّسَ عنْ إشراكِهمْ وأقوالِهمُ الباطِلة، ومَزاعِمِهمُ الفاسِدة.
﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّآ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَاخۡتَلَفُواْۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡ فِيمَا فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ﴾ [يونس :19]
وكانَ الناسُ مُتَّفقينَ على عَقيدَةٍ واحِدة، هيَ عقيدةُ الإسلام، ثمَّ أشرَكَ بعضُهمْ وشَقُّوا عصَا الجَماعة، فصارَ هناكَ مُسلِمونَ وكُفّار، واختَلَفوا، ولولا ما سَبقَ أنْ قضَى بهِ الله، وهوَ تأخيرُ الفَصلِ بينَهمْ إلى يَومِ القِيامة، لحسَمَ الخِلافَ بينَهمْ في الدُّنيا، بأنْ يُنزِلَ عليهمْ آياتٍ مُلجِئةً إلى اتِّباعِ الحَقِّ ورفعِ الاختِلاف، أو بأنْ يُهلِكَ المُبطِلَ ويُبقيَ المُحِقّ.
﴿وَيَقُولُونَ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦۖ فَقُلۡ إِنَّمَا الۡغَيۡبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الۡمُنتَظِرِينَ﴾ [يونس :20]
ويَقولُ هؤلاءِ الكافِرونَ المُعانِدون: إنْ كانَ محمَّدٌ نبيًّا حقًّا، فليُقْرِنْ نبوَّتَهُ بمُعجِزة، كعصَا موسَى، أو يُحِلْ جبلَ الصَّفا إلى ذَهَب، أو يَجعَلْ بدلَ جِبالِ مكَّةَ بساتينَ وأنهارًا. قالُوا ذلكَ تَعنُّتًا لا طَلبًا للإيمان، فقدْ سَبقَتْ لهُ مُعجِزاتٌ صلى الله عليه وسلم.
فقُلْ لهمْ أيُّها النبيّ: الأمرُ كلُّهُ لله، وهوَ يَعلمُ عاقِبةَ الأمور، فانتَظِروا حُكمَ اللهِ فيَّ وفِيكم.
وما كانوا لِيؤمِنوا آنَذاكَ حتَّى لو أُجِيبُوا إلى طلَبِهم، ولو لم يُؤمِنوا لأهلَكَهمُ الله، ولكنْ لَطَفَ بهمْ وأمهَلَهمْ حتّى دخَلوا في الإسْلام.
﴿وَإِذَآ أَذَقۡنَا النَّاسَ رَحۡمَةٗ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرٞ فِيٓ ءَايَاتِنَاۚ قُلِ اللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ﴾ [يونس :21]
وإذا أنعَمنا على الإنسانِ بالرَّخاءِ والسَّعَةِ بعدَ أنْ أصابَهمُ القَحْطُ والشدَّة، إذا بهمْ يُكَذِّبون بفَضلِنا وإنعامِنا، ويُسنِدونَ ذلكَ إلى العَادةِ والطَّبيعة. قُلْ لهمْ أيُّها الرسُول: إنَّ اللهَ أسرَعُ عقوبَةً وإلحاقًا للضَّرَرِ بكم، ولكنَّهُ يُمهِلُكمْ ويَستَدرِجُكمْ حتَّى يأخُذَكمْ بعذابٍ وأنتُمْ لا تَشعُرون. وإنَّ ملائكتَنا الموَكَّلينَ بإحصاءِ أعمَالِ بَني آدم، يُثبِتونَ عليكمْ كلَّ ما قُلتُمْ وفَعلتُم، ومِنْ ذلكَ كيدُكم(54) ، الذي سيَكونُ وبالاً عليكم، وعَذابًا يُحيطُ بِكمْ يَومَ القِيامة.
(54) ذكرَ صاحبُ (التحرير والتنوير) عند تفسيرِ الآيةِ (42) من سورةِ الطور، أن الكيدَ والمكرَ متقاربان، وكلاهما إظهارُ إخفاءِ الضرِّ بوجوهِ الإِخفاء، تغريراً بالمقصودِ له الضرُّ.
﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي الۡبَرِّ وَالۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي الۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ الۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـٰكِرِينَ﴾ [يونس :22]
هوَ اللهُ الذي يُمَكِّنُكمْ منَ السَّير في البَرِّ والبَحرِ بما مَهَّدَهُ وسَخَّرَهُ لكم، حتَّى إذا رَكِبوا السُّفُن، ودفَعَتهمُ الريحُ بسُرعةٍ مُناسِبةٍ تُعجِبُهم، وفَرِحوا بذلكَ واطمأنُّوا، هَبَّتْ عليها رِيحٌ شَديدة، وعلا بهمُ المَوجُ وارتفَعَ مِنْ كلِّ طرَف، وأيقَنوا أنَّ الهَلاكَ قدْ أحاطَ بهمْ وقَرُبَ غَرَقُهم، أخلَصوا الدَّعاءَ للهِ وحدَه، ولم يُشرِكوا معَهُ في دُعائهمْ أحدًا، لا صَنمًا ولا وثَنًا، قائلين: يا رَبّ، لئنْ خلَّصتَنا منْ هذا الكَرْب، وأنقَذْتَنا مِنَ الغرَق، لنَكوننَّ منَ الشَّاكرينَ لكَ بالإيمانِ والطَّاعة، ولنْ نُشرِكَ بكَ شَيئاً.
﴿فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي الۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ الۡحَقِّۗ يَـٰٓأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [يونس :23]
فلمّا أنجاهُمْ منْ ذلكَ الكَرْبِ والشدَّة، إذا همْ يَرتَدُّونَ إلى جاهليَّتِهم، فيَظلِمونَ النَّاس، ويُفسِدونَ في الأرْضِ علانيَة، لا يَخافونَ رَبًّا ولا يَخشَونَ عَذابًا. يا أيُّها النَّاس، اعقِلوا واحذَروا، فإنَّ هذا الظُّلمَ الذي تُمارِسونَه، والفسادَ الذي تَنشُرونَه، والدِّماءَ التي تَسفِكونَها، والإعلامَ المُضَلِّلَ الذي تَبثُّونَه، إنَّما هوَ جِنايةٌ على أنفسِكم، فوَبالُهُ يَعودُ عليكم، وعاقِبتُهُ تَرجِعُ عليكم، ولا تَضرُّونَ اللهَ بهِ شَيئاً، وما أنتُمْ فيهِ مَتاعٌ قَليل، ولذَّةٌ فانِية، وحيَاةٌ قَصيرة، ثمَّ تَعودونَ إلينا يومَ الحِساب، فنُخبِرُكمْ بجميعِ ما كسَبتُموه، ونُحاسِبُكمْ عليهِ ونُوفِيكمْ حَقَّه، فانتَظِروا ذلكَ اليَوم.
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الۡحَيَوٰةِ الدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ الۡأَرۡضِ مِمَّا يَأۡكُلُ النَّاسُ وَالۡأَنۡعَٰمُ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ الۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَازَّيَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَآ أَنَّهُمۡ قَٰدِرُونَ عَلَيۡهَآ أَتَىٰهَآ أَمۡرُنَا لَيۡلًا أَوۡ نَهَارٗا فَجَعَلۡنَٰهَا حَصِيدٗا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِالۡأَمۡسِۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس :24]
إنَّما مثَلُ هذهِ الحياةِ الدُّنيا في زينَتِها ونَعيمِها، واغترارِ النَّاسِ بها، وسُرعةِ انقِضائها وفَنائها، كمَطَرٍ أنزلناهُ على الأرْض، فرَوَّى نباتَها وشجَرَها، فكَثُرَ بهِ الزَّرعُ والثَّمَر، ممّا يأكلُهُ الناسُ مِنَ الحُبوبِ والثِّمار، وما تأكلُهُ الدَّوابُّ مِنَ الحَشيشِ والمَراعي، حتَّى إذا أكملتِ الأرضُ حُسنَها وبَهجَتَها، وتَزيَّنتْ وتَنضَّرت، واكتَسَتْ بالخُضرَةِ والجَمال، وظنَّ أصحابُها الذينَ زرَعوها وغَرَسُوها أنَّهمْ مُتمَكِّنونَ مِنْ حَصادِها وقَطفِ ثِمارِها، جاءَها أمرُنا بإهلاكِها، بغَرْقِ زَرعِها، وإتلافِ ثمارِها، في لَيلٍ أو في نَهار، زمنَ غَفلَتِهمْ أو عندَ يَقْظَتِهم، وجعَلناها يَبابًا كأنَّها محصودَةٌ منْ أصلِها، وكأنَّها لم تَكنْ خضراءَ غنَّاءَ بالأمسِ القَريب.
وبمثلِ هذا نُبيِّنُ الأدلَّة، ونذكُرُ الأمثِلَة، لقَومٍ يَعقِلونَ فيَتفكَّرون، ويَتدبَّرونَ فيَعتَبِرون. فاغتِرارُ النَّاسِ بالدُّنيا كَثير، معَ أنَّ زَوالَها سَريع، والعِبرةُ بما يَبقَى لا بما يَفنَى، والحَسرَةُ لا تَنفَعُ يومَ الدِّين.